أدب

فنجان قهوة

قصة قصيرة

بقلم: د/ فاطمة الزهراء جمال الدين
اعتادت كل صباح أن تمر بهدوئها المعهود في ملابسها السوداء الأنيقة على كشك القهوة المجاورلمحطة المتروتطلب فنجان القهوة المضبوط. كانت أول زيارة لها لذلك الكشك مصادفة عندما طلبت كوبًا من العصير الطازج الذي يُقدمه الكشك إلى جانب القهوة، لكن ما أن وقعت عينيها علي الشاب صاحب الكشك وهو يلتفت إليها حتي اضطربت وأرتعشت يدها الممسكة بالنقود، فسقطتْ محفظة نقودهاداخل الكشك، فانحنى الشاب والتقطها، وانتصب واقفًا وأعطاها لها، وهو يسألها:
ــ هل أنت بخير يا أمى؟
لم تنبثْ ببِنت شَفه، واكتفتْ فقط بإيماءة خفيفة بأن كل شيء بخير. أخذتْ العصير، وراحتْ ترتشفه وهي تختلس بعض النظرات إليه دون أن يشعر؛ فقد كان مشغولًا بخدمة بعض الزبائن. فرغتْ من مشروبها، و اتجهتْ نحو محطة المترو بخطى مترددة حائرة، ابتاعت التذكرة ودلفتْ إلى باحة المحطة وركبت المترو وعيناها تلمع بدموعٍ حبيسة، وتبدو على شفتيها ابتسامة رضا، وقد اتخذتْ في قرارة نفسها قرارًا.
حرصت على القدوم إلى الكشك في نفس الموعد كل صباح، لتطلب فنجان القهوة المضبوط بدلا من العصير، وفي كل مرة تقف ترتشفها ببطء شاخصة بنظرها إلى الأفق أحيانًا كأنها تحاول اختراق حجاب الزمان والمكان، وأحيانًا أخرى ترقب في صمت صاحب الكشك، اعتادت سماع الأغاني من راديو الكشك الصغير؛فقد كان يشدو بأغانٍ مختلفة لمطربين كثيرين كل يوم؛ مرة “فيروز”، ومرة “أصالة”، مما يعكس الذوق الرفيع والحس المرهف لذلك الشاب صاحب الكشك.
تتغير الأغاني ولا يتغير فنجان القهوة المضبوط ، يتبدل المطربون وتختلف الأيام ويبقى الرداء الأسود كما هو. بدأ الشاب يهتم بتلك الزبونة الدائمة، وراح يسألها إذا كانت تُفضل نوعًا معينًا من القهوة ليُعِدَّها لها من أجود أنواع البُن لديه؛ حيث كانت رائحته تجذب مُحبِّي القهوة الأصيلة.
كانت صاحبة الرداء الأسود قليلة الكلام رغم اهتمامها بتتبع أخبار الشاب كلما جاءته مكالمة تليفونية، فاقتصر الحديث بينهما على كلمات الشكر والمجاملة والتي أخذت تغدو وتروح فيما بينهما. وذات يوم أتت لتناول فنجانها المعتاد، لكنها رأت الفتى مُضطربًا يبدو عليه الانزعاج والحزن، ويكسو السواد حول عينيه كمَنْ لم ير النوم طوال الليل، لم تتمالك نفسها من إبداء الاهتمام، والسؤال عن حاله، فلم تجد لديه إجابة شافية، ومرَّتْ بضعة أيام على هذه الحال، وذات يومٍ بينما تحتسي قهوتها أتاه اتصال تليفوني قصير أدركتْ منه أنه مَدين ببعض الأموال بسبب كشك القهوة، وأن صاحب الديْن يريد استرداده سريعًا رغم اتفاقهما على سداده على دفعات،وهنا أدركتْ سبب اضطرابه، وقلقه، وعدم نومه.
في اليوم التالي لم تأتِ في موعدها، ومضى يوم آخر، فأخذتْ عيون الفتى تبحث عنها بين جموع البشر الذين يرتادون محطة المترو طوال اليوم، لكنه لم يجدها. وفي اليوم الثالث استلم مظروفًا بالبريد فتحه فوجد به مبلغًا كبيرًا، كان نفس المبلغ المطلوب منه سداده ومعه رسالة بأنه هبة لا ترد، لم يكن على المظروف اسم المُرسِل، أخذ يتساءل في قرارة نفسه عن صاحب هذا المظروف ، عشرات الأسئلة أخذتْ تعصف بذهنه طوال اليوم، لدرجة أنه أغلق الكشك مبكرًا بسبب شعوره بالدوار والخوف من إبقاء مبلغ كبير مثل هذا في الكشك.
قرر الانتظار يومًا آخر لعلَّه يعرف المُرسِل، أو ربما يندم صاحب الهبة ويرغب في أن يستردها لكن لم يحدث، وبعد أن مضى الأسبوع قرر الذهاب ليسدد الديْن بعد إلحاحٍ من أسرته وأصدقائه، وتحت وطأة المطالبة اليومية من المَديْن، شكر الله أن أرسل إليه هذا المبلغ وأخذ يدعو لمُرسِله، وفي غمار كل هذا كان يتساءل من وقت إلى آخر:
ــ أين صاحبة الرداء الأسود؟
في نفس يوم سداده للديْن في منزل صاحبة الرداء الأسود كان هناك العديد من النسوة ترتدين السواد، وتطوف عليهن امرأة تحمل صينية عليها فناجين قهوة. وضعتْ الصينية وفي عينيها بريق دمعة أطلقتْ سراحها أخيرًا، وتوقفت لحظة شاخصة ببصرها إلى الجدار المُقابل لها؛حيث عُلقت صورة للسيدة ذات الرداء الأسود؛ ولكنها كانت ترتدي ثوبًا ورديًا جميلًا، وعلى شفتيها ابتسامة رقيقة، وعلي احدي جوانب الإطار قد وضع شريط أسود. قالت المرأة التي تحمل الصينية:
ــ الله يرحمها، لم تحتمل أختي فراق ابنها الوحيد أكثر من بضعة أشهر وها هي تلحق به، رغم أنني لاحظت تحسن حالتها الصحية والنفسية في الفترة الأخيرة.
انتقلت ببصرها إلى صورة أخرى مُثبَّتة على الجدار إلى جوار صورة المرحومة أختها؛ كانت صورة الابن لشاب في مقتبل العمر وتعلو وجهه ابتسامة هادئة، يبدو في نفس عمر صاحب كشك القهوة وله نفس الملامح والقسمات، يخيل لمن يعرفهما كأنهما توأم. بدأ الشيخ القارئ يتلو آيات من كتاب الله؛ فخيم الصمت على النسوة الجالسات في العزاء وهن يحتسين فناجين القهوة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى