أدب

النزوع الدرامي في الشعر

قصيدة (ثورة النظارة على مخرج مسرحية الطيور والكلاب لمترجمها ابن المقفَّع) للشاعر رعد عبد القادر مثالا

د. أمل سلمان | أكاديمية وناقدة عراقية

تحتل تجربة رعد عبد القادر الشعرية تمْيُّزاً واضحاً في المشهد الثقافي العراقي، ولاسيما تجربته في مجال كتابة قصيدة النثر, فقد عُدَّ واحداً من أبرز أعلامها إذ استطاع أن يتعامل مع قضايا أساسية من قبيل, الوطن, والأمة, والذات, تعاملاً شعرياً مخططاً له تخطيطاًحداثوياً, رغبةً منّه في الامساك بإبداعهِ الشَّعري حتى لا ينفلت الى أللاتجاه.

فامتلك انجازات جمالية وفنية غنية مبنى ومعنى, مبنية بناءً مقصوداً بكلَّ حيثياتها, فرضت حالها على مشاغل القراءة والتحليل, فهو يغرف من معطيات الحداثة بما يخدم نصوصه الشعرية محاولا الابتِعاد بها عن الوقوع في غياهب الرمزية المغلقة التي اصبحت سِمة تنحاز بها الكتابات الشعرية التي تدَّعي الحداثة.

وعلى هذا الأساس اخترت لكم قصيدة منشورة ضمن ديوانه (شائعات سوق يحيى)  الصادر عام 2001 – 2002م, تحمل عنوان (ثورة النظارة على مخرج مسرحية الطيور والكلاب لمترجمها ابن المقفَّع )([1]), تضمنها الديوان, وهي واحدة من قصائد عديدة جعلت قضية الوطن همها الأكبر وعكست بذلك الهم الوطني الكبير الذي كان يحمله المبدع.

وفي الحقيقة وبحسب اطلاعي([2])أن ابن المقفَّع لاتوجد لديه مسرحية بعنوان الطيور والكلاب, إنَّما أراد المبدع ـــــ وحسبما نعتقدــــ الإشارة الى شيئين:

الأوّلُ ــ كتاب كليلة ودمنة, تلك التُّحفة العربية المائزة التي ترجمها ابن المقفَّع  ت(142ه) عن الهندية ثم الفارسية في القرن الثاني الهجري متصرفاً حيناً ببعض القضايا التي يتناسب مع واقع المجتمع العربي الاسلامي, ومضيفاً آحايين أخرى بعض الملامح العربية, وهي عبارة عن مجموعةٍ من القصص التّي وضعتْ على أفواه البهائم والطّيور وتشير أغلبها الى طبيعة العلاقة التي تجمع الحاكم بالمحكوم , فضلاً عن عدد من المواعظ والعبر التي تضمنها الكتاب.

والثاني ـــ استدعاء شخصية ابن المقفَّع , ذلك الكاتب المثقف العامل بعمله الذي لم يكتم علمهِ في وقتٍ حرج من تأريخ الأمة الإسلامية إذ عاش اخر العهد الأموي, فرأى انهيار الدولة, وقيام الدولة العباسية, فخبر عوامل الفساد وعوامل الثورة ([3]), وقد أجمعت المصادر التي أرخت حياته أنه قُتلّ على يد الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور سنة (142ه), واختلفت على أسباب قتلة إلا أنَّها رجحت أنّه كان ضحية عقله وعلمهِ، ولم يستوحش طريق الحق لقلة سالكيه.

نُدرك في هاتين الإشارتين ماهو داخلي في النص, فالعنوان على نحو ماهو معروف “بؤرة تتجمع فيها دلالات النص الشعري”([4]), وهذا يجعلنا نؤكد أن موقف الشاعر رعد عبد القادر من الحاكم والمحكوم هو موقف ابن المقفَّع  نفسه, فنحن أمام عرض مسرحي حداثويّ لكنّه موغل في القِدم بدأ مع أبن المقفَّع وامتدّ إلى زمن مابعد المبدع يوضح علاقة الراعي بالرعَّية والمثقف بالحاكم.

القَصيّدة:

“ثورة النظارة على مخرج مسرحية الطُّيور والكلاب لمترجمها ابن المقفَّع”

لسَنا طيوراً ولستُم كلاباً

إنًما نحن محض ممثلين

نمثل ما يسند لنا من أدوارٍ

نعودُ بعدها إلى آدميتنا ….

لقد أسندَ المخرجُ لكلَّ منا دوراً

ووزع الأقنعةَ بحسب أدوارنا

إلا أنّه – وسط لغط النظارة – أخطأ

فأعطى أقنعةَ الطُّيور للكلاب

وأعطى أقنعَة الكلاب للطُّيور..

في الحقيقة كانَ العرضُ مسلياً,

فقد طارتْ الكلابُ وعوتْ الطيورُ,

ووسط دهشة النظارة .

تدّحرجتْ كرةُ الخيوطِ التي تَشدنا إلى مصائِرنا

وانتهى العرضُ بقطع أصابعُ المخرجِ

لَقد انكشفَ الأمرُ

ولخيبة النظارة, أخذوا يطالُبونَ للمخرج

بمصير أسوأ من مصير ابن المقفَّع.

أما نحن – الطيور والكلاب – فقد تسلًلنا إلى آدميتنا بعيداً عن كرة الخيوط التي تشدنا إلى مصائِرنا المسرحية تاركينَ المخرج يواجه مصيره الأسوأ من مصيرنا  نحن, الممثلين.

من المتعارف عليه أن علاقة الشَّعر بالدراما علاقة عتيقة, فقد كانت الدراما إلى جانب الشعر الغنائي والملحمي تُمثّل الثالوث الشّعري, وقد جرى إحياء هذه العلاقة في تجربة الشعر العربي الحديث, رغبةً من المبدع بتكريس حضورهُ الإنساني والموضوعي وتخليص الشعر من بقايا الرومانتيكية والنزعة الذاتية الفردية فإذا كانَ القول بأن الدراما قد بدأت في عصورها الأوّلى شّعريه صحيحة, فإن عودة الشعر إلى الدراما غايته إغناء هذا الشعر بالعناصر الدرامية والقصصيّة والسَّردية التي يرتفع فيها هذا الشّعر إلى مستوى التعبير الموضوعي في لغته وصوره وإيقاعه وبنائه المتكامل والمعقد([5])وكان ت.س إليوت أوّل من لحظ الخاصية الدرامية الجديدة للشعر العالمي إذ أشار إلى أن في الشعر ثلاثة أصوات “صوت الشاعر وهو يتحدث إلى نفسه أو لا يتحدث إلى أحد, والثاني صوت الشاعر وهو يتحدث إلى جمهور صغيراً كان أو كبيراً, أمّا الثالث, فهو صوت الشاعر وهو يحاول خلق شخصية درامية تتحدث وتخاطب أخرى”([6]).

ومع ارتباط الشعر العربي بالحداثة الشعريه الغربية, حدثت انعطافة شعرية هائلة مست كيان القصيدة العربية القديمة, وإذا كانت ملامح التجاوز في القصيدة العربية الحداثوية كثيرة فإن المَلمح الأساس المرتبط بموضوعنا يتمثّل في تحريرها من المتلقي السلبي إلى المتلقي الإيجابي المتُفاعل, فلم يَعدّ صوت الشاعرِ هو صوت القصيدة الأوحد فلقد اضحت القصيدة صاحبة صوت هو صوتها هي, هي التي تبنته من خلال الأصوات التي تشكل كيانها.

ولم يكن الشاعر رعد عبد القادر, بمنأى عن هذه المتغيرات إنَّما استطاع هضمها وتَمثّلها في منجزهِ الشّعري, بحيث أدرك أنه لاتوجد قصيدة ناضجة بلا حركة ولاصراع ولاتصوير للأفكار, فجاءت قصائده, ومنها هذه القصيدة التي نحن بصدد قرأتها مثالاً لذلك.

فالمتأمل للقصيدة يلحظ فيها الصراع والحركة والتوتر والتناقض وإظهار المخفي من المواقف والمشاهد والأحداث المتناقضة, ويمكن تحديد أهم مقومات البناء الدرامي التي لجأ اليها في استعماله تِقانة القناع, والسرد, والصراع, واللغة, والمشهد وهذا لايعني بالضرورة أن وجود هذه العناصر أو بعضها في القصيدة هو بناء درامي, إنَّما تكمن في قدرتها على خلق الصراع المتُحرك والحدث المتنامي الذي يذيب الفردي في الجماعي والذاتي في الموضوعي ويرصد التناقضات.

فمسرحية (الطُّيور والكلاب) في الحقيقة لم تكن من ترجمة ابن المقفَّع على نحو ماقلنا سابقاً إنَّما كانت من تاليف رعد عبد القادر نفسه , وقد استدعى شخصية ابن المقفَّع وماتحمله من حمولة ثقافية وتأريخية, يتحدى بها ويتخفى خلفها ليحاكم نقائص العصر الحديث من خلالها([7]) رغبةً منه في إعلان موقفه من الحزب الحاكم آنذاك, فالقصيدة كتبت قُبيل حرب الخليج الثانية, فأراد بذلك توضيح السلبيات والنقائص التي شهدها المجتمع العراقي الذي أصبح مسرحاً للأحداث.

فالمشهد المسرحي هذا يمثل المجتمع العراقي الذي زجً به في حروب اكلت الأخضر واليابس ولاتزال آثارها ممتدة إلى وقتنا هذا بسب غباء (المخرج), الذي يمثل الحاكم السياسي المُستبدً, ويمكن التفصيل اكثر على النحو الأتي:

الممثلون: مسلوبي الإرادة يمثلون مايُسند إليهم من أدوار فبعضهم يقوم بدور الكلاب والآخر يقوم بدور الطُّيور وما الممثلونُ هنا سِوى (الشعب) المغلوب على أمره0

المخرج: هو الذي يدير الأحداث ويوزع الأقنعة, وما المخرج سوى
(الحاكم) المتغطرس.

النظارة: الجمهور المتفرج الذي يمارس نوعاً من الضغط على المخرج, وماالنظارة سوى الدُّول المحيطة.

فالمجتمع العراقي أصبح مسرحاً لصراع القوى الدُّولية, والمسرحية جاءت على شكل سرد قصصي يُروى على لسان الممثلين, وهم يروون قصة ما حدث في هذه المسرحية إذ تشتبك عناصر البناء الدرامي, وتنمو الاحداث وتتطور وتتضح معالم الشخصيات محققاً بذلك التوتر والإنفعال والتأثير, ومولداً عنصر التشويق نقرأ:

لقد أسندَ المخرجُ لكُلً منا دوراً.

ووزع الأقنعة بحسب أدوارنا.

إلا أنه ــــــ وسط لغط النظارة ـــــــ أخطأ.

فأعطى اقنعة الطيور للكلاب.

واعطى اقنعة الكلاب للطيور.

في الحقيقة كان العرض مسلياً.

فقد طارتْ الكلابُ وعوتْ الطيورُ.

وقد كان السرد موفقاً في تصوير المشاهد الحية والتنقل بين العبارات والجمل  المتناقضة, الأمر الذي جعل النزعة الدرامية واضحة ونمو الأحداث وتصاعدها زيادة على إشاعة الجاذبية والحيوية “فمن خلال التجاذب والتلاقي والتنافر تتضح لنا ابعاد الموقف وتنطبع في نفوسنا صورته وهذا هو سر التأثير المتزايد لهذا الاسلوب حيث يستخدم في القصيدة” ([8]).

وفي الوقت نفسه نلحظ أن البناء الدرامي لهذه القصيدة , قدم حالة من التأزم رافقت هذا الصراع ,ويقود إلى نهاية منتظرة فتتصارع الأضداد والافكار واضحة. فالكلابُ تطير, والطُّيور تعوي, وهي تمثل إنموذجاً حياً للصراع الذي يؤسس للبناء الدرامي الكثير من الركائز ويحرك الصور المشهدية ويحمل في معانيه التوتر والانفعال والتناقض.

وتنتهي المسرحية بخسارة المخرج اصابعه, وليتها كانت الخسارة الوحيدة, فالجمهور يطالبون له بمصيرٍ اسوأ من مصير ابن المقفَّع *.لانه لم يحسن العرض وأخطأ بسب ضغط الجمهور، والممثلون , عادوا الى آدميتهم, وليتهم عادوا, فلا هم بآدمين ولاهم بحيوانات

يقول:

فقد تسللّنا إلى أداميتنا بعيداً عن كُرة الخيوط

التي تشدنا إلى مصائِرنا المسرحيّة

تاركين المخرج يواجه مصيره

الأسوأ من مصيرنا نحن الممثلين

إنًها حركةٌ سريعةٌ في المشهد لكنَّها مستمرة في الواقع, تحملُ في طياتهاالمتناقضات وهموم الحياة, فالصراع فبها جاء على نوعين :

صراع داخلي =(ممثلون + المخرج )      (الشعب +الحاكم)

صراع خارجي =( المخرج + النظارة )     (الحاكم +الدَّول)

كل هذه الأحداث والصراعات والتناقضات, جاءت متماسكة نصياً بفعل إتقان المبدع(اللُّغه) وهي الوعاء الحامل, ومافيها من استعمالات أسلوبيه تجسدت في الاستفهام, والعطف, والتعجب, والضمائر والجمل الاسمية والفعلية , التي أعطت مساحات واسعة للفعل الدرامي.

فاستعماله ضمائر (الجمع) (الناء ونحن) إشارة الى الانتماء والإحساس بروح الجماعة, وجاءت الأفعال الماضية بشكل مكثف, من قبل (اسنَد, ووزعَ, وأخطأ, وأعطى, وكانَ, وطارتْ, وعوتْ, وانتهى, وانكشف, وأخذوا, وتركوا) منحت المشهد الدرامي الحيوية والحركة والحياة وأضفت على السرد القصصي الوصف المتنوع وإظهار النوازع والميول والعواطف وأعطت صورة واضحة للملتقي عن المكان والأحداث والشخصيات, ثم استعمال أساليب التوكيد المختلفة بالأدوات (لقد, وقد, وإنّما, واللام)0تمكن بذلكمن ترسيخ المعاني في ذهن المتلقي, ثم التنقل بين الحركة والسكون والحركة المقابلة والتقاطع  الجملي بين الجمل الاسمية  والفعلية, ولّدت حركة درامية رسمت المشهد الفوضوي الذي تسيَّد المشهد العراقي آنذاك, وخلقت تصويراً قادراً على إثارة المتلقي وتهييج أحاسيسه.
مراجع الدراسة:

  1. اتجاهات الشعر العربي المعاصر: د. إحسان عباس, دار المعرفة, الكويت, د.ت .
  2. الأساليب البديعية في أدب ابن المقفَّع, مقاربة في منظور اللسانيات النصية: د. أمل سلمان حسان, دار تموز للطباعة والنشر, دمشق , 2017 .
  3. دراسات في الادب العربي: إنعام الجندي, دار الأندلس للطباعة والنشر, بيروتــ لبنان, ط2, د.ت.
  4. الشعر العربي المعاصر: عز الدين اسماعيل, دار العودة, بيروت , 1981 .
  5. عنوان قصيدة السياب: د. سامي علي جبار, مجلة الأقلام, بغداد , 14/س , 2001 م .
  6. المجموعة الكاملة رعد عبد القادر: إصدارات مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية, دار الشؤون الثقافية, 2013 .
  7. مقالات في النقد الأدبي,ت.س إليوت: نقله عبد الله راجع في كتابه:القصيدة المغربية المعاصرة, بنية الشهادة والاستشهاد, د.ت .
  8. مملكة الأصوات ومرآة الفتوحات: د. محمود جابر عباس, سلسلة عالم الفكر, ع 2 / م .3, اكتوبر– ديسمبر, س 2000 م .

[1])) ينظر : المجموعة الكاملة , رعد عبد القادر , اصدارات مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية , دار الشؤون الثقافية , 2013 , ج 2 , ص282 .

  • ينظر: الاساليب البديعية في أدب أبن المقفَّعمقاربة من منظور اللسانيات النصيَّة: 38
  • دراسات في الادب العربي :52

)1) عنوان قصيدة السياب :76

  • مملكة الأصوات ومرآة الفتوحات :160
  • مقالات في النقد الأدبي :198
  • ينظر : اتجاهات الشعر العربي المعاصر :154
  • الشعر العربي المعاصر: 256 .

*تروى الروايات عنه أنه قُتل قتلة فظيعة , إذ أمرً الخليفة المنصور بتقطيعه الى اجزاء ثم حرقه , وهناك روايات اخرى تذكر إنًه قتل عن طريق إلقائه في بئرٍ ثم رُدم ذلك البئر فوقه 0

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى