المنهج القرآني العقلي في حِجاج المشركين (2)

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب متخصص في الشؤون الإسلامية

يختلف كذلك نهج القرآن في الاستدلال على المجادلين، وبسط سلطان حجته عليهم ؛ إذ هو لا يعرف مد أمد الجدل في استخراج الدليل، واستطالة الحوار .. إنما يأتي من أقرب طريق، فيدلي بحجته ويبسط أدلته القاطعة التي لا تدع لعقل المحاور مجالا سوى أن يقر بما طرح بين يديه من الدليل، أو يولي معرضا دون أن يدفع بدليل الاعتراض أو يسترسل في الجدال ..

 وقد يطرح القرآن كثيرا من الطروح التي يدع مجال الجواب فيها للمعاند(لعقله)، فلا تكون إجابته إلا حجة عليه من نفسه، وحجة للقرآن تدعم صدقه ، فتحق الحق وتبطل الباطل، من هذا مثلا قوله ”  قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)(سورة: المؤمنون)

كذا يقدم القرآن بين يدي الحوار توطئة وتهيئة لنفس المجادل، كي يجعل بينه وبين الخصم قاسما مشتركا، أو ما يسمونه(قاعدة للحوار)، وهو نوع كذلك من استمالة الخصم وإدناءه، حتى تكون هناك قاعدة أصيلة أو حقيقة مجمع عليها الطرفين، يبنى عليها الحوار للوصول إلى حقيقة فرعية لا يجحدها إلا المكابر المعاند ..

من هذا مثلا: أمر الجدال مع أهل الكتاب بالتي هي أحسن، فيقول:” وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)” (العنكبوت).  

كذلك في قوله: “ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)” (آل عمران).

وإذا طبقنا هذا المنطق القرآني مع المشركين، فهو ينطلق من قاعدة لا يكاد أحد منهم ينكرها أو يماري فيها، وهي (توحيد الربوبية) التي يقر بها المشركون، ولا ينكرها الكافرون، إنما هم مقرون بها ليل نهار ، بل وتجد ألسنتهم لاهجة بها في البر والبحر، والضيق والفرج.. بل إن حاقت بهم الضوائق، أو نزلت بهم الطوام، تاه من عقولهم كل آلهتهم إلا الله، فيصدقوا القصد في الالتجاء إليه، ويخلصوا له النية في الدعاء .. وهذا منتهى الإقرار له بالربوبية: 

قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)” (الأنعام).

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)”.. “وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)” (الزخرف).

قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)” (النمل).

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)” (يونس).

فهو يحقق بإقرارهم على أنفسهم توحيد الربوبية الذي يعرفونه، ثم يأتي في حوار سورة (النمل، ويونس) إلى ما يدعونه من دون الله من ألهة مزعومة يأبى العقل السوي أن يجعل لها شيئا من الخلق أو التدبير أو الرزق، أو السمع أو البصر، أو إجابة دعاء المضطر، أو الاهتداء في بر أو بحر ، أوالغوث حين تنقطع الأسباب، وتضل الأرباب.. كل هذا الفضل والفيض وإسباغ النعم، ودفع النقم.. يطرح القرآن هذا التعدد بلون من الاستفهام الإنكاري الذي يقرع العقول الحاضرة، والنفوس المستوية مع الفطرة، ثم يترك الجواب بدون ذكر أو إجابة .. إما لمعلوميته وقوته حجيته إذ لا يحتاج لإيضاح ، أو لتنطق به ألسنتهم، وتقر به قلوبهم، وإن أحجمت في بعضه فهي بلسان الحال والقلب والفطرة مقرة.

وإذا كانت هذه الحجج قد غلقت عليهم مفاتيح الجواب، وسدت على أفكارهم أبواب الجدل بإقرار الربوبية، وإبطال دعوة الشركاء والأنداد الذين لا يغنون عنهم من الله شيئا ولا يملكون لهم ضرا ولا نفعا، بل ولا لأنفسهم كذلك ” وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)” (الفرقان)..

 ياتي بعد ذلك ليطرح دعوة استحقاق الألوهية، وصرف العبودية لهذا الإله الذي غمرت رحمته وفاضت نعمته،، بل ولم يبرز إليه من الأنداد أو الأدعياء من يدعي دعوته، أو ينازعه سلطانه، أو ملكه.. اللهم إلا هذه الأسماء التي سموها ما أنزل الله بها من سلطان ,, وما هي إلا من اتباع الظن، والانقياد الخالص للهوى… فأنى يؤفكون؟!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى