الانطباع النفسي في نقد الشعر (2- 5)

الناقدة والشاعرة ثناء حاج صالح / ألمانيا

يؤدي اللاشعور بما يختزنه من الخبرات الانفعالية السابقة, والحاجات النفسية الملحة غير المشبعة، والميول النفسية السلوكية والأخلاقية دورا أساسيا في تشكيل الانطباع النفسي الأول عند الإنسان العادي أيا كانت طبيعة هذا الانطباع .

فعندما يستقبل الإنسان القارئ العادي  بوعيه الشعوري مثيرات أو منبهات نفسية (جمالية أو عاطفية أو فكرية )  معينة هي من خصائص موضوع جديد ( نص أدبي ) التقطتها حواسه وملكاته الذهنية  وأدركها عقله، فإن العقل سيجري محاكمة سريعة جدا لتلك المثيرات بهدف تصنيفها وتحديد الموقف الشخصي الذاتي تجاهها، كي يتمكن الإنسان القارئ من إبداء الاستجابة السلوكية الانفعالية الملائمة تجاهها.
وكي يجري العقل هذه المحاكمة وبشكل سريع جدا فإنه يعرض تلك المثيرات على ما تم اختزانه في الذاكرة الثقافية من خبرات سابقة في المجال نفسه ، ليجد تصنيفا مناسبا لها بمقارنتها مع ما سبق التعامل معه من الخبرات المماثلة لها والتي هي من طبيعتها نفسها.
الخبرات النفسية السابقة عند الإنسان تكون ذات طبيعة مزدوجة فكرية وشعورية في آن واحد؛ فهي أفكار تحيط بها حقول من المشاعر والعواطف التي تكون في حالة من السُبات ندعوها بـ(اللاوعي) أو اللاشعور ؛ لأنها تتسرب دائما عبر انفعالاتنا واستجاباتنا السلوكية دون أن يكون لنا خيار أو قرار إرادي في ذلك. 

فالمثيرات الجديدة الطارئة التي هي من خصائص النص الأدبي الذي نقرؤه لأول مرة ستثير عندنا بعض الخبرات النفسية الكامنة في اللاوعي بعملية تحريض أو تنبيه شديد السرعة، لكن هذا التحريض يطال في البدء وبوضوح ما هو مخزون في اللاوعي من المشاعر والعواطف فقط، دون أن يثير الأفكار المتعلقة بتلك المشاعر بالوضوح نفسه، فتستمر الأفكار في كمونها وسُباتها حتى تُستدعى في المحاكمة العقلية في ما بعد هذه المرحلة .

لذا فإن شعورنا الانطباعي الأول تجاه الموضوع الجديد (النص)  يمثل استجابة سريعة وهي في الوقت نفسه استجابة شعورية محضة مستقلة عن التفكير  وغير مبررة منطقيا؛ كونها لم تخضع بعد للمحاكمة العقلية المنطقية التي تحتاج وقتا أطول يتم فيه استدعاء الأفكار والمفاهيم والقناعات الشخصية ، لاتخاذ القرار العقلي الواعي وتحديد الموقف الشخصي من أفكار النص وطروحاته الإيديولوجية على أسس منطقية. 
فإذا تمكنت تلك المثيرات عند تشكيل الانطباع النفسي الأول من تحريك الخبرات الانفعالية العاطفية الإيجابية والمَرضي عنها في مخزون اللاوعي، وكانت تتلاءم مع الميول النفسية، وتبشِّر بتلبية الحاجات الملحَّة غير المشبَعة للقارئ . فإنها تُحدث وتولِّد استجابة إيجابية تجاهها تتمثل برد فعل تجاوبي واضح نسميه (القبول ) أو ( الانجذاب ) تجاه النص.

وبهذا يتشكل الانطباع نفسي الإيجابي الذي يتحوَّل بدوره إلى دافع نفسي يحرِّض على الإقدام والاقتراب من النص للارتباط به والتداخل معه في عملية القراءة الحقيقية والصادقة ، والتي تعني تفتح العقل والقدرات الاستيعابية.

ويحدث العكس إذا ما أثارت مثيرات النص خبراتنا الانفعالية اللاواعية السلبية وغير المَرضي عنها، والتي تتعارض مع ميولنا النفسية، أو تنذر بتهديد الحاجات غير المشبعة. فإن الانطباع النفسي الذي سيتشكل سيكون (سلبيا) وسيكون رد فعلنا الواضح هو الإعراض والنفور من النص ، وعدم الرغبة في قراءته قراءة صادقة .
ولو تأملنا قليلا في تفسير حقيقة كل من نمطَي الانطباع الأول (الإيجابي المتمثل بالانجذاب، والسلبي المتمثل بالنفور) للاحظنا أن الحياد النفسي تجاه الموضوع ( الموضوعية في الانطباع النفسي) أمر غير وارد على الإطلاق . والسبب في ذلك هو أن الدافع النفسي للانجذاب  أو للنفور هو دافع ذاتي قوامه تحقيق المصلحة الشخصية الذاتية فقط . والذاتية فيه بالضرورة هي أمر فطري غريزي، لأن محله (اللاوعي) المحكوم بالغرائز لا بالعقل.

والتعامل اللاواعي ابعد ما يكون عن التعامل مع خصائص الموضوع بموضوعية أو بحياد انفعالي غير محكوم بالميول الذاتية. فهذا لا يستطيعه البشر في مرحلة تشكيل الانطباع الأول . لكن عندما يكتمل تشكيل ذلك الانطباع ويُرفَع تقريره إلى العقل الواعي، عند ذلك قد يتدخل العقل في إصدار قرار تحييد المصلحة الذاتية والتجرد النسبي عن الميول الذاتية، وتيدأ المحاكمة العقلية المنطقية بتجميع المعلومات والخبرات السابقة حول خصائص الموضوع لمناقشتها والتعامل معها بحيادية نسبية غير مطلقة .

وتتحدد نسبة الموضوعية أو الحيادية في المحاكمة العقلية بحسب خبرة القارئ وقدرته النفسية والذهنية على التجريد الفكري، وبحسب دوافعه النفسية المعرفية الذاتية، والتي قد تتيح له -وإلى حد ما- أن يتعامل مع المفاهيم المجردة، بحثا عن القيَم المطلقة لحقائق الأمور. 

ويصدق هذا التوصيف لتشكيل الانطباع النفسي الاول في حالة القارئ العادي على حالة القارئ غير العادي وهو القارئ (الناقد) ،غير أننا سنركز في لاوعي الناقد على نتائج إثارة الخبرات النفسية الانفعالية الجمالية على وجه الخصوص؛ لأن نتائج هذه الإثارة لن يعقبها مجرد الانجذاب للنص أو النفور منه ،  فالخبرات الانفعالية الجمالية المثارة عند القارئ الناقد أثقل في حضورها وأكثر تعقيدا في مضامينها، وبالتالي فإن الاستجابات المتولدة عن تنبيهها تكون ارتدادية ومتوالية ولا يمكن أن تهدأ وتعود للسكون بالبساطة نفسها التي تحدث في حالة القارئ العادي. بل تتمثل استجابة القارئ الناقد عند قراءته الصادقة للنص بفعل إبداعي جديد يحدث بمارسة النقد.

ما يميِز خبرات القارئ الناقد عن خبرات القارئ العادي للنص فيما يتعلق بخصائص الشعر الذوقية كالموسيقا والعاطفة والصور الشعرية أساسا هو موضوع بحثنا ،لكننا لن ننسى في هذا السياق التنويه بما يميِّز الناقد عن القارئ العادي من القدرة على استكناه خصائص اللغة والأسلوب في النص الشعري، والقدرة على تحليل الخطاب وفك علائق البيان، واستيعاب اللغة المجازية المنزاحة لكشف أسرار البلاغة عند الشاعر  وما يتبع ذلك من التعامل مع صيغ الصرف وإدارة النحو وتوظيفه في أساليب الإنشاء والإخبار . فهذا كله يدخل ضمن خبرات الناقد ويؤثر في قدرته القرائية للنص كما يساهم في تشكيل الانطباع النفسي الأول وتحديد طبيعته الإيجابية أو السلبية. ويكون له أكبر تأثير في إعادة وصف النص وعكسه للآخرين بعد قراءته الاولى .

إن الخبرات الجمالية للقارئ الناقد والتي تفوق خبرات القارئ العادي ترتبط بنضج التجربة الجمالية عنده، وتمثل بارتباطاتها المعنوية وشائج كالجذور تمتد في نفسه عميقا وباتجاهات متشعبة في مراحل تشكل وعيه الجمالي منذ الطفولة وحتى الكهولة. وبقدر عمق تجربته الجمالية الحسيَّة وقِدَمها في حياته تتوالد أسباب الانفعال المتعددة والمتغايرة عند تذوقه لجماليات النص . إنها خبرات حسية اقترنت بالانفعال واختزنته معها عند نشوئها الأول . وقبل أن تلحق بها المفاهيم والمعلومات وترتبط بها. وطريقة اكتسابها عبر الانفعال تعيد تجسيدها عند تشكيل الانطباع النفسي عند القارئ المتذوق والناقد معا. وفي كل انطباع أول تظهر محاولات  اللاوعي الدائمة لإعادة إحيائها كونها تسبب توليد الشعور باللذة النفسية نفسها التي اختزنتها من قبل.

ومن هذا المنطلق يمكننا القول بأن كل انطباع نفسي عند القارئ المتذوق أو عند الناقد إنما هو تجلٍ للحالة الشعورية الانفعالية القديمة التي مرَّ بها  شعوره من قبل  وتسببت بإحداث اللذة والمسرة في وقتها .ومن ثَمَّ فإنه سيترتب على كل ذلك أن تتحوَّل تلك الخبرات السابقة إلى معايير ومقاييس جمالية مثالية ذاتية ، تتم  إليها عملية القياس قبل النطق بالحكم النقدي .
وبناء على ضرورة وجود تلك الخبرات الجمالية الذاتية المثالية من أجل القياس إليها في تجربة الناقد القرائيةلجماليات النص ، نقول : إن الناقد الذي لم يتعرف على تجربة الطرب النفسي لموسيقا الشعر المُطرِبة، والذي لم يختزن انفعالا حسيا مثاليا سابقا يقيس إليه الانفعالات اللاحقة ، هو غير قادر على تذوق موسيقا النص الشعري، وغير قادر على إطلاق الحكم النقدي النسبي عند تقييم وتقويم إيقاعه الخارجي والداخلي الخاص به.
وكذلك هو الأمر مع تذوق تشكيلات الصور الشعرية وعبقرية التحكم بالمفردات واستخدام اللغة استخداما إبداعيا ذكيا ومتفردا . فكل هذه الخبرات الجمالية تحتاج لحس جمالي مرهف مصقول وناتج عن تربية جمالية حسية متنامية ومتواصلة ، ولا يمكن أن يُكتسَب بصورة معلومات ومفاهيم جاهزة ومتداولة . 

وباختصار شديد : إن ما هو ذاتي وخصوصي جدا من الخبرات الانفعالية الجمالية عند القارئ الناقد هو أساس تشكيل الانطباع النفسي الأول( الإيجابي أو السلبي ) حال قراءته الأولى للنص، وبالتالي فإن قراءة النص الناقدة لا يمكن أن تكون حيادية وموضوعية بالمعنى المطلق، وستكون موجَّهة من قبل ذلك الانطباع شئنا أو أبينا ورضينا بذلك أو اعترضنا عليه. 
يتبع بإذن الله..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى