أحببت مسيحيًا
بقلم: داليا الحديدي | كاتبة مصرية
– نشأتي كانت في مجتمع فهمه للدين نصوصي، فلم يُحَرضُني أحد صراحًة :”اكرهي الآخر”
لكنهم أخبروني أن المسيحيين بقرارة أنفسهم يبغضوننا، وأن أجدادهم الصليبيين حاربونا، فنتيجة ذلك، توقفت عن التطوع بوقتي لجمعية الكفيفات المسيحيات، حيث كنت أذهب لقضاء ساعتين للقراءة لهن.
-أفهموني أن الشيعة يتظاهرون بموالتنا للتُقية، فتوجست منهم.
– حذروني من الخطط التبشيرة لمدرستي الكاثوليكية، مؤكدين أن الكنائس تخزن الأسلحة، ونبهوني للتحوط من زميلاتي المسيحيات، فهن مشركات!
– بالجامعة، تمترس “رجل دين” خلف نصوص واهية، فحرّم إلقاء السلام على غير المسلم، وصارحتني سيدة أنها بصباها، قاطعت زميلتها ليهوديتها، وتوقفت عن سماع “ليليان مراد” للسبب ذاته وقالت أن فريد -للأسف- درزي. حتى الأفلام المصرية أظهرت اليهودي المدني بخيل، أخنف ومقظظ،أحسبهم يرادفون بين صهيونية ويهودية.
-سمعت من معارفي أن ليت هتلر حرق اليهود كافة! لكن لم اسمع دوي كسر القلوب سواء من التهكم على أسماء “ويصا، أبانوب، مكاري، اسطفنيوس، كيرولوس” أو من السخرية من منشورات النعي “رقد على رجاء القيامة” أو التنابذ بالألقاب “عظمة زرقاء” كما لم أسمع دويّ استغاثة الأفئدة الملبدة بالحسرة على الأحضان المتأخرة، لكني اعلم أن لسعات العداء تثمر غلالًا من الشناعات.
-مؤذن الزاوية كان يَسُب “بابن الرفضي” نسبة لمن رفضوا مبايعة معاوية، فاحترتت، أيكون التشيع لآل البيت سُبّة؟!
– بالغربة، نُصِحت بعدم استشارة دكتورة فاطمة، فهي رافضية، على ضلال! واعتذر لنا صاحب البناية لتأجيره للشقة المجاورة لهنود، عُبّاد بقر، أنجاس!
-مُعلمة ابنتي أفتت للطلاب بحرمة الاحتفال بعيد الميلاد والمولد النبوي، فكلاهما بدعة ، ضلالة، في النار،وبس المصير!
وأضافت:”ربنا يهدي أمك العاصية للحجاب”، كما حذرت الطالبات من تهذيب الحواجب، لأنهن سيكن ملعونات.
-مدرس الدين أفاد ابني أن عشقه لآلة “يوكليلي” سينبت النفاق بقلبه!
– صديقاتي في ا”لجيم” استنكرن دعوتي لفتاة أرجنتينية لتنضم “للبرانش” لاعتقادهن أنها “علمانية” أي قابلة لممارسة الفواحش!
-غرسوا فينا منذ الصغر أن الأتراك برمتهم “شاكب راكب” شعب دموي، فكنت أسافر، فأستمتع بروعة إسطنبول وبزهد أسعارها، ثم أتعامل بعداء مع كل أناضولي مدني، مسالم، محملة إياه ذنوب أجداده المستعمرين.
-لم يتم التحريض على كراهية “الآخر” بالسلطة الفارضة، لكن بالمشاعر الضاغطة.
بالانتقاء من الشرائع، لا بالحسام القاطع.
بالبيت الصامت على الصحفي المُتَبَوِّع.
بالكراهية المجانيّة، لا بالحُب المُكْلِف.
بقلوب متوثبة للنقد الإقصائي، لا بعقول مرحبة بثراء التنوع.
بالثقة في عنوان “الأهل”، لا أهلية خريطة العقل للوثوق بها.
بالقلم المأجور الساكت على قانون مفصل للزج “بالآخر” في الغياهب لو طُرح سؤالًا خارج المنهج.
-أكان الصواب قتل “د.مصطفى محمود” أثناء مرحلة شكه، أما أن إعطاء الإنسان فرصة للبحث عن الله أكسبتنا مفكرًا؟
■
لما يحرصون على تعليمنا مادة التباغض والتباعد في أجواء الفرز والإقصاء على خلفيات اللون، العرق، الجنس، الاقتصاد، الدين، بل والمذهب.
-أيريدون أن يشربوا في قلوبنا عبادة الخصومة أم يعتقدون أنهم مكلفون إيمانيًا بكراهية “الآخرين”؟
– أتوسوس عقلية القطيع “للألترس” بأن هجومهم بالسبّ على الزمالك ينهض برهانًا لانتمائهم للأهلي وأن بُغْض اللقالق اليابانية يُدمغ ولائهم للحمام المصري؟
-أكلما بخست قيمة الزعفران الشيعي تحسب أنك تُعلي ثمن القطن السنّي؟
-أيستعيضون بمشاعر العداء المجانية عن العبادات المُكلفة؟ أترشى السماء بصاع من البغضاء؟
-قالوا أن “اختلاف الرأي لا يفسد للود قضة” لكن الواقع أثبت أن الاختلاف يُنسف قضية الود، بدليل أن المسلمون يغتربون ويعودون، بينما يهاجر “الآخر” دون رجعة، فلو كانت شمس المشرق دافئة، ما احتموا بمعاطف الغرب.
-كان لصديقتي جارًا، يزورهم ليلعب معها وأخيها، إذ كان لديهما أرجوجة كبيرة وذكريات أكبر.
بالتسعينات، انضم الجار لجماعة متطرفة، فبات يبصق عليهما كلما صادفهما،!
هاجرت صديقتي لتعيش بكرامة، فالأمان اجتُث من جوف الجيرة، وهكذا معطيات لا تنبئ بتعايش أدمي؟
-أضع نفسي مكان زميلي “بشاي” فأتخيل أني أحكي لابنتي عن مقابلتي لمسلم طيب ألقى عليّ السلام.
نحن بحاجة لنوعية من البشر لها سقف طموحات شدييييد التواضع لتقبل العيش في مجتمع لا يُرجى من خِياره سوى الترحم على موتى “الآخرين”.
-أين معلمتي القديرة التي أفنت عمرها في تربية أجيال؟
هاجرت وأرسلت لي صورة لبطاقة معايدة أهديتها إياها عشية عيد الميلاد أيام المدرسة.
رحلت حاملة معها بطاقتي..أليس هذا حارقًا للقلب؟
-مضى العمر، فتبين لي أن كنائس وطني نظيفة من السلاح بل استهدفت بنيران صديقة، ومع هذا، أعلّت الكنيسة أمن مصر فوق كل اعتبار. فبدت كجسد هزيل يمنعه من التأوه إلزامه بزي يجب أن يظهر مشدودًا ليعطي انطباعًا بالصحة.
– أدين بالحب لمدرستي الكاثوليكية، وستظل الأم “ماري بيار” أرحم من قابلت من البشر، فلطالما استدعت أهلي وطالبتهم بعدم تعنيفي مهما أخطأت.
– زميلاتي المسيحيات والمسلمات قاسمنني المحبة كأخوات، ومعهن، شاهدت الكثير من ممارسات التسامح وضبط النفس واستيعاب الآخر.
شكوت يومًا لإحداهن من عدم تفهم والدتي لاحتياجي لإزالة الشعر الزائد من جسدي. باليوم التالي، أهدتني منتج مخصص لهذا الشأن..عاملتني كأخت.
– فريدة، وجورج، جيراني، قاما بتوصيلي وتأميني من وإلى المدرسة.. تحملاني بهنّاتي لسنوات.
– جيراننا الهنود -عُبّاد البقر- هم من أغاثوني يوم نشبت النار بداري، عرّضوا حياتهم للخطر لإنقاذ أسرتي.
– أستاذتي “د.ريتشل” الكولومبية ساعدتني بلطف لتجاوز صعوبات مادة الإحصاء .
– الأرجنتينية “العلمانية” كانت خلوقة ورأيتها تتبرع أسبوعيًا بعدد من الساعات للعناية بالمسنين بإحدى الجمعيات الخيرية.
– ممرضتي الفلبينية كانت تحضر لي حفنة تراب للتيمم أثناء مرضي.
-الدكتورة الرافضية أعطتني رقم جوالها وأكدت على ضرورة مهاتفتها لو طرأ عارض على رضيعتي.
-ولن أنسى وقوعي في حب سائق إيراني مُسن، وشم الصليب على رسغه، رفض قبول الأجرة مني لما علم بمصريتي.
وساعة لمح هواجسي، فتح جواله على تطبيق الترجمة، لأقرأ ما كتب
:”أردت إكرام سيدة استضاف وطنها الشاه، يوم رفضه العالم”.
-مع الأتراك، أدركت غباء استدعاء عداوات الأمس مع المدنيين، فلِما نُحَمِّل قلوبنا مخلّفات كراهية بأثر رجعي، ثم ما ذنب أحفاد عثمان بصنائع الجد؟
أتقبل أن يعاديك أحدهم لأن جد أجدادك احتل أرض جد أجدادهم؟
-شيء في صدري يود دك جسور الكراهية والتَّبَرُّؤ من نسب العلاقات التي ترسخ للظلم.
ملعون سهم العداوة في تَرِكَة السلف، فحريّ بنا ترك الماضي نؤوم.
■
-بت أوقن بخبث الدعاوي المروجة لكون معايدة “الآخرتعد نوع من التسامح.
إيستدعي اعتناق أنسان لمعتقد مخالف لي للتسامح، وكأنه أذاني لمخالفتي الرأي، وأنا من منطلق استعلائي، سأسامحه؟
– اليوم أبكي بأثر رجعي كل إنسان له مِلة أو بلا ِملة، أبيد في مَحَارق النازي أو بسواها من محارق الرفض الإجتماعي.
فمن لا يبكي ذبح المسيحي، المسلم أو حرق اليهودي أو تعذيب اللا ديني، فالتتبرأ منه إنسانيته.
اليوم أحب المسيحي، اليهودي، اللا ديني، أحب الإنسان، وذراعي على مصراعيها تحتضن طوائف الكون..رحمة بالعالمين.
اليوم أفهم مُراد الرومي:
أنا كالفرجار،
بينما أقفُ بساق ثابتًا على شريعة الإسلام
أدورُ بالأخرى على اثنتين وسبعين مِلة