ما كانت الحركة الإسلامية لتُقْدِم، لو كان في سائر الأحزاب حياة

المحامي جواد بولس | فلسطين

لم ينجح أقطاب القائمة المشتركة في تذليل الخلافات التي برزت مؤخرًا بينهم، خاصة تلك التي أثارتها مواقف وممارسات الحركة الاسلامية، التي اتخذها وعبّر عنها النائب منصور عباس، وألحقها موجزًا، قبل أيام، بمنشور ألصقه على صفحته، قال فيه بوضوح: “إنّ القائمة العربية الموحدة مستعدة لقبول الشرط الذي وضعه شركاؤها أن نتنياهو خط أحمر ولا يمكن التعامل معه..” واضعًا في نفس الوقت، مقابل هذا “التنازل” شرطين، بدون الاستجابة لهما لن تستمر القائمة بمركباتها الأربعة: تسمية المرشح لرئاسة الحكومة الذي ستدعمه المشتركة، خلاف نتنياهو، والتعهد بعدم التصويت الى جانب قوانين تخالف تقاليد مجتمعنا المحافظ !

لقد رافقت عملية تشكيل القائمة المشتركة عدة تصورات وتوقعات تنبأ بعضها منذ البدايات المبكرة بوصولها إلى طريق مسدود وعليه إلى تفككها الحتمي، إلا إذا اهتم مقيموها بتحييد تلك العوامل والعثرات التي كان وجودها واضحًا وتأثيرها السلبي مؤكدًا، خاصة وأن السحر المفترض في مقولة “الشعب يريد الوحدة” لم يشكل ضمانًا واقعيًا وحقيقيًا لاستمراريتها، وذلك لكونه وهمًا تجرّعه، منذ البداية، هذا الشعب بإرادة مغلوب على أمرها ونتيجة لشيوع حالة من البلبة الصارخة.

لا نعرف كيف ستنتهي تداعيات هذه الأزمة في الايام المقبلة، ولا كيف سيقرر مجلس شورى الحركة الاسلامية الذي ستوكل اليه مهمة اتخاذ القرار والاعلان عن الانفصال النهائي وخوض المعركة من خارج اطار معسكر الوحدة ، أو، رغم فشل المفاوضات الأخيرة، تكرار محاولة جسر الهوات وتذليل الصعوبات والعودة الى حضن المشتركة ؛ فهي، هكذا صرح جميع القادة حتى في آخر اللحظات، التعبير الأصدق عن إرادة الشعب!

وبعيدًا عما ستفرزه عمليات التفاوض من تحالفات وأطر سياسية ستخوض الانتخابات في آذار القادم، لا بد لنا اليوم، قبل الغد، من ادراك رزمة التعقيدات السياسية والاجتماعية التي عكستها هذه الازمة، والبدء، بالتالي، في تشخيص معالمها الحقيقية ومسبباتها التي كانت واضحة وأصبحت مستفزة وبارزة ؛ وذلك على أمل أن تكون بيننا “عناوين” معنية بالقيام بهذه المهمة وقادرة على التوصل الى خلاصات حاسمة، وفي طليعتها الاقرار بأن المشهد الذي نواجهه هو آخر البراهين على انتهاء حقبة سياسية اجتماعية بدأت بناها تتداعى أمام أعيننا منذ سنوات، حتى أفضت بعد مخاضات، كما نشاهد في هذه الأيام، الى تشكّل حالة سياسية اجتماعية جديدة مليئة بالتحديات وبالاسئلة الوجودية، لا سيّما حول هوية مجتمعنا السياسية المتغيّرة، وقيَمِه الاجتماعية المرغوبة والحقيقية، وركائزه الثقافية المتهالكة وتلك الجديدة والمتوالدة.

