شاعر الغزل سحيم عبد بني الحسحاس
بقلم: محسن جهاد الماجدي
الشعر ديوان العرب وسجل مآثرهم، بل يكاد أن يكون تأريخهم الذي ينطق بما لديهم من أحداث, وأغراض الشعر المتعددة من مدح، وهجاء، وغزل بأنواعه، وغيرها وفي هذه المقالة سنكتب عن أحد أعظم شعراء الغزل، وهو الشاعر المغمور سحيم عبد بني الحسحاس, فكثير من مثقفي هذا العصر، ليس له اطلاع على هذه الشخصية المهمة في عالم الغزل.
سحيم عبد بني الحسحاس كان عبداً أسود نوبياً أعجمياً مطبوعاً في الشعر، فاشتراه بنو الحسحاس، وهم بطن من بني أسد، وهو الحسحاس بن نفاثة بن سعيد بن عمرو بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة. وسحيم كان ألثغا حيث إذا أنشد الشعر – استحسنه أم استحسنه غيره منه – يقول: أهشنت والله – يريد أحسنت والله – وأدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويقال: إنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم تمثل بكلمات من شعره غير موزونة: (كفى بالإسلام والشيب ناهيا) فقيل له يا رسول الله: (كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا) : إذ لم يقل النبي محمد صلى الله عليه وآله بيت شعر ونشهد أنه رسول الله إذ جاء في محكم كتابه العزيز (وما علَّمنا الشَّعر وما ينبغي له). وروي أن اسم عبد بني الحسحاس حية. وكان سحيم أسود الوجه وحلو الشعر رقيق الحواشي، وفي سواده يقول:
وما ضر أثوابي سوادي وإنـني
لكالمسك لا يسلو عن المسك ذائقة
كيست قميصاً ذا سواد وتـحـتـه
قميص من القوهي بيض بنائقـه
كان عبد بني الحسحاس قبيح الوجه، وفي قبحه يقول:
أتيت نساء الحارثيين غدوة
بوجه براه الله غير جميل
فشبهنني كلباً ولست بفوقه
ولا دونه إن كان غير قليل
ويروى: أن تحته قميص من الإحسان إذ: أنشد مصعب بن عبد الله الزبيري لعبد بني الحسحاس – وكان يستحسن هذا الشعر ويعجب به – قال:
أشعار عبد بني الحسحاس قمن
له عند الفخار مقام الأصل والورق
إن كنت عبداً فنفسي حرة كرمـاً
أو أسود اللون إني أبيض الخلق
وقيل إن أول ما تكلم به عبد بني الحسحاس من الشعر أنهم أرسلوه رائداً فجاء وهو يقول:
أنعت غيثاً حسناً نباته
كالحبشي حلوه بناته
فقالوا: شاعر والله،
ثم انطلق بالشعر بعد ذلك.
ومن ما ذكره المؤرخون بيت له يستحسنه عمر بن الخطاب قال: أنشد سحيم عمر بن الخطاب قوله:
عميرة ودع إن تهجـزت غـاديا كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
فقال عمر: لو قلت شعرك كله من هذا لأعطيتك عليه.
وكان سحيم يشبب بنساء مواليه فيما ذكر محمد بن سلام صاحب طبقات الشعراء، قال: أتي عثمان بن عفان بعبد بني الحسحاس ليشتريه فأعجب به فقالوا: إنه شاعر: وأرادوا أن يرغبوه فيه: فقال: لا حاجة لي به؛ إذ الشاعر لا حريم له، إن شبع تشبب بنساء أهله، وإن جاع هجاهم، فاشتراه غيره، فلما رحل قال في طريقه:
أشوقاً ولما تمض لي غـير لـيلة
فكيف إذا سار المطي بنا شهرا؟
وما كنت أخشى مالكاً أن يبيعنـي
بشيء ولو أمست أنامله صفـرا
أخوكم ومولى مالكم وحلـيفـكـم
ومن قد ثوى فيكم وعاشركم دهرا
فلما بلغهم شعره هذا رثوا له، فاستردوه.
فكان يشبب بنسائهم، حتى قال: ولقد تحدر من كريمة بعضكـم عرق على متن الفراش وطيب فقتلوه. ومن حديث سحيم عبد بني الحسحاس أنه جالس نسوة من بني صبير بن يربوع، وكان من شأنهم إذا جلسوا للتغزل أن يتعابثوا بشق الثياب وشدة المغالبة على إبداء المحاسن، فقال سحيم:
كأن الصبيريات يوم لـقـينـنـا ظباء
حنت أعناقها في المكانس
فكم قد شققنا مـن رداء مـنـير
ومن برقع عن طفلة غير ناعس
إذا شق برد شق بالبرد بـرقـع
على ذاك حتى كلنا غير لابـس
فيقال: إنه لما قال هذا الشعر أتهمه مولاه، فجلس له في مكان كان إذا رعى نام فيه، فلما اضطجع تنفس الصعداء، ثم قال:
يا ذكرة مالك في الحاضر
تذكرها وأنت في الصادر
من كل بيضاء لها كفـل
مثل سنام البكرة المـائر
قال: فظهر سيده من الموضع الذي كان فيه كامنا، وقال له: مالك؟ فلجلج في منطقه، فاستراب به، فأجمع على قتله، فلما ورد الماء خرجت إليه صاحبته، فحادثته، وأخبرته بما يراد به، فقام ينفض ثوبه ويعفى أثره، ويلقط رضاً من مسكها كان كسرها في لعبه معها، وأنشأ يقول:
أتكتم حييتم على النأي تكـتـمـا
تحية من أمسى بحبك مغرمـا
زما تكتـمـين إن أتـيت دنـية
ولا إن ركبنا يا بنة القوم محرما
ومثلك قد أبرزت من خدر أمها
إلى مجلس تجر برداً مسهمـاً
وقال أيضا:
وماشية مشى القطاة اتبعتـهـا
من الستر تخشى أهلها أن تكلما
فقالت: صه يا ويح غيرك إنني
سمعت حديثاً بينهم يقطر الدمـا
فنفضت ثوبيها ونظرت حولهـا
ولم أخس هذا الليل أن يتصرما
أعفى بآثار الثياب مـبـيتـهـا
وألقط رضا من وقوف تحطما
قال: وغدوا به ليقتلوه، فلما رأته ارمأة كانت بينها وبينه مودة ثم فسدت، ضحكت به شماتة فنظر إليها وقال:
فإن تضحكي مني فيا رب ليلة تركتك فيها كالقباء المفـرج
فلما قدم ليقتل قال:
شدوا وثاق العبد لا يفلـتـكـم
إن الحياة من الممات قـريب
فلقد تحدر من جبين فتـاتـكـم
عرق على متن الفراش وطيب
ووضع في أخدود وألقي فيه، وألقي عليه الحطب فأحرق.
ومن أجود ما قال:
عميرةَ ودِّعْ إن تجهَّزتَ غاديا
كفى الشَّيبُ والإسلامُ للمرء ناهيا
جنوناً بها فيما اعتشرْنا علاقـــةً
علاقةَ حـبٍّ مستسرّاً وباديا
لياليَ تصطادُ القلـوبَ بفاحــمٍ
تـراهُ أثيثـاً ناعمَ النَّبتِ عافيا
وجيدٍ كجيدِ الرِّئم ليسَ بعاطلٍ
من الدُّرِّ والياقوتِ والشَّذرِ حاليا
كأنّ الثُّريَّا علِّقتْ فوقَ نحرها
وجمرَ غضًى هبَّت لهُ الرِّيحُ ذاكيا
إذا اندفعتْ في ريطةٍ وخميصةٍ
ولاثتْ بأعلى الرأسِ برداً يمانيا
تريكَ غداةَ البينِ كفَّاً ومعصماً
ووجهاً كدينارِ الأعزَّةِ صافيا
وما بيضةٌ بــاتَ الظَّليمِ يحفُّها
ويـــرفعُ عنها جؤجؤاً متجافيـا
ويجعلها بينَ الجناحِ ودفِّــهِ
وتفرشها وحفاً مـن الزَّفِّ وافيا
ويرفعُ عنها وهيَ بيضاءُ طلَّةٌ
وقد واجهتْ قرناً من الشَّمسِ ضاحيا
بأحسنَ منها يومَ قالتْ أرائحٌ
مع الرَّكــبِ أم ثاوٍ لدينا لياليا
فإن تثوِ لا تملكْ وإنْ تضحِ غاديا
تزوَّدْ وترحل عن عميرةَ راضيا
ومن يكُ لا يبقى على النأيِ
ودُّهُ فقد زوَّدت ودَّاً عميرةُ باقيا
ألكني إليها عمركَ الله يا فـــتى
بآيةِ ما جاءتْ إلينا تهــاديا
تهاديَ سيلٍ في أباطحَ سهلةٍ
إذا ما علا صمداً تفرَّعَ واديا
وبتنا وسادانا إلـــى علجانـــةٍ
وحقفٍ تهاداهُ الرِّيــــاحُ تهاديـا
توسِّـــدني كفَّا وتثني بمعصمٍ
عليَّ وتحنو رجلها من ورائيا
ففاءتْ ولم تقضِ الذي أقبلتْ لهُ
ومن حاجةِ الإنسانِ ما ليس قاضيا
فما زالَ بردي طيِّبا من ثيابها
إلى الحولِ حتَّى أنهجَ البردُ باليا
أقلِّبها للجانبينِ وأتَّقي بها الرِّيحَ
والشَّـــفَّان من عن شماليا
وهبَّــــتْ لنا ريحُ الشَّمالِ بقرَّةٍ
ولا ثـــوبَ إلاّ درعها وردائيا
سقتني على لوحٍ من الماءِ شربةً
سقاها بها الله الذِّهابَ الغواديا
ألا أيُّها الوادي الذي ضمَّ
سيلهُ إلينا نوى الحسناءِ حيِّيتَ واديا
فيا ليتنا والعامريَّـــــةَ نلتقـي
نرودُ لأهلينا الرِّيـــاضَ الخواليا
وما برحـــــتْ بالدَّيرِ منها أثارةٌ
وبالجوِّ حتَّـــى دمَّنتـــهُ لياليـا
فإنْ تقبلي بالودِّ أقبل بمثلـــهِ
وإن تدبري أذهبْ إلى حالِ باليا
ألــــم تعلمي أنِّي قليلٌ لبانتي
إذا لــم يكنْ شيءٌ لشيءٍ مواقيــا
وما جئتها أبغي الشِّفاءَ بنظــــرةٍ
فأبصرتها إلاّ رجعـــتُ بدائيا
ولا طلعَ النَّجمُ الذي يهتدى بـه
ولا الصُّبحُ حتَّى هيَّجا ذكرَ ماليـا
إلاّ لسافي الرَّائحاتِ عشيةً
إلى الحشرِ أستنجي الحسانَ الغوانيا
أخذنَ على المقراةِ أو عن يمينها
إذا قلتُ قد ورَّعنَ أنزلنَ حاديا
أشـــــوقاً ولمَّا يمضِ في غيرِ ليلةٍ
رويدَ الهــوى حتَّى يغبَّ لياليا
وما جئنَ حتَّى حلَّ من شاءَ
وابتنى وقلنَ سرفناكمْ وكنَّ هواديا
وأقبلن من أقصى البيوتِ يعدننـي
ألا إنَّما بعضُ العوائــــدِ دائيا
تجمَّعنَ من شتَّى ثلاثـــــاً وأربعــــاً
وواحدةَ حتَّى كملنَ ثمانيــا
وقلنَ ألا يا العبنَ ما لـــم يرنْ بنــا
نعـــاسٌ فإنَّا قد أطلنا التَّنائيـــا
لعبنَ بدكداكٍ خصيبٍ جنابـــــهُ
وألقينَ عــــن أعطافهـــنَّ المراديا
وقلنَ لمثلِ الرِّيمِ أنــــتِ أحقُّنا
بنــــزعِ الخمارِ إذ أردنَ التَّجاليـــا
فقامـــتْ وألقتْ بالخمارِ مدلَّةً
تفادي القصارُ السُّودُ منها تفاديـا
تأطَّرنَ حتَّى قلتُ لسنَ بوارحاً
وخفَّضنَ جأشي ثـــمَّ أصبحَ ثاويـا
وما رمنَ حتَّى أرسلَ الحيُّ داعياً
وحتى بدا الصُّبحُ الذي كان تاليا
وحتى استبانَ الفجرُ أبيضَ ساطعاً
كــأنَّ على أعلاهُ ريطاً شآميـا
فأدبرنَ يخفضنَ الشُّخوصَ كأنَّمـــا
قتلنَ قتيلاً أو أتـــينَ دواهيــا
وأصبحنَ صرعى في البيوتِ كأنَّما
شربنَ مداما لا يجبنَ المناديا
ألا نادِ فــــــي آثارهنَّ الغوانــــيا
ســــقينَ سماماً ما لهنَّ وما ليـا
وراهنَّ ربِّي مثــــلَ ما قد ورَينني
وأحمى على أكبادهنَّ المكاويـا
وقائلةٍ والدَّمــعُ يحــــدرُ كحلها
أهذا الذي وجـــداً يبـــكِّي الغوانيـا
أشارتْ بمدراها وقالت لتربها
أعبد بني الحسحاسِ يزجي القوافيا
رأتْ قتباً رثَّاً وســحقَ عبــــاءةٍ
وأســـودَ مما يملكُ النَّـــاسُ عانيا
يرجِّلنَ أقوامــــــاً ويتركنَ لمَّتي
وذاكَ هــــوانٌ ظاهرٌ قـــد بدا ليا
فلو كنــــــتُ ورداً لونـــهُ لعشقنني
ولكنَّ ربّــــي شـــانني بسواديـا
وما ضرَّني إن كانتْ أمِّـــــي وليــدةً
تصرُّ وتبــــري للِّقــاحِ التَّواديا
ذهبنَ بمسواكي وألقينَ مذهباً
من الصَّوغِ في صغرى بنـانِ شماليا
فعزَّيتُ نفسي واجتنبتُ غوايتي
وقرَّبــــتُ حرْجوجاً من العيسِ ناجيـا
مروحاً إذا صام النهارُ كأنَّــــما
كســـوتُ قتودي ناصـــعَ اللَّونِ طاويــا
شبوباً تحامـــــاهُ الكلابُ تحامياً
هــــو اللَّيثُ معدوّاً عليـــــه وعـــــاديـا
حمتهُ العشاءَ ليــــــلةٌ ذاتُ قـــرَّةٍ
بوعساءَ رمـــلٍ أو بعرنـــانَ خاليـــا
يثيرُ ويبــــــدي عن عروقٍ كأنَّهـــا
إعنَّــــةُ خــــرَّازٍ جديـــدا وباليـــا
ينحِّــــي ترابـــا عـــن مبيتٍ ومكنسٍ
ركاماً كبيـــــتِ الصَّيدنـــاني دانيــا
فصبَّــــــحهُ الرَّامـي من الغوثِ غـدوةً
بأكلبهِ يغري الكلابَ الضَّـــواريا
فجــــالَ عـــــلى وحشـــيِّهِ وتخالــــهُ
علــى متنــــهِ ســـبَّاً جديـدا يمانيا
يذودُ ذيـــــــادَ الخامسـاتِ وقــــد
بدتْ ســـوابقها مــن الكلابِ غواشيا
فــدعْ ذا ولكن هـــــل تـرى ضوءَ
بارقٍ يضيءُ حبيَّــــاً منجداً متعاليا
يضيءُ سـناهُ الهضبَ هضــبَ متالعٍ
وحبَّ بذاكَ البرقِ لو كان دانيا
نعمــتُ بــــهِ بالا وأيقنــــتُ أنَّهُ
يحـطُّ الوعولَ والصُّـخورَ الرَّواسيا
فـــــما حرَّكتــــــهُ الرِّيحُ حتَّى
حسبتهُ بحــــرَّةِ ليلــــى أو بنخلــــةَ ثــاويا
فمـــــرَّ علـــى الأنهاءِ فالتجَّ مزنـــــهُ
فعقَّ طويلاً يســـكبُ الماءَ ساجيا
ركاما يســــــحُّ المـــــاءَ عن كلِّ فيقــةٍ
كما سقتَ منكوبَ الدَّوابرِ حافيا
فمــــــرَّ علـــــى الأجبالِ أجبــــال طيِّءٍ
فغادرَ بالقعيـــانِ رنقاً وصافيا
أجـــــــشَّ هزيمــــاً سيلهُ متدافـــــعٌ
تـــرى خشــبَ الغلاَّنِ فيـــه طوافيــــا
لــــــه فــــرَّقٌ يُنتَّــــــجنَ حولــــــهُ
يُفقِّـــئنَ بالميـــثِ الدِّماثِ السَّوابيا
فلـــــما تدلَّـــــى للجبــــــالِ وأهلهــــا
وأهـلِ الفراتِ قاطعَ البحرَ ماضيا
شكا شـجوهُ واغتــاظَ حتَّى حسبته
مــن البعـــدِ لمَّا جلجلَ الرَّعدُ حاديا
فأصبـحتِ الثِّــيرانُ غرقى وأصبحت
نســـاءُ تميمٍ يلتـــقطنَ الصَّياصــيا