ما مصير أدب الرحلات؟

علي جبار عطية| كاتب عراقي
دُهشت حين ضمني مجلس مع أحد زملاء المهنة حين عدَّدَ لي عددَ البلدان التي زارها خلال عقدين من الزمن فقد زار أغلب الدول المنضمَّة إلى الأمم المتحدة لكن من دون أن يكتب عن هذه الدول ولو صفحة واحدة !
قارنت ذلك بمَنْ يكتب عن تجاربه الشخصية أولًا بأول، وينشرها على مواقع التواصل الاجتماعي بل حتى يكتب عن إصابته الزكام، أو حصول ابنته على درجات عالية في الشهر الأول من الصف الأول الابتدائي !
كان السفر خلال الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينيات حلمًا من الأحلام، محفوفًا بالمخاطر، ويمكن أن يتعرض الراغب فيه إلى استجواب أمني لو تحدث به؛ لأنَّه يعني ضمنًا الرغبة في العيش ببلاد ليست فيها تماثيل وصور للطاغية، ولا للرأي الواحد!
صارت حرية السفر بعد سنة ٢٠٠٣م متاحةً للجميع، ولله الحمد من دون أن نضطر إلى دفع ضريبة باهظة أو نراجع دائرة التجنيد.
لكن تبقى المتاعب والإزعاجات حسب ظروف كل مسافر كمًا ونوعًا وطولًا وعرضًا، وما يخص موضوع المقال هو التساؤل عن مصير أدب الرحلات بعد تحول أغلب المسافرين إلى سياح !
يقول الدكتور ياس خضير البياتي في تقديمه لكتاب (يوميات أرمينيا ـ بلد الكنائس والمتاحف والمشاهير)/٢٠١٨ لمؤلفه الدكتور أحمد عبد المجيد:(ولعلَّ المسؤولية الأساسية عن تخلف أدب الرحلات حاليًا، كما اتفق عليه كتاب الرحلات، ترجع إلى حرمان المسافر من تجربة الرحلة الحقيقية بكل ما فيها من عمقٍ وإثارةٍ واكتشافٍ فقد أصبح السفر سهلًا ومتاحًا لكل الناس، وفقد المسافر خصوصيته فيما يسمى بالرحلات الجماعية المنظمة سلفًا، مما جعل “السائح” الحديث يحل محل “الرحالة القديم” ، فالرحالة يعني التميز والفردية والأصالة والعمق، والسائح هو المتابع السطحي الذي ترك أمور رحلته بيد غیره، يرى بعيون من نظم الرحلة، ويفهم ويصدر الأحكام المتعجلة النابعة من الآخرين وليس من ذاته، فهذا التحول من الرحالة إلى السائح يعد أحد أهم أسباب تراجع أدب الرحلات حاليًا. يضاف إلى ذلك تقدم وسائل الاتصال خصوصًا التليفزيون والإنترنت بحيث يظن مستخدم هذه الوسائل أنَّه يعرف كل شيء عن العالم، وأنَّه زار كل مكان في العالم، وهو جالس في بيته لم يتحرك من مكانه أمام شاشة التلفزيون أو الكمبيوتر) ص ١٠
تابعتُ بعض الكتابات في أدب الرحلات خلال السنوات الماضية لأدباء وكتاب مهمين كالدكتور المهندس عدنان جبار الربيعي في كتابه الشائق (رحلة الشتات والصين)/٢٠١١م، وسعيد الروضان في كتابه (٢٨ يومًا في الهند.. رحلة البحث عن شخصية روائية)/٢٠٢٤م، وحمدي العطار في كتابه (مدن في عيون كاتب عراقي)/٢٠٢٥م وكذلك الرحالة باسم فرات الذي غادر العراق عام ١٩٩٣ وزار نحو أربعين بلدًا منها الأردن، ونیوزیلندا، واليابان، ولاوس، والإكوادور، والسودان وأصدر عددًا من كتب أدب الرحلات مثل (لؤلؤة واحدة وألف تل.. رحلات بلاد أعالي النيل)، و(مسافر مقيم.. عامان في أعماق الإكوادور)، و(الحلم البوليفاري.. رحلة كولومبيا الكبرى)، و(لا عشبة عند ماهوتا.. من منائر بابل إلى جنوب الجنوب)، و(طواف بوذا.. رحلاتي إلى جنوب شرق آسيا) وغيرها، وقد تُرجمت أعماله إلى عدة لغات منها الإنجليزية والإسبانية، والألمانية، والرومانية، والفارسية، والصينية، واليابانية.
وتوقفت عند (كتاب الأسفار) للدكتور عبد الله إبراهيم، وقد صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت عام ٢٠٢٢ م، بلغته الأخاذة الجزلة العميقة التي تمس شغاف القلب، وتناغي العقل، لكنَّه يقول في الصفحات الأخيرة من الكتاب : (وإذ أطوي كتاب الأسفار إلى أوروبا وأمريكا، فأباشر طرح الأسئلة عن الغرض من رحلات أخذتني إلى بلاد كثيرة، ومنها السؤال الجوهري الذي تخلّل صفحاته، وباستثناء رحلة أمريكا التي تغلّب الاهتمام فيها بالظاهرة الاستيطانية، وما عدا ما مررت به من زيارة المتاحف، والقصور، والقلاع، والمروج، في أوروبا، فقد استأثرت الكنائس بحصة الأسد في هذه الأسفار).
إنَّ عدم تدوين المشاهدات والانطباعات من الأدباء والكتاب استسهالًا أو كسلًا أو اتكالًا على غواية الصورة أفقد التاريخ والأدب والصحافة الكثير من التجارب الإنسانية العميقة والوقائع والأحداث الساخنة وغيرها، مما يدعو إلى عدم الاعتماد على وهم التكنولوجيا في التوثيق فالبقاء يبقى للكلمة.