لا أقول ذلك عن حدس مجرد، أو نتيجة لتحليل أكاديمي مجازف؛ فمن يقرأ شرطي الحركة الإسلامية كما أعلنا للناس، يعرف أننا ازاء واقع سياسي جديد قررت فيه المرجعيات الدينية في الحركة الإسلامية تغيير أصول العمل السياسي التي كانت القوى السياسية الوطنية، على اختلاف مشاربها، منذ قيام الدولة، مجمعة عليها؛ وتبديلها بأنماط عمل تثير القلق وتستوجب المناقشة والمعارضة.

لقد طالبت الحركة الإسلامية، في اشتراطها الأول، سائر شركائها بضرورة إعلان أسماء رؤساء الأحزاب اليهودية التي سيكونون مستعدين للتعامل معهم كبديل عن نتنياهو؛ ولم يخفَ باعتقادي على أعضاء مجلس الشورى المعنى الحقيقي لهذا المطلب، وتسببه الفعلي بتقويض واحد من التابوهات وأركان الاشتباك السياسي المتبع منذ أجيال في نضالاتنا مع القائمين على رسم السياسات الاسرائيلية العنصرية بحقنا، نحن المواطنين العرب.

لقد كان بديهيًا ألا تتأثر مبدئيات وقواعد النضال الأساسية ضد سياسات القمع بشخص الحاكم أو بهوية حزبه، لانها كانت وما زالت، سياسات تبنتها ومارستها جميع تيارات الحركة الصهيونية سواء كانوا في الحكومة أو في المعارضة.

وإن كان ذلك المطلب تعجيزيًا، فاستعداد الحركة الإسلامية لاتّباع سياسة مقايضة المواقف بالمنافع، ومن موقع لا نحن مع اليمين ولا نحن مع اليسار، يعتبر انحرافًا سياسيًا لا قاع له؛ فحقوقنا الاساسية لن تعطى لنا كمنّة من سيّد، لضيوف على طاولته، وتحصيل الميزانيات التي نستحقها كمواطنين لن تكون مجرد مكرمات سلطانية.

قد يعتبر البعض هذا المطلب شرعيًا أو ذا اهمية هامشية، لكننا اذا تعمقنا بكنهه وبما يعكسه من مسلمات سياسية وشرعية سنجده مرتبطًا بموقف الحركات الاسلامية السياسية من مفهوم الدولة المدنية وعلاقتهم مع حاكمها، وتفسيرهم لمعنى المواطنة وحدودها، ومتعلقًا ايضًا بشروط المقاومة وقواعد التقية في ظروف الاستحالة، مقابل تأمين سلطة الشريعة ونفاذها كمحرك وحيد ومهيمن على علاقات وسلوكيات الافراد داخل المجتمع الضيق.

فعلى هذه الخلفية وبسببها سنجد أن الاشتراط الثاني الذي طالبت به الحركة الإسلامية شركاءها يقضي بضرورة إعلانهم وبشكل واضح أنهم لن يصوتوا إى جانب قوانين تخالف عقيدة مجتمعنا المحافظ؛ أي بضرورة تقديم ما يعتبرونه الثوابت العقائدية كما يعرفونها وإعلائها كمساطر ملزمة تحدد حقوق جميع أبناء المجتمع وواجباتهم، وترسم لهم مساحات المسموح والمحظور حتى لو أدت هذه الهيمنة إلى صراعات داخل المجتمع والى انقسامات عرفت مجتمعاتنا كيف تتجنبها طيلة عقود من العمل على بناء هويتها الجامعة.

لا أعرف اذا كان هناك من توقع أن تتصرف الحركة الاسلامية في إسرائيل بشكل مختلف عن تصرفاتها في كل المواقع والمجتمعات التي تنشط في داخلها؛ ولا اعرف اذا راهن قادة الاحزاب والحركات السياسية والمؤسسات المدنية الموجودة بيننا على امكانية اكتفاء وقناعة الحركة الاسلامية بما لديها من قوة ودعم بين الجماهير، وعلى قبولها بالا تسعى لإحكام سيطرتها على جميع مرافق المجتمع وإخضاع سلوك أفراده الى أحكام قوانينها؛ فلجميع هؤلاء تقول اليوم الحركة الاسلامية كلمتها الواضحة، وتعلن بأنها لن تتنازل عن أهدافها وبانها ستعمل لاتمام رسالتها كما تؤمن بها، خاصة بعد أن استوعبت ضعف غرمائها السياسيين واستشعرت عجزهم عن لملمة بقايا أنفاسهم.

انها بداية حقبة سياسية اجتماعية جديدة تدخلها الحركة الاسلامية وهي بكامل استعدادها وعتادها وتأهبها، ولها في الستر حلفاء، بينما تقف ازاءها سائر الاحزاب والحركات السياسية وهي ضعيفة وغير مستعدة للمواجهة، لا بأجسادها المتهالكة ولا بامكانياتها المتواضعه ولا بطروحاتها المتآكله والبعيدة عن المستجدات التي طرأت على اسرائيل وعلى مواطنيها اليهود والعرب على حد سواء.

كم كتبتُ عن ازمة الهوية التي تعصف بلحمة ابناء مجتمعنا وتساءلتُ من يصنع في مواقعنا هويات الاجيال الشابة؟ غضب من غضب من القادة المتنفذين وبقيتْ الحقيقة عارية في عظام ما قلته قبل سنوات واصررت على “أن ما كان مسلّمًا به قد تصدّع، فاليوم قد تراجع “الفلسطيني” عن مكانته، كمركب محسوم بارز في هويتنا الباهتة، أمام الإسلامي الداهم الطاغي، وأمام الإسرائيلي الملتبس المدفوع بكل خبائثه بيننا”؛ ومن سيمعن بالتمحيص في واقعنا سيجد، كما قلت: “إن أقوى عاملين يؤثران في تكوين هوية أفراد مجتمعاتنا هما: الحركات الإسلامية على تفرعاتها وتشكيلاتها المعلنة والسرية ووعاظها المتزمتين والعصريين من جهة، والمفاعيل الإسرائيلية الموجَّهة علينا ومن بيننا، المباشرة منها والمخفية، من جهة اخرى”. ومرت السنوات وكبرت الحقيقة حتى صارت ماردًا لا يهادن ولا يساوم ولا يصالح…

ما يجري هو بمثابة الصفعة الاخيرة أو قل نداء الليل الأخير؛ فلقد كشفت هذه المواجهة مع الحركة الاسلامية وما سبقها من تهجمات على مركبات القائمة المشتركة، بعض معالم الواقع وتفاعلاته الحقيقية؛ وكشفت أيضًا بشكل سافر ومؤلم حقيقة انحسار قوة الاحزاب والحركات السياسية التقليدية، وأكدت على عدم وجود قيادة علمانية وطنية حاسمة وقادرة على استباق ومنع حدوث الازمات، ومواجهتها، بحكمة وبصلابة، اذا وقعت؛ وعرّت أيضًا كذبة وجود مجتمع مدني أصيل تؤدي مؤسساته دورها في ساعات المحنة وتذود عن حقوق المواطنين وتحمي، بقوة وبتفانٍ، حيّزاتهم وحرياتهم الاساسية؛ وكشفت، مرة اخرى، عن ضعف لجنة المتابعة واللجنة القطرية للرؤساء، اللتين خسرتا كثيرًا من رصيديهما ومكانتيهما الأصليتين.

سيدّعي البعض ان نتنياهو نجح بتفتيت القائمة المشتركة وذلك بعد نجاحه بتفسيخ معظم معسكرات أعدائه؛ لكنه لم يكن لينجح لولا استقرائه لجميع بواطن الضعف المستشرية بيننا ؛ وسيدّعي اخرون أن الحركة الاسلامية هي من فكك المشتركة وضرب وحدتها؛ لكنني اجزم، وفي بعض الادّعاء صحة، انهم ما كانوا لينجحوا لو وقف أمامهم خصم يحسب له الحساب، ولو لم تكتس المنابت، خلال السنين الماضية، في الشوارع وفي الحارات، بالأخضر، بعد أن بهتت سائر ألوان قوس قزح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى