مقال

التجربة الشعرية للشاعر اليمني أحمد الفلاحي

أناشيد أورفيوسية للحرب والعشيقة

شارك في الندوة:  د.حاتم الصكر، د. سعد التميمي والعديد من النقاد 

بقلم: حميد عقبي | باريس
كأنه يعزف على ناي أورفيوس العاشق والذي أضاع حبيبته يوريديس، أحمد الفلاحي، شاعر وناشر وناقد يمني يقيم حاليا بالسويد وهو صاحب تجربة شعرية عميقة وجديرة بالتأمل حيث نشعر بهمسات الشاعر إلى وطنه البعيد المعجون بالألم والموت والخرابات التي لا تنتهي، تتدفق شعرية الفلاحي دون أن تقيد نفسها بمقدمات تعريفية وكثيراً ما يزج بنا مباشرة إلى الصدمة ولنبدأ بهذا النص

في ذاكرتي فراشة تأبى النوم
صباحاً أقدم لها أسراب الطلع
وعلبة تبغ
في الليل أمنحها أقداح الضوء
ونبيذ القبلة
في ذاكرتي تطير من الردهة
ولا تنام
تخشى النار التي في قلبي
لا يدفعها الفضول الى الموت
لكن امرأة القارورة
تكمن في الضوء
والذئب الماكر في شرياني
يتربص بالعطر
ها انا اقتلني
لتطير.
انطلاق الشرارة الأولى من القصيدة مهم جدا ويترتب عليه متابعة المتلقي للشاعر أو التخلي عنه، والفلاحي لا يهتم بالصناعة والأثقال البلاغية والتي تخلت عنها قصيدة النثر ولا المنطقية ولا حتى الواقع، مثلاً هنا في هذا النموذج يغترف الفلاحي من ذاكرته وليس المطلوب من الشاعر أن يغترف لنا صوراً للشجر أو البحر أو بهجة الربيع، يحق للشاعر أن يُخرج من أعماقه أبشع الصور أو يشخص مخلوقات صغيرة وبسيطة، هنا (فراشة تأبى النوم) ونعلم أن عمر هذه الكائنة قصير جداً وقد تكون البداية الحقيقية لهذا النص محذوفة، أي حذفها الشاعر عمداً وترك لنا شرارة صغيرة لكنها كافية أن تلهب الكثير من الأسئلة والتوقعات، وهنا استخدم ( أسراب الطلع) وكأنه يلمح للرغبة واللذة وعندما تكون أعمارنا قصيرة جداً فنحن نستحق اللذة والفرح والسعادة وكأنه أيضاً يلمح ولو من بعيد إلى تلك الأرض حيث تهجرها الحياة ويستوطنها الموت ويصعب على الذين يعيشون فيها أن يعشقوا أو يعيشوا لحظة فرح.
يصور الفلاحي لحظات خاطفة وقصيرة لكنها تتفجر بالدرامية والترقب وهو يمسك بنا كشهود على هذه الفراشة وكأنه يسألنا إن كنا نرى ما يراه؟
يؤكد على وجودها المادي بأفعال تنطبق عليها (تطير من الردهة) ولكنه يهرب من التجسيد المادي سريعاً (تخشى النار التي في قلبي)، وكأنه هروب من الحكاية التي قد تتشكل من الصور السابقة، فعاد إلى هدم الحكاية برمتها دون أن يأبه بفقدان البنية والمسار الدرامي، أحياناً تصبح الدرامية عبئا ثقيلاً على القصيدة والبعض قد يستمر من تطوير البناء وزخرفته وقد يؤدي هذا لهدم روح القصيدة، والفلاحي يدرك خطورة زخرفة الشكل لذلك فهو يخلق تركيباته كما تأتي من الروح وليس كما يجب أن تكون وفق القواعد اللغوية وجماليات البلاغة.

لكن امرأة القارورة
تكمن في الضوء
ثمة غموض هنا، كلمات ربما حذفها الشاعر لبنية خاصة دون المبالاة لتوليد معان واضحة أو دغدغة أحاسيسنا وهو يرسم بغرائبية، ربما هذه اللوحة تلبي حاجة داخلية أو حلما ناقصا ومبتورا، والقصيدة هنا مساحة للبوح بشرور النفس فلا ينزه الشاعر نفسه وقد تُفهم أيضاً غير ذلك، فالذئب له قداسة خاصة لدى الكثير من الشعوب وترتبط حياته بحياة الطبيعة وتدفق المطر والخصوبة، هو يتربص بالعطر وهنا أيضاً قد يكون العطر دلالة للرغبة واللذة، وكأننا مع إنسان يتوق للذة ويرسل إشارات لحبيبته، يتذكر الحرب ويتذكر تلك الأرض التواقة لعطر الزهور ورقصات النخلة بعد لقاحها وحبلها.
كما أن للبداية وهجها فالنهاية أيضاً شديدة الحساسية ونادراً ما يختار الفلاحي نهايات قاطعة ومحتومة أو حتى تستوفي نصوصه حكاية كاملة ببداية ووسط ونهاية ولنتأمل النهاية هنا:
ها أنا أقتلني
لتطير.
ثمة إشكالية هنا ونوع من زعزعة الوضوح التام وقد نسأل لمن الخطاب؟
هذه الفراشة، يمكن فهمها كفراشة عادية تثير مخيلة الشاعر وتُخرجه من مكانه الضيق فهي أداة شعرية مثيرة وقد خلق الشاعر من اللحظة مناسبة للعودة لدواخله المعتمة فهو يهذي ويحلم وقد تكون هذه الفراشة هي الحبيبة أو الأرض.
مرفق النموذج الثاني

لا أفكر بالايدولوجيا الجديدة
الا مثل طفل يفكر بلعبة باربي
كما لا يدعني الوسواس
أن أنتبه لأمراة الثلج
من يخيط للحرب سروالها؟
الغد مثلا:
تسوق الارض خراف الصحراء
الى جهة الشمال
وتذهب امرأة البارود
من يشتري مني سراب الشوق؟
أثق بالغربة أكثر من الحب
وبالحرب أكثر من السماء
وأنت أكثر من الالهة
وانا أكثر بك
لا أفكر بالايدولوجيا الا كما أفكر في الخيانة
من يرقب ظل الله
ثم لا يسأل كيف؟
وسيختفي طيفك
من يسبح نحو العتمة
ثم لا يرى وجه الطاووس.
في هذا النص، نرى أو يصور لنا الشاعر جانباً من رؤيته وهو هنا لا يدعي أنه في العالم المتحضر وبفكرٍ متحضر ورؤية كونية ولا ينفخ في ذاته بالصفات والألقاب ويعود كمجرد طفل يعشق لعبة باربي أو كأنه يخفي ذاته أي هو يعشق تلك التي تحب لعبة باربي، مراوغات وحذف ومونتاج لبعثرة وطمس أي معنى سهل، ثم يفجعنا بالقلق وهذه ليست أسئلة سهلة فلا هو ولا فطاحله الفلاسفة يمكنهم الرد على سؤال (من يخيط للحرب سروالها؟)، ثم يترك السؤال بعد أن قذفه في وجوهنا وكعادته يبني ملامح درامية ثم يسارع بهدمها أو حتى تشويه أي لوحة جميلة، مثلا ذلك الطفل أي هو، ما يأتي قد ينسف السابق وسرعان ما يُحضر لنا صورة أخرى جديدة وبعيدة جداً عما سبقها، لسنا هنا مع نصوص تصنع متعة حكائيه، هنا اعترافات عشوائية من الداخل، ما يغترفه قد يكون جميلاً ومفرحاً من رغبة وحلم وقد يكون مفجعاً وصادماً من ألم وخوف وهزيمة وموت مفجع حل بؤره هناك، فالمرأة رمز الجمال وهي تكون امرأة الثلج وهنا حقاً لماذا نسمي رجل الثلج؟ هنا الفلاحي يخلق مصطلحاً جديداً لنقل كما يقول امرأة الثلج والصورة أكثر شاعرية ولكن سرعان ما يهدم هذه اللوحة الرومانسية والمصطلح المبتكر ليأتي بالضد وصورة مفجعة ( امرأة البارود)، أهو يعبث بنا أم هو عبث كوني يجتاحنا؟
أقصد يجتاحه ويغرقه في متاهات الشك والضياع وهو يظل يتمسك بأطراف ثوب الحلم (وأنت أكثر من الآلهة)، تحدث عن الحرب والغربة والشوق ونراه مبتسماً للعشيقة يمنحها القداسة المطلقة.
لا أبالغ بقولي كمتذوق لشعر أحمد الفلاحي بقدرته الإبداعية في توريطنا بعدة إشكاليات ولو أضفت حاستي كسينمائي ومسرحي سأذهب بالقول أن الفلاحي هادم للدرامية فهو أورفيوس اليماني يود أن ينتشل تلك البلاد من قاع الجحيم، يهدم أي تشكيلات أو لوحات حتى وإن كانت جميلة ليذهب أبعد من مجرد متعة المتلقي أو حتى متعته الذاتية بتوظيف القصيدة كأداة بوح وتطهر واسترخاء ويُكثر من الأسئلة الشائكة والمحرجة والتي هو شخصياً لا يملك إجابتها وحتى نحن، هذه الأسئلة كما في نهاية هذا النص، فهو لا يهتم بموضوعية قصيدته ولا معانيها الظاهرة وكأنه يدعونا أن نكون نحن هو، أي أن نعيش حالة التشظي المقلقة والمفجعة، يعزف الشاعر أحمد الفلاحي عبر قصائده كأورفيوس فهو ينشد السلام واللذة لكن حبيبته هناك بقاع الجحيم، بلاد الشاعر تلك البلاد كانت سعيدة ثم عصفت بها الحرب وعبث بها الموت فصارت أرض التراجيديا والفنتازيا حيث تجاوز الواقع اللامعقول، أحمد الفلاحي من ضمن مجموعة قليلة من شعراء اليمن الذين أدركوا وأحسوا وخلقوا إبداعات لا تكتفي بالتصوير العابر والواقعي بل تذهب أبعد من ذلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى