المصطبة
د. محمود رمضان
من ريف مصر الجميل جاء إلى القاهرة ليبدأ قصة نجاح مبهرة، استوقفني وقال: حصلت على الثانوية العامة بمجموع 98%، وكان التحاقي بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية حلماً حققه الله لي، وسكنت بالمدينة الجامعية للجامعة، كنت محملاً بثقافة المصطبة، ولمن لا يعرفها فهي دكة من الطوب اللبن ترتفع عن الأرض بنحو نصف متر وتلتصق بواجهة الدار من الخارج، وكل العابرين يلقون السلام ونحن جلوس عليها، وتعلمنا من الكبار الحكمة ودروس الحياة، وتناقشنا طويلاً في أحوال البلد على المصطبة.
كنت أناقش أساتذتي في الكلية بذات الطريقة التي أناقش بها حكماء القرية على المصطبة، فانبهروا بعمق تحليلاتي للقضايا السياسية والاقتصادية في مصر والوطن العربي والسياسة والعلاقات الدولية، منطلقاً من كتب كثيرة قرأتها في هذا المجال قبل التحاقي بالكلية.
ارتفعت أسهمي بين أساتذتي وأيضاً بين طلاب الكلية، خصوصاً أنني كنت أحضر مؤتمرات الأحزاب وندواتهم وأعلم أدق أسرار هذه الأحزاب لتكويني صداقات مع كبار الحزبيين في مصر.
في الإجازة الصيفية كنت أعمل بالمعمار وأحيانا (التراحلية)، الذين يطلقون عليهم عمال التراحيل، فاكتسبت خبرات حياتية كبيرة من خلال احتكاكي بهذه الطائفة، وكان يدرس معي في الكلية ويعمل معي في (التراحلية) زميل هو الآن من كبار الكتاب السياسيين في مصر وحاصل على الدكتوراه ويقوم بالتدريس في الجامعة الأمريكية، وقد حكى ذات مرة في مقال كتبه بجريدة مصرية مرموقة عن عمله بالتراحيل.
وتخرجت في الكلية بتقدر جيد جداً وكنت من الأوائل، لكن العمل بالسلك الدبلوماسي كان قد بعد مساره عني ، فسلم الصعود في هذا المضمار يحتاج إلى توفيق عظيم من الله سبحانه وتعالى وجهد يفوق ثقافة المصطبة ولكن عمق تراثها وإرثها الأصيل يعلو أي سلم حتى لو كان مستقره في القمر.، فلكل رزق مكتوب قبل أن يولد إلى أن يلقى الله، وأوقن تمام بأن لكل مجتهد نصيب.
التحقت بالعمل الصحفي بمؤسسة خاصة قامت بتعييني بعد عدة أشهر، لما لمسوه من اجتهادي الشديد في العمل ومعالجة أصعب المشاكل وأعقدها بفكر حكماء مصطبة قريتي، وبعد سنوات قليلة تم تعييني كرئيس قسم بالجريدة وتوليت العديد من المهام وأصبحت قيادة مهمة بالمؤسسة، التي أسندت لي مهمة تغطية أخبار جهة مهمة أيضاً.
من خلال تغطيتي الصحفية تعرفت بكبار المسؤولين وكبار رجال الأعمال في مصر، كنت أتعامل معهم كند، لم أرضخ لسطوة أحد، لم أخش سيف المعز ولم أرضخ لذهبه، فنلت احترام وثقة الجميع، فكنت الوحيد من الصحفيين الذي له الحق في حضور مناقشات اللجان المتخصصة في المجالات المهمة، ليس لتغطيتها إخبارياً فقط، بل لإبداء رأيي في الموضوعات التي تناقشها اللجان وإصدار توصياتها .
كان الأصدقاء والزملاء يتصلون بي ليستشيرونني في قرارات يعتزمون مناقشتها قبل إصدارها، وبسياسة وحكمة المصطبة كنت أرد عليهم بكل وضوح وصدق، لم أبخل على أحدهم بمعلومة أو نصيحة، وكان كبار رجال الأعمال يلحون علي لقبول إعلان للمؤسسة الصحفية التي أعمل بها، ورفضت جميع هذه العروض أيضا بسياسة المصطبة التي تعلمت منها وتعلم الجميع معنى الشرف والأمانة والاحترام، فنلت تقديرهم واحترامهم الشديد.
إنها المصطبة وقعدات حكماء القرية أكبر وأجل فائدة لا سيما لو اكتملت وتوجت بالتعليم وتحصيل العلم من شتى جامعات العالم.