مصرية في السودان.. علاقة حب شوشها التنميط
قراءة الكاتبة: وداد معروف | مصر
رواية “مصرية في السودان” للكاتب السوداني “الدكتور صلاح البشير”, صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2018, وهذا من دلائل العلاقات المصرية السودانية المتينة، أنها صدرت عن مؤسسة حكومية مصرية، وإن شوشت عليها بعض الأقاويل المغرضة والنمطية من العابثين هنا وهناك.
نبدأ من الغلاف والذي رُسمت عليه صورة وجه امرأة قُسِّم للونيين نصفه بلون أسمر ونصفه بلون قمحي, كما انقسم شعرها لمجعد ومسترسل, وكأن الوجه يقول مصر والسودان بلد واحد وإن اختلف ظاهر ثقافتهما لكنهما في النهاية شخص واحد بلد واحد لا ينفصمان, عندما سألت الدكتور صلاح البشير في ختام حواري معه في القاهرة, ماذا تتمنى؟
– قال: أن تكون مصر عضدا للسودان! ابتسمت وقلت:
– السودان في عقلنا وقلبنا كشعب هذه حقيقة لا أجاملك, مهما أصابت العلاقات بين البلدين زوابع وأنواء إلا أنها في العقل الجمعي المصري بلدنا الثاني وأهلنا الطيبون الذين نحبهم. وكلامي هذا ليس من العبارات النمطية.
كانت هذه المقدمة هامة جدا قبل أن نلج إلى أحداث الرواية وفك شفرتها.
في هذه الرواية رمز كاتبنا لمصر بجلنار؛ ابنة سفير مصر في السودان التي دخلت جامعة الخرطوم لدراسة الطب, دخلت مع حراسها الأشداء، لا تدري شيئا عن هذا المجتمع الذي ستدرس فيه لأربعة أعوام, ارتعبت من موقف الدكتور الذي طردها من المحاضرة الأولى, ومن طرد حراسها الأشداء, ومن موقف الطالب صدِّيق الخير الذي ينتمي للتيار الإسلامي المتشدد وتهكمه عليها وعلى حراسها, ثم مهاجمته لمصر لحيازتها – باعتقاده ــ لأرض حلايب وشلاتين التي يراها سودانية, كل هذا أشعرها بالرهبة وبصعوبة التعامل, لكنها لم تيأس وتعاملت مع زملائها الطلبة والطالبات, زينب وغادة السماني وسلمى إبراهيم, وعماد الكنزي, وهشام الشيخ وكمال سنتر, فوجدتهم طيبين عفويين مدافعين عنها, فتألفت معهم وتكونت بينهم صداقة متينة وشاركتهم أكلاتهم الشعبية السودانية الفول الزردة والفول الكاربيه والعدس, وطبق البوش, جلست معهم في مقاهي الجامعة وخارج الجامعة, ضحكت وهي تعرف من زينب لماذا أطلقوا على حدائق يرتادها المحبون (حبيبي مفلس) يشربون فيها الشاي يتونسوا شوية – حسب تعبيرها – ثم يعودون لبيوتهم, كان يحلو لزملائها السودانيين أن ينادوها ببهية المصرية, ذهبت معهم لسوق الناقة، الذي يشبه الأسواق الشعبية المصرية, نمت قصة حب بينها وبين الفتى السوداني زميلها هشام الشيخ, أدهشها بعقله الرحب الذي يتقبل الاختلاف ويقنعها بمنطقه في الحجاج, كان يجيد توصيف المشاكل وصياغة الحلول, كانت مغتاظة من ذلك الطالب الذي تحدث عن مصر بأنها محتلة لحلايب وشلاتين, فناقشها هشام الشيخ في القضية وأقنعها عندما قال إن هذا الامر تحكم فيه المحكمة الدولية، ويجب أن تتعامل فيه السودان كما تعاملت دول عربية أخرى في جزر مشابهة, القضية أن الحكومة السودانية لا تدير الأمر جيدا, كان هشام يحدثها عن السودان ولغاته ولهجاته, وعن تاريخه القديم والحديث وعن حاله اليوم, أدمنت حديثه وحواراته, كما تعلق هو بها, لم تسأله عن عائلته ولا عن أي شيء يخص حياته, اكتفت بحبها له, كثيرا ما كان يغني لها أغاني مصرية وسودانية, بجانب كل ميزاته كان صوته حلوا كما كانت تقول له دائما.
الرواية تناقش العلاقات المصرية السودانية من خلال قصة الحب بين بهية المصرية (جلنار الألفي) ابنة السفير، وهشام الشيخ الفتى السوداني المثقف النابه, طُرحت من خلال هذه القصة أسباب توتر العلاقات المصرية السودانية, الإعلام واللبس الذي يضعه في الأخبار، بقصد، وبعض المتطرفين من الجهتين الذين يعلنون كراهيتهم ويشحنون الأجواء بهذه الكراهية, لكن هشام الشيخ، صوت الحياد، وصاحب النظرة المنصفة، يعلن في وجوههم أنهم ليسوا مخلصين لوطنهم، وإنما يتلقون أموالا مقابل هذا الهجوم، كما هو مع صدِّيق الخير المتشدد، الذي أزعجها بصراخه أول دخولها للجامعة, تطرقت الرواية إلى الرياضة وتأثرها أيضا بهذا الشحن, قد شرح الكاتب بإسهاب أجواء المجتمع الرياضي، وذلك ينبع من معرفته لكرة القدم؛ تللك اللعبة التي كتب عنها رواية بعنوان (المجنونة التي عشقناها) واستعرض المؤلف أحداثا تاريخية بين السودان ومصر, كمقال رفاعة الطهطاوي عن السودان وأهله, ودور محمد محجوب في إصلاح العلاقة بين مصر والسعودية بعد حرب 1967, ثم موقف الرئيس جمال عبد الناصر من الانقلاب السوداني بقيادة جعفر نميري, الحقيقة أن الكاتب فتح ملف العلاقات المصرية السودانية وناقشه بصوت هادئ لا تعصب فيه وهذا يحمد له.
اعتمد الكاتب على الحوار العامي الذي يجمع بين لغة الراندوك الشبابية في السودان ولغة الروشنة للشباب المصري, ووضع هامشا أسفل الصفحة لشرح معاني الكلمات, أراد أن يمزج بين اللغتين ليوصل إلى القارئ رسالة مفادها أن هذين الشعبين لحمة واحدة, كما جعل صديقة لجلنار (بهية المصرية) تعشق اللهجة المصرية وتحاول أن تتكلم بها مع جلنار, تنجح أحيانا وتخفق أحيانا, كما جعل هشام الشيخ يغني كثيرا من الأغاني المصرية والسودانية أيضا, لكنني تعجبت لغنائه أغان قديمة لا يعرفها جيل الشباب الآن مثل: (فلاح كان فايت بيغني من جنب السور) كما جعلها تشجع النادي الأهلي المصري مع ناديه السوداني الذي يشابهه في السودان, أعجبني في الرواية تصوير الشعبين واختلاف مظاهر ثقافتهما بالتشبيه الذي صوره في حواره مع جلنار الألفي, وهو يصف لها طبيعة المصري والسوداني, بأن السوداني لو استضاف أحدا فإنما يدعوه لبيته ويقدم له ما لذ وطاب, أما المصري فإنه يدعوه للمطعم ويطلب له أفخر الأطعمة, كلاهما كريم لكن كلٌ بطريقته, كما وصف لها السوداني في الغربة حين يرسل لأمه مالًا فإنها تدور بالمال توزعه على خالاته وأقاربه, أما الأم المصرية فإنها تدخره لابنها لا تنفقه حتى يعود وتساعده به, كلاهما حنون لكن كلا منهما تتصرف بمفهومها للحنان, فعلينا أن نتقبل الاختلاف لأنه طبيعة شعوب, هذه من الرسائل التي أراد الكاتب إيصالها لنا.
أعجبتني أيضا تلك العبارة على لسان هشام الشيخ (أصيب بحمى العشق فماتت كل النساء في قلبه إلا هي)
أخذتُ على الرواية إسرافها في لغة الروشنة والراندوك, كنت أتمنى أن تكون في الرواية كما يعطى الطعام من الملح, موجودة لكن بقدر, كما أخذت على الكاتب أنه أنطق جلنار ابنة السفير حوارا لا يكون مع مثلها من بنات تلك الطبقة الراقية, فهؤلاء لا يقلن, بهيظت الفهايص, هشام متسلطن في بخشبور ألبي, يطرمخ, قالوا طور يقولوا احلبوه…إلخ, هؤلاء كلامهن بالشوكة والسكين مثل أكلهن, لو أن هذه اللغة مع فتاة من الأحياء الشعبية لقُبِلت, لكن ابنة سفير لا تتفق وطريقتهن في الكلام, ولا ابنة خالتها أيضا, لأنها نفس المستوى الاجتماعي, كما أن شخصية أسمهان ابنة خالة جلنار وترديدها دائما لعبارة (جاتنا نيلة في حظنا الهباب) هذه العبارة لها دلالتها السِّمَّاوية في الثقافة المصرية, لا يقولها إلا حاقد, والملاحظ من شخصية أسمهان أنها محبة لابنة خالتها, لا تحقد عليها, فلو قالتها مرة واحدة لقلنا إنها تمزح, لكن أن تكون ديدنها من بداية الرواية وحتى آخرها, فهذا يتنافى مع بناء شخصيتها, ويثير علامة تعجب كبيرة، كما أنها فرطت في خطيبها الذي كانت هي وهو على مشارف الزواج, لمجرد ظهور ممدوح شقيق هشام الشيخ ومراقصته لها وإهدائه لها العقد الألماس, ولوحة بورتريه لصورتها قد رسمه لها، فهي انتهازية وليست سوية, كما صورت لنا الرواية, أما عبارة أسمهان وانبهارها بممدوح الشيخ وموهبة الرسم لديه فتقول تلك العبارة العجيبة (إنت بترسم وأخوك بيغني… الله يكون في عونا إحنا اللي معندناش مواهب!!!!!!!) وأسأل الكاتب كيف هذا ولن أزيد؟
في النهاية تحية للكاتب الكبير دكتور صلاح البشير على رائعته “مصرية في السودان”, ودعوات له بدوام الإبداع, وإلى لقاء مع رواية أخرى لكاتبنا الكبير.