إلّا جمّاع يا قائد!

زياد مبارك | كاتب سوداني
ما زلت أقول وأكرر أن الناقد المدفوع بسوء النية هو العقبة الكأداء في طريق هذا العالم!. لكن هناك نقاد من نوع آخر يدفعهم الشغف بالتفاعل الرقمي للخروج بتغريدات هلامية على أنها آراء نقدية. وهؤلاء على رأسهم د. قائد غيلان وهو بجانب تخصصه كناقد في الأدب الحديث والمعاصر يعمل في مجال جمع اللايكات واللوڤات والواوات من رصيف فيس بوك.
وطبعا ما زلت أقول أن أروقة الجامعات لا تخرج لنا نقاد وشعراء وكتاب. هي ليست ماكينات إنتاجية ندخل فيها (قائد) ليخرج لنا (ناقد). هي تمنح شهادات عليها درجة علمية لكل من يحفظ المواد ويفرغها في الورق ولا يمنح معها أي حسّ تذوقي، نقدي، شعري، كتابي..
صفحة د. قائد صالحة لمهاراته الأخرى – التي أتابعه لأجلها – مثل نشر صور الصبايا والغزل والفرقعات والنكات التي يبرع فيها أكثر من النقد. مما دفع دكتور يمني آخر (لا داعي لذكر اسمه لكنه مشهور وواعي و رصين) لوصفه بالمراهق!. (ما دخلنا هم دكاترة يفهموا بعض). لكن أن ينشر قائد هذه التغريدة عن إدريس محمد جماع ليمارس هوايته:
(ومن عجائب الأمور أن هناك من يعتقد أن هذا شعر، والأعجب من يعتبره من أجمل ما قالت العرب:
“إن حظي كدقيقٍ فوق شوكٍ نثروه
ثم قالوا لحفاةٍ يوم ريحٍ اجمعوه” ..).
فهنا، نقول له أنت ناقد ودكتور، وقاص وأستاذ جامعي كما تقول في صفحتك.. ولكنك أبدا لا تعرف الشعر، أعلم أنها فرقعة لزيادة تفاعلية الصفحة، وأعلم أن هذه عقلية الموديل الثقافي لا الأستاذ الملتزم بالعلمية، وأعلم كما يعلم قائد أن البحوث عن شعر جماع التي صرفت بموجبها شهادات الدكتوراه لأمثاله من خريجي الآداب ليس قليلة العدد.
ولكن لا بأس،
قال “من عجائب الأمور أن هناك من يعتقد أن هذا شعر“.
فعقّب أحد طلابه، ربما، وإن كان فهو أذكى من أستاذه،
قال:
(إن حظي كدقيق.. الخ ليست لإدريس جماع هي للشاعر المصري عبد الحميد الديب وموجودة في ديوانه).
فردّ الدكتور الألمعي:
(حتى وإن كانت متنازع عليها، فهي ليست بتلك التحفة الأدبية التي تستحق القتال).
لن أرد على كلام الدكتور الأول، ولا الثاني، لأنه لا يتصل بالموضوعية ولا وزن له. ما يستحق الرد عليه هو تعليق طالبه ، أو متابعه. وعلى د. قائد أن يتتلمذ على يديه ويتعلم منه قليلا لأنه أشطر منه.
ديوان الديب هذه عبارة عريضة لأن الديب ليس لديه ديوان بل هناك من جمع أشعار الديب وصنفها في كتاب عنوانه (ديوان شاعر البؤس عبد الحميد الديب: حياته وشعره وقصائده المجهولة). ومن قام بهذا العمل هو الصحفي محمد رضوان. وأثبت الأبيات في الكتاب المذكور (بالصفحات ٥٨، ٦٨، ٤٠٦ – ط دار القبس). وباختصار، فالرجل حاطب ليل في هذه ولم يتحقق جيدا قبل ضم هذه الأبيات لديوان الديب، وهذا خطأ لا يعنينا إصلاحه لأنه لا يخصنا، والأهم لأن نسبة الأبيات غير مختلف فيها وسبقت شهرتها واسم شاعرها ولا يجادل في ذلك إلا متابع للذين يعلقون الشهادات في صدورهم ولا يحسنون النقد ولا التحقيق.
متابع، أو طالب آخر قال أن هذه الأبيات لم ترد في ديوان إدريس جماع (لحظات باقية)، وهذه أيضا ملاحظة جيدة وعلى قائد أن يفكر مليا في متابعة قائلها ليبدأ في تعلّم شيء من النقد عنده. ولو أنها ملاحظة خاطئة وتدل على عدم قراءة صاحبها للديوان الذي (تبجح متثاقفا بذكره) لأن جماع نفسه ذكر أن ديوانه المذكور، والوحيد، لم يجمع فيه كل قصائده.
تداخل متابع آخر، طالب آخر، متشاعر هذه المرة فاحتفى به قائد وبشطره الذي تشاعر به معارضا بيت جماع، قال:
(حاولوا فما رضى فتشنجوا ونفخوهُ)!
لم أضحك على هذا الرصف، ولا على احتفاء قائد به. ما أضحكني أن قائدا أحالني إلى ركاكة متابعه عندما طالبته بمعارضة أبيات جماع. ما أضحكني أن هذا هو الشعر في نظر قائد!
وطبعا، ولأن د. قائد مغرم بجمع اللايكات والواوات.. الخ فقد أضاف منشورا تاليا لمنشوره الأول، وعن جماع أيضا. لأنه وجد أن الثيمة مرغوب فيها ونجحت في صنع التفاعل الذي يروق له، فكانت هذه التغريدة الجديدة لممارسة هوايته المحببة:
(الذين دافعوا عن إدريس جمّاع في المنشور السابق يستشهدون أيضا بهذا البيت:
السيفُ في الغِمد لاتُخشى مضاربُهُ
وسيفُ عينيك في الحالين بتارُ
وهو بيت عادي جدا، يشبّه فيه الشاعر النظرات بالسيوف، وهي صورة تكرّرت كثيرا في الشعر وغير الشعر. أي إن هذا البيت لا يصح الاستشهاد به على شاعرية الرجل، بل على تقليديته وعدم قدرته على الابتكار والتجديد ..).
لم أرد على قائد في التغريدة الأولى، أما هذه فتستحق الرد. ليس لأنها نقد فلا علاقة لها بالنقد ولا بالذوق السليم ولا بأي كان مما هو أدبي.

• • •

أترك الرد للشاعر منير صالح عبد القادر، الذي أجزم أن قائدا لم يسمع به من قبل. قدّم منير – رحمه الله – ديوان لحظات باقية (الذي أجزم ان قائدا لم يطلع عليه) بمقدمة نثرية، آيات في الوفاء لصاحبه. وأتبعها بقصيدة رثاه بها، قال ضمن أبياتها يخاطب روح جماع:
”الحاقدون كما علمت أصاغر يتكالبون على قشور قشور
جمّاع نحن الصادقون وإنّنا نذوي ونفنى في أناة صبور
لا نحسن التمويه تلك طبيعة فينا ونضرب هامة المغرور“.
ومن مقدمته النثرية، قال منير خير ما يمكن ان يوصف به إدريس جماع: (إن أشياخك الأُول تلقيت عنهم فلسفة الحلم واليقظة، وتلقيت عنهم واقع الوجود واللاوجود، أخذنا عنهم بقدر معلوم ولكنك رشفت الكأس حتى الثمالة. فاختلطت المرئيات في ناظريك. فأصبح الوجود كالعدم واليقين كالشك. والضحك كالبكاء والمرة كالاكتئاب والحلم كاليقظة، وحينذاك التعقل كالجنون وتصير الأشياء المتجانسة غير متجانسة).
ولو سألنا قائدا من هم أشياخ جماع الذين ذكرهم صديقه منير الذي لا يعرفه قائد لما عرف من هم. وربما يحيلنا إلى متابعه المتشاعر كما فعل سابقا!.. ولكن لا يجوز أن نسأل الدكتور عمّا لا يعلمه لأنه عندما وقع على أبيات جماع فلم ينتق ويتخيّر من ديوانه (الذي لا يعرفه) واقتبس الأبيات السائرة المشهورة التي يعرفها كل عامي ولم يبد في اقتباسه أي أثر لخبرة الناقد الأكاديمي، هذه الأبيات حامت في فيس بوك حتى حفظها من لا يهتمون بالشعر حتى. أما أشياخ جماع فهم ملوك العبدلاب مؤسسي أول مملكة إسلامية في السودان (مملكة سنار، السلطنة الزرقاء)، وجماع هو سليل هؤلاء المؤسسين وولد وتوفي في مدينة حلفايا الملوك التي نزحوا إليها بعد زوال ملكهم. وجماع نشأ في هذه المدينة في بيت “المانجلك” شيخ هذه القبيلة بعد زوال ألقابها. ولندع الدكتور يسأل عن المانجلك الذي من المؤكد أنه لم يسمع به من قبل.

• • •

ما دفعني للرد على د. قائد أنه لم يكتف بنضح رؤيته وينتهي الأمر على ذلك. لكنت قرأت ونسيت الأمر وجمع هو لايكاته التي تعب وسهر واجتهد ليحصل على شهادة توفرها له في فيس بوك، عندما يطرح آراء خنفشارية تشفع له في سبيلها شهادته. لكن حوّل ساحته لإطلاق النكات والقهقهة والضحك على الشاعر نفسه ونسفه جملة، لم يقتصر على أبيات هي لا تروق له كما ذكر. حتى لو كان رأيه في الشاعر شاذا فذلك رأيه وله مطلق الحرية. إنما طريقة التهريج وإن كانت تليق بمن يختارها فلا تليق بشاعر وطني وعروبي صاحب قضية ورائد من رواد مدرسة الحداثة كإدريس جماع.

• • •

قال جماع في مقدمة ديوانه: (هذه القصائد هي من نفسي ومطابقة لها. وهي ومضات في حياتي بين الحداثة والكهولة أردت لها ان تكون لحظات خالدة). وبما أن د. قائد يغرد هرطقته الأدبية عن هذه القصائد فهي بلا شك خالدة وصالحة لجمع اللايكات!
”خالد الشعر ما توثق بالنفس ومدّ الجذور في الأعماق
وهو ابن الحياة والحسّ لم يمنح خلودا لصنعة وطباق“
إدريس جماع

• • •

وسوف أسدي لقائد معروفا وأضع بجانب صورته غلاف ديوان إدريس جماع ليعمل كعدسة مكبرة لشهادة الدكتوراه، وقد لا نراها رغم ذلك!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى