أدب

قصة قصيرة: قطر النَّدى

محمد أسامة| الولايات المتحدة
ارتحلْتُ إليها مصطحبًا قلبي، وقد ملأ الشَّوقُ روحي، وعَبَرْتُ البرَّ والبحر إليها، وغادرتُ بلادي من أجلها، فقد رأيتُ منها ما دفعني لاستكشاف عالمها، ومعرفة كفاحها، وقد أدركْتُ لما نظرْتُ إليها أنَّها أجمل الخلق رُوحا، وأرقُّهم قلبًا، وأروعهم دينًا، وأصدقُهم قولًا، وأحسنهم فعلا، وأكثرهم علمًا، ففي عينيها يجتمع الليل والنَّهار، وتتجمَّل الأقدار، ويتعانقُ البر والبحر، ويلتقي الظاعن والمُقيم، وتصطلح الشَّمس مع القمر، ويبتسم في ضيِّها القدر، ما إن هبطت طائرتي، وانتهت رحلتي، حتى وجدْتُها واقفةً في انتظاري، تترقَّب وصولي، فأطلت النظر فيها، محاولًا كشف أسرارها، وقراءة حروفها، فالتفتت إليَّ وقد علتها الدَّهشة، وانتبهت لما بي من الرَّغبة، فقالت لي وهي تحاورني: انتبهْ! لا يغرَّنَك المظهر، ولا يشغلنَّك عن رؤيا الجوهر، إيَّاك أن تغرَّك ابتسامتي، أو تخدعك إشراقتي، فوراء تلك الابتسامة وجعٌ وخيم، وألمٌ عظيم، وعذابٌ لم ترَه عين، ولم تسمعْ به أذن، ولا خطر على قلب بشر، وإن الشَّقي من ألقى حُكمًا عند أوَّل نظرة، وبنى رؤيته من أوَّل وهلة.
فقلت لها وأنا أحاورها: لقد رأيتُك آيةً في الإبداع ما خُلق مثلها، ولا تستقيم حياتي دونها، فما ألمَّ بقلبك؟ وأيَّ ضنى مزَّق فؤادك، وبعثرَ حياتك، وكدَّر صفوك؟ وما ذلك الأسى الذي تُخفينه وراء ابتسامتك؟ وما ذلك الذي يجري في عروق دمك؟
فقالت: وما يكون من أُنثى هدَّها اليتم، وشتَّتها الحُلم، وأعياها الفقد، وعَرَفَت الحزن في المهد، فَقَدَت أمَّها، وغادرها أبوها، وفارقها أهلها، وارتحلت قسرًا عن ديارها.
فقلت لها: لا تحزني فإنَّه قدرٌ مقدور، وذنبٌ مغفور، وأجلٌ معلوم، لعلَّ الله أراد أن يُفرِغَ قلبك ممَّن سواه، حتى يملؤه بمحبَّته ويرعاه، ولا يكونُ فيه أحدٌ من خلقه، فلا تتعلَّقي بغيره، ولا بمن هو دونه، فقد أحبَّك الله ولم يُرد في قلبك غيره، فأفرغَه من كل من سِوَاه لذاتِهِ.
فقالت: إنِّي أعلم ذلك ولكنَّ حزنيَ قد غلب على حياتي، واكتست به أيَّامي، فتأرجح قلبي من القهر والأسى، وعبث به الوجد والجوى، فصارت الوحدة شعاري، والعزلة رايتي، وقد وأد الحزم أحلامي، وصفع آمالي، فانطرح قلبي، وتمزَّقت بمخالب الأنين رُوحي.
فقلت: إنَّ العاقل من نظر إلى غده، وأعدَّ العدة لمستقبله، فاستعان بربِّه على حاجته، وجدَّد الأمل في حياته، وأسعد الناس بابتسامته، وأغدق عليهم من كرمه، وسأكون لكِ عونًا ومددًا، وظهرًا وسندًا، ولن أقدِّم عليك في الدُّنيا أحدًا.
قالت: إن الدُّنيا دار ابتلاء، وألمُ وفناء، وداءٌ لا يصلح معها الدواء، فإن أردت صحبتي فارفع عني بعض ألمي، وجدِّد لي بصيص حلمي، وهبني من روحك ما يمنحني سببًا للحياة، وطوقًا فيه سبيل للنجاة، فكن بنبضي ودمي، واسكن بقلبي ورُوحي، وإنَّ الصادق من صدق فعلُه قولَه، وبذل روحه من أجل حبِّه.
فقلت: قد اشتاق قلبي لملامسة روحك، ومداعبة قلبك، فقد رأيتُ فيك جمالًا يسبي العقل، ويملأ المُقل، ويسرق الروح ليحييَ الأمل.
فقالت: لا يغرَّنَّك ما أضعه على وجهي من الزِّينة والحُلي، ولا ما تراه من الزخرف والتوشية، ولا تتعجَّل وإلا مسَّك الخطر، وأصابك الشَّرر، وهزئ بك البشر، وعبث بك القدر.
فقلت: إنَّما شغلني أنَّك أحسن الناس وجهًا، وأجملهم بوحًا، وأصفاهم فؤادًا، وأرقُّهم قلبًا.
فقالت: كل هذا رأيته في امرأةٍ شاحبة الوجه! نحيلة الجسد، كسيرة النفس، قد تُليت عليها آياتُ الحزن، وأضناها ما تلقى في قافلةِ البؤس، وقذف بها الدهر في بحار اليأس، وقَفَت على صرحٍ من الغمِّ، وأكلها الهم، واجتاح قلبَها الضَّيمُ، وانتحب قلبها من شدَّة جزعه، وانطرح من شدَّة وجعه!
قلت: إنَّ ذا البصيرة من أمعن النَّظر فيما حوله، ومن حوله، فنفذ من ظاهر الأشياء إلى باطنها، وتجاوز مظهرها إلى جوهرها، ووثبت عيونُه خلف الأشياء فأدرك معانيها، وتطلَّع إلى العيون فعرف مجاليها، وقرأَ سطورها، ولامس دفءَ حروفها، ففي الصمت رسالة تسمعها القلوب، وتُصغي إليها العقول، كمثل الليل الذي يحمل في أعماقه ما لا تدركه الأبصار، ولكن تدركه القلوب التي في الصدور.
قالت: أن لم تكن معي حينما غادرْتُ بلدي، وفارقْتُ أهلي، وليس معي غير حقيبتين، وكنت أعاني في سفري الأمرَّين، ولكن كانت لي أهداف أودُّها، وأحلامٌ أرغب في تحقيقها، فقدَّمت رِجْلًا وأخَّرت أخرى، ونجحت مرَّة ورسبت أخرى، فأمِنْتُ وخِفت، وصحوتُ وغفوتُ، وحاربت فانهزمت وانتصرت، ووقَفْتُ على جسرٍ من الرُّعب، وعبرته وما هزمني الخوف، فآمنت بقُدراتي، وصدَّقْتُ موهبتي. ورفعت طموحي.
فقلت: إن الله جاعلٌ لك في نجاحك فرجًا وانكشافًا، ومن همومك لك نجاةً وخلاصًا، وإن سامك الدهر وجعًا، وكتب عليك القدر جزعًا، فإنَّك تتجاوزين حزنك بعزيمتك، وباجتهادك وعلوِّ همتك.
قالت: لقد تعبْتُ وتألَّمْتُ، وفررت من مخالبِ الموت، فرافقتني رُوحي، حتى بلغتُ طموحي، ثم مسَّتني النار، وأصابني بعد موت أهلي انهيار، وانسحب من انسحب من حياتي، فضُعضع القلب أرقًا، ومُزِّقَ حسرةً وقلقًا، حتى أخاله من جزعه انفلقا.
قلت: قد يبتليك الله بالحَزَن، وبالأسى والوجد والمِحَن، حتى يفارقك من تحبِّين، ويغادرك من كنتِ به تتعلَّقين، فهو تمحيصٌ يميز الله به الخبيثَ من الطيِّب، والقبيحَ من الحسن، فإن أبلاك الله من مرضك، وشفاك من سقمك، وردَّ إليك روحك، عرفت من كان يحبُّكِ بصدق، ويخلص لك بحق، ومن كان يحبُّك من أجل مصلحته، ويسعى وراءك من أجل غرضه، وقد لقيت في ابتلائك شرًّا أفضى إلى خير ، وانتكاسة استحالت إلى نصر، وارتفعت عنك غيوم الوجع والقهر، فانكشف الغم، وانقشع الوهم، وتحقَّق الحلم، ونِعم أجرُ الصَّابرين.
قالت: تعلَّمْتُ في الحياة دروسًا، وأخذت منها عبرًا، وأثبتُ للدُّينا أنني لست مجرَّد فتاة، وقد فقدت أبي، فانكسر ظهري، وزاد وجعي، فجاءني في المنام ولاماني، وقال: بنيَّتي لا تَدَعي أباك يموت مرَّتين. فانتبهت وعلمْتُ أنَّني إن فقدت في الدنيا دعمه، فلابد أن أعيش من أجله، فقد كان في الدنيا سندي، وفي الآخرة إلهامي ورُوحي، وقد عاداني الكثيرين ممَّن ساءت نواياهم، وفسدت أعمالهم. واستوطن النِّفاق قلوبهم، إلا أنَّني كنتُ منهم أرفعَ وأعلم، وأجلَّ وأحلم، وأروع وأغلى، وأسمى وأعلى.
قلت: من فقدتِه في دنياك بقي حيًّا بروحك، يفرح بنجاحك، ويرتقي بارتقائك، وسيفخر بك أمام ربِّك، فلا مات من أعقب ذرِّيَّة صالحة، ولا ضاع من ترك غروسًا يافعة، وبالحياة زاهرة، وبالإيمان عامرة، فاقطفي ثمار نجاحك، وتلذَّذي بفاكهة تفوقك. واعلمي أن سهام الليل لا تُخطئ، وأن مشاغل الحياة لا تنتهي، وان الإنسان الغني من ملك الصِّحَّة، وشعر بالأمان والمِنحة، وأودع حُبَّ اللهِ في قلبه.
فقالت: قد أُسقط في يدي، وانسكب الدمع من عيني، حينما علمْتُ أنَّ الحُلم يختلف عن واقع الحياة، فأغلب صحبك ينصرفون عنك، إذا فرغت مصلحتهم منك، لكنني رأيت في الله عونًا وسندًا، ومقصدًا وموئلا، وأن معظم من تباهوا بأنفسهم، كذبت ألسنتهم، وساءت نواياهم، وفرغت دواخلهم، ولا يعي إحساسي إلا من مر بتجربتي، وتجاوز محنتي، وذاق من حرِّ وجعي.
قلت: كذلك الدنيا لا يتمُّ تمامها، ولا يُلتمسُ كمالها، والأحمق من اغترَّ بزينتها، وانخدع بزخرفها، فلا يسلم من شرِّها، إلا من أخذ منها لآخرته، وابتغى منها وسائل جنَّته، والرَّابح فيها من عمَّر قلبه بالإيمان، ووعى وحفظ القرآن، فإلى أين أفضت بك الدنيا؟
قالت: أفضت بي إلى عزلةٍ لا فرار منها، ووحدةٍ بتُّ أتألَّفها، فالدُّنيا لا تردُّ من فُقِد، ولا تُقيل أحد، ولا الزَّمن يرجع بما مضى، أو يُراجع فيما قضى، وتَرَكَت بي صمتًا كان أبلغ من كلامي، ووجومًا تراه برأسي يفضح إحساسي، وبي لظًى تعتلج به عبراتي، وعيون تبوح بكلماتي، ولكنَّني سأحاول تجاوز ألمي، كي أحقق بعد تعبٍ حلمي، ما دام بي قلبٌ ينبض بتباشير الحياة.
فقلت: أودُّ أن أُقرَّ لك بـ….
فَوَضَعت يدها على فمي، وكتمْتُ قولي، وقالت: لا تذكُر شيئًا، فقد سبقتك عيناك في البوحِ بما تودُّ قولَه، وتُحِبُّ الاعتراف به.
فانحنيتُ أمامها طائعًا، وقبَّلْتُ يديها مختارًا، وقُلت لها: ما خُلِقَ في الكون مثلُك، ولم أبصر في الحياة صِنوَك، ولا حياة لي بعدك. فأنت عندي من غيرك أحلمُ وأحلى، وأروعُ وأوفى، يا وردةً أوْقَعَت قلبي في الهوى، ومضى على جبينها قطر النَّدى.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى