أدب

قراءة نقدية في رواية عبد الهادي والي (أزمنة ضائعة)

أ. د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي
يجمع المختصون على القول بصعوبة الاتفاق على حد جامع مانع لمفهوم السيرة الذاتية , نظرا لعدم القدرة على التمييز العلمي بين مصطلحات متعددة يقال عنها أنها تنتمي إلى عائلة واحدة, هي السيرة, أو أنها أجناس أدبية صغرى متفرعة من جنس أدبي كبير هو السيرة, مثل التجربة الذاتية أو الترجمة, والسيرة الذاتية , والذكريات, والمذكرات, واليوميات, والاعترافات, وغيرها الكثير من المصطلحات التي تشترك بكونها سردا لحياة شخص يرويها هو بنفسه- وربما يتبرع له آخر بروايتها نيابة عنه كما في السيرة الغيرية- معتمدا على ذاكرته في استرجاع أحداث وموضوعات ماضية, وعلى الرغم من جهود النقاد والعلماء للفصل بين هذه المصطلحات فصلا علميا دقيقا, إلا أننا ما زلنا بإزاء غموض والتباس في تحديد ملامح المصطلحات أنفة الذكر, هذا ما اخبرنا به الصديق عبد الكريم السعيدي, ومما زاد الأمر تعقيدا مسالة التداخل الاجناسي التي هي من صميم النقد الأدبي الحديث, وفي رواية (أزمنة ضائعة) نجد أنفسنا أمام مدة زمنية قصيرة, وحدث مختزل جدا إلى أقصى حد, والذي يكون منطلق لمجموعة من التداعيات, والذكريات المتعلقة بحياة البطل لمدة قليلة، وكذلك علاقاته الأسرية, والاجتماعية, والنفسية, وكذا موقفه من الحياة, والناس والسلطة، غير أن هذه المدة الزمنية القصيرة تطرح هي الأخرى بدورها زمنا أطول على مستوى الخطاب الروائي الذي يخضع لمجموع النصوص, والأحداث الجزئية المكونة للرواية ككـل، بحيـث يبـدو لنـا البناء الزمني للرواية السيرة الذاتية عنصرا معقدا,و شريانا حقيقيا من شرايينها.


استطاع الروائي (عبد الهادي والي) سرد الأحداث الماضية بصورة شعرية ,وشاعرية, وأعطنا صورا فوتوغرافية بأسلوبه المتميز على الكتابة ,والسرد, يقترب حامد من طيفه الهارب, يسرح كثيرا, هي هناك في ذلك المكان الذي طالما حلم ان يلجه, ليقتطف هناءة سويعات تبرق كالومضات دون ان ينعم معها بحلم سعيد متواصل عيناها الجميلتان تزرعان في مخليته حقولا زاهرة بأمنيات عذبة مسترسلة في أوقاتها التي لها طعم الشهد , تمتلك الكتابة السيرية سحرا خاصا يجعلها تنفرد بين أنواع السرود الأخرى بامتلاكها خاصيتي الذاتي ,والموضوعي بكفين متوازتين, الذاتي حين تتطابق هوية الكاتب مع السارد, والموضوعي حين تفترق أنا الكاتب, وتحتجب خلفه الشخصية وتستتر بظلها لتبرز هوية السارد واضحة الشخصية, والهوية الأولى الذاتية هي التي تميز السيرة الذاتية والسير بنحو عام , والمذكرات, عن الرواية طبقا لتقسيم تودوروف وتصنيفه ,ورواية السيرة الذاتية فن أدبي يتكفّل فيه الراوي برواية أحداث حياته، ويجري التركيز فيها على المجال الذي تتميّز فيه شخصيته الحيوية، كأن يكون المجال الفني ,أو الاجتماعي, أو السياسي, أو العسكري ,كلّما كان ذلك ضرورياً وممكناً، ويسعى في ذلك لانتخاب حلقات معيّنة مركّزة من سيرة هذه الحياة، وحشدها بأسلوبية خاصّة تضمن له صناعة نص سردي متكامل ذي مضمون مقنع ومثير ومسلٍّ، ويحاول الراوي الإفادة من كلّ الآليات السردية لتطوير نصّه, ودعمه ما أمكن بأفضل الشروط الفنيّة، على ألاَّ تخلّ بالطابع العام حتى لا يخرج النص إلى فن سردي آخر، ولا يُشْتَرَطُ على الراوي الاعتماد على الضمير الأوّل المتكلّم، بل قد يتقنّع بضمائر أخرى تخفّف من حدّة الضمير المتكلّم وانحيازه، بشرط أن يعرف المتلقي ذلك لكي لا تتحوّل إلى سيرة غيريّة، بحيث يظلّ الميثاق التعاقدي بين الروائي, والمتلقي قائماً, وواضحاً، كما ترتكز رواية السير الذاتي عند (عبد الهادي والي) على آلية السرد ألاسترجاعي التي تقوم بتفعيل عمل الذاكرة, وشحنها بطاقةِ استنهاض حرّة, وساخنة للعمل في حقل السيرة الذاتية, وفي رواية (أزمنة ضائعة) قد تجسدت بشكل كلي هذه الآليات, يستعرض حامد تلك الحقبات الماضية يرفل بنعاسات شاقة من جدران معتقل كان زاخرا بالصراخ والتأوهات التي لا تجد لها منفذا لتخترق الجدران الموصدة لتطرق الإسماع اللاهية المنجرفة وسط أمواج متلاطمة النسيان واللا مبالاة, ونلحظ ثمة اقترابا في نص ما بعد الحداثة من نمط الكتابة السيرية, تجانسا مع الألفة الاجناسية المتحققة فيه, التي تندغم فيها الكثير من الخطوط النوعية إلى الحد الذي صارت فيه قضية نقاء النوع أسطورة كلاسيكية بالية أو قناعا متهرئا لا يصلح نقابا للنصوص الحداثية المشعة ببريق الحداثة المتنوع, والمضاد لكل مألوف ومسكون, وتتجلى عند الكتًاب المتنوعي الإبداع الذين تتخلق إبداعاتهم في دوائر فنية مختلفة كالشعر والرواية, والرسم, والترجمة, والكتابة السيرية,إشكالية الألفة الاجناسية فهي قائمة لديهم طريقة لافتة للنظر, وبذلك نلمح تشاكلا غريبا في القوانين التي تحكم أساليب الفن لديهم وتؤلف بينها, كما تتهجن أساليب الحياة خالقة مسارها العجيب الواحد المتنوع, و(عبد الهادي والي), هو واحد من الذين فاضت كتاباتهم بتلك الألفة , ونزفت شرايين إبداعه بدماء ذات ألوان متباينة تمتزج, كما تمتزج خطوط اللوحة ألوانها, وهو حين يكتب سيرته كثيرا ما يشير إلى أن أوراقا كثيرة قد نفذت منها إلى كتبه الأخرى ,بينما تقوم السيرة على شخصية أحادية، تختزل الثلاثة في واحد، وتستوعب الفنون والعلوم في قالب واحد يصوغها الروائي بالخيال الممزوج بالحقائق هو السيرة الذاتية , وكيف وظفها الروائي في روايته, اقتادت القبضات المتشددة (حامد) من وسط طريق يعج بالضجيج, كانت عيناه معصوبتين وقد ارتمى جسده مقذوفا ككومة من قمامة ليرتطم رأسه بشيء صلب داخل السيارة المنطلقة به مع حشد أخر إلى المجهول,ونصوص الحياة لا تماثل نصوص الكتابة, وتأبى أن تنخرط ضمن تراتبية المقولات الاجناسية, ولابد لها من الدخول في عمليتي التقطيع,والمونتاج الفنيتين ليعيد الفن أنتاج الحياة ,فينفلت النص عن عالم الكاتب, ومهما كان نص التأليف غرائبيا فنجد ثمة مسافة, تقترب أو تبتعد من الحياة, تفصل بين نص المؤلف ونص الحياة, ليضع المؤلف حدا فاصلا بين ما يروي وما حدث, بين من يروي عنهم وبين ذواتهم, ويتخفى الراوي وراء صنوف الحكايات والأخبار المتنوعة, تظل المرأة الأرملة لصيقة تفكير حامد وخياله , لا تبرح ذاكرته لم تعد الأقاويل والزاجرات التي يتعرض لها من المقربين لتثنيه عما خطط له ورسمه في مخيلته.


والزمن الذي يبقى عند طرفي الرواية السيرة الذاتية, البداية والنهاية, و بما أن الرواية ليست حدثا يسير أفقيا فإنه من الصعب بما كان تحديد زمنها الخارجي, ومع ذلك فإننا نعتمد في تحديد هذا الزمن على مجموعة من القرائن التي تدل عليه ، كون الحدث الأول ، متى وقع ذلك في الليل, أم في النهار, فهذا المقطع يدلنا على أن الزمن هنا يتعلق بمدة معينة، لذا فإن الزمن الخارجي للرواية السيرة الذاتية يقوم على مدة محددة, وقصيرة, ويكون بذلك الزمن الإطار الخارجي لكامل أحداث الرواية السيرة الذاتية وهو زمن الحاضر, ونجد ذلك قد تجسد عند الراوي, وهو يتحدث عن شخصيته الرئيسة (حامد), في غياهب تلك الظلمة كان حامد يقتات على الكثير من تلك الاستنكارات المؤلمة والانثيالات المفرجة القليلة في حياته يبصر بقربه الوجوه وقد علتها صفرة قاتلة نحلت الأجساد وتصاعدت الشكوى, وابتعد الأمل كسراب لا نهاية له ن نفوس ظامئة كانت تعيش القهر ومحنة الاعتقال والخوف المتواصل من معاملات قاسية يمارسها أزلام النظام والذين تم اختيارهم خصيصا لذلك المكان, وما تميز به الروائي (عبد الهادي والي) ثقافته الواسعة, وقدرته الفنية على سرد الأحداث, وإدخاله تقنيات حداثوية في الرواية مثل تعدد الأصوات , والمونتاج الفني السينمائي, والثنائيات, والمتناقضات, وسلطة المثقف المغمور, فضلا عن الحبكة المتماسكة والرائعة, والشخصيات المتنوعة, والذروة في الحدث, وأرخ لحقبة زمنية مهمة من تاريخ العراق المعاصر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى