أدب

حساسية الروح الشعرية

قراءة في ديوان (أنين) للشاعر ياسر الغانم

أ.د. رائدة العامري/ العراق

        تحظى اللغة بشتّى ضروبها ومستوياتها وطبقاتها بالأهمية الأكبر والأدق والأكثف إبداعياً في حقل الشعر على نحو خاص، وفي الشعر العامّي”الشعبي”تدخل اللغةإلى أدق المفاصل الخاصة بالوجدان والعاطفة والإحساس؛ لأنها تعبّر عن جوهر الحال الشعرية والإنسانية للشاعر حين يتعامل مع اللغة بوصفها جزءا لا يتجزأ من عمق التجربة، وتتجلى هذه الصورة على نحو واضح في ديوان الشاعر ياسر الغانم الموسوم بـ”أنين”، ولا شك في أن شعرية العنونة باختزالها واكتفائها بلفظة نكرة مفردة تدلل على ما تنطوي عليه لفظة “أنين” من حمولة دلالية كبيرة، فهي تعبّر عن ألم يصل إلى مرحلة صوتية يكون فيها التعبير عن جوهر الألم في درجة تبعث على الحزن المستمر الذي لا يوقّف.
تتصدّر الديوان عتبة تصديرية تتمثل في بيتين شعريين هما:
من بين أشيائي وأشياء لك جيت
آلملم اوضاعي وأوضاع من ضاع
ما هزّ ضلعي كثر ما هزّني البيت
يومه خلا من دمعتي وسط لـَ وْجاع
تحيل هذه الصورة الشعرية في هذه العتبة على ما يشبه البكاء على الإطلال في الشعر الجاهلي، حيث يقوم الشاعر بالعودة وجدانيا إلى حالة من حالات الرحيل الذاتية أو الموضوعية في إطار فعالية التذكّر، والتعبير عن طاقة الألم التي ترتفع هنا إلى أعلى درجة من درجات الإحساس المكاني المشحون بالضياع، بحيث تبدو الذات الشاعرة في أعلى مستوى من الإحساس بالوجع على ذلك البيت الذي خلا من دمعته، لأن هذه الدمعة هي التي كانت تمنح ذلك البيت قوة وجوده المكاني في الذاكرة الشعرية، بما يعني نوعا من التفاعل مع صورة من صور الشعر الجاهلي في عصوره الشعرية المزدهرة.
وثمة عتبة أخرى في هذا الديوان لها حضورها الواضح في التجربة الشعرية هي عتبة الإهداء التي يقول فيها الشاعر:
إلى تلك الوجوه التي مرّت بي وتركت في نفسي ألقاً
للأنين والتشظّي.
إلى أحبائي القريبين منّي والغائبين الحاضرين دوماً.
إلى كلّ من يقرأ هذا الأنين الذي يسكنني ويكتبني بصمته
إلى وحدتي المنسية.
إلى:
ما قلت لك حالي من سنين تعبان
وأني أموت اليوم مليون موته
وعلى الرغم من الصورة الشمولية الظاهرة على عتبة الإهداء في تكرار الحرف “إلى” وقد شمل كل تلك الوجوه التي تركت ألقاً في نفس الشاعر، أو الأحبة القريبين الحاضرين والغائبين، أو وحدة الشاعر المنسية، لكن الضغط العاطفي الهائل في البيت الشعري الذي جاء جزء من الإهداء بحضور الدوال “تعبان/أموت/مليون موته”؛ يكشف عن المحنة التي يعيشها الشاعر وكأنه يهدي ديوانه (أنين) إلى موته الشخصي المتكرر، وما هذه الإهداءات الموجّهة إلى الآخرين خارج ذاته سوى محاولة للتقلييل من حجم هذه الأزمة أو المحنة، التي يريد الشاعر فتح أفق القراءة عليها في قصائده القادمة.
تتصدّر عتبة تقديمية أخرى بعنوان “تقديم” كتبها خميس الغافري جاءت بمثابة تقريض لعمل الشاعر في هذا الديوان، مؤكدا على كثير من الخصائص الفنية النوعية في قصائده، على صعيد اللغة والصورة والأداء والرمز والأداء الشعري المختلف بالطريقة التي يدعو فيها القراء إلى قراءة هذا الشاعر المتميز، وهي عتبة ترويجية مهمة درج على توظيفها والإفادة منها كثير من الشعراء، وهي يمكن أن تحمل بعض مفاتيح القراءة التي يمكن أن تساعد القارئ في الوصول إلى جواهر التجربة ومنطلقاتها الأساسية، ضمن ما تحمله هذه التجربة من خصوصية على مستوى الفاعل الذاتي الشعري أو الفاعل الموضوعي الشعري.
القصيدة الموسومة بـ “يوسف” تحيل في القراءة الأولى إلى النبي يوسف الصديق وتجربته وقصته المعروفة في القرآن الكريم، على الرغم من أن قصة يوسف بتجلياتها المختلفة والمتعددة يمكن أن تنطبق على تجارب أخرى ليوسف آخر أو يوسفيون آخرون، فيحاول الشاعر هنا توظيف جزء من هذه القصة القرآنية على هذا النحو:
يوسف هذاك اللي ملك قلبي وثم راح قله فدى أهلك عسى يرأف بحالي
ما شفتني ميت مع الأحياء مرتاح عايش معه ضايق مع الأموات بالي
لا طاب لي سجن ولا طابت دنا صاح مستوحش الدنيا ببعده شوف فالي
من عام ألفين وسبعه ضامر أفراح واليوم تــايه بالحــزن حتــى الهبالي
يوسف دخيلك لا تجيني والأجل لاح قله أمانه من عقب دفنــك وصــالي
ياسر غدى ما بين بيتك غايب اتراح مستأنس ابفكره بخيالك وانـت سالي
إن الذات الشاعرة التي تروي التجربة في هذه القصيدة من عتبة هيمنة شخصية يوسف على قلب الراوي الشعري، وهو على هذا النحو بين الحياة في الموت أو الموت في الحياة داخل إشكالية لا يمكن أن تتحقق إلا في هذا السبيل، ولعل علامة ذكر “سجن” في مضمونها الشعري الخاص بتجربة القصيدة يحيل على تجربة سجن النبي يوسف في قصته الشهيرة، فتلتئم التجربة حول شعرية الحزن وما تنطوي عليه من قيمة دلالية من خلال شبكة من الصور الشعرية، تتراوح بين الفضاء الحكائي والفضاء السردي من أجل الصعود بالحالة الشعرية إلى أعلى مراحل الحساسية الدرامية، وهي تتحرك بين الواقع والخيال في حراك شعري متدفّق ضمن رؤية إيقاعية تقوم على طبيعة التراكم الشعري الدلالي، حيث تبقى صورة يوسف ماثلة في الجوّ الشعري للقصيدة من خلال مجموعة من العلامات، التي تؤدي دلالات متنوعة تهدف في النهاية إلى استكمال بناء القصيدة بما يستجيب لأفق عتبة العنوان.
أما قصيدة “الوقت” بعنوانها المعرفة المفرد فهي تحيل على شكل من أشكال الزمن العالي التداول في الاستخدام اللفظي الشعبي:
الوقت أكبر من متاهات الصدور والعمــر لحظه كــل ما في عمرهــا طي
والحب أسمى من تعابير السرور واسْمَى مَنَ احساسَ الأماني والعطا مَي
والحلم يبقى دام له بالصدر نور وسط الغياب اللي هنا واللي بطى حي
حَيَّ الْغِيابَ وَحَي ما بالحلم دور يـوم اركزت لي رايـة في حضرتـه في
قبلت لــه وجهي وأهديته جسور والعيـــن ما غاضت رمــوش بحرها لي
انته الوفا وانته الأمل بالجد سور وانتــه على هالوقـت أعظم فرحنا هي
تتحرك القصيدة في فضاء زمني يتكوّن انطلاقا من شعرنة فكرة “الوقت” على النحو الذي تظهر داخل هذا الفضاء مجموعة من الدوال، أول هذه الدوال هو “العمر/عمرها” بما يحتويه هذا الدال من قيمة دلالية واعتبارية على مستوى فهم الزمن، وثاني هذه الدوال هو دال “الحب” بآلياته الكثيرة “من تعبير السرور/إحساس الأماني/العطا”، ودرجة تأثير هذا الدال في صياغة مفهوم الزمن الذي يتجسد هنا داخل فكرة الحب، ثم يأتي دال “الحلم” بوصفه عنصر تنوير شعري للتجربة “يبقى دام له بالصدر نور”، مقترناً بدال “الغياب” بوصفه عنصر تأثير يحرج الحضور في تشكيل الصورة، على النحو الذي يؤسس لجدل واضح وأصيل وفاعل بين الدالّين، على صعيد تقديم فكرة الزمن في سياق هذه الدلالات تعمل على نحو متكامل ومتدخل وصولا إلى جهل الزمن فكرة شعرية في مضمونها التعبيري.
ثم ما تلبث شخصية الأنا الشاعرة أن تظهر بحساسية جسدية واضحة “وجهي/العين/رموش” بدلالة ذات قوة حضورية خاصة، ليتحوّل الوقت في هذه الصياغة إلى قيمة وجدانية عاطفية تنتج في البيت الأخير من القصيدة طاقة إيجابية فريدة “الوفا/الأمل/فرحنا”، على النحو الذي يجعل من الوقت فاعلاً شعريا في الاستجابة لمقولة القصيدة في تعزيزها للفهم الخاص للزمن الشعري داخل فضاء القصيدة.
تتمحور القصيدة الموسومة بـ “لا جديد” حول فكرة نفي الأشياء كلها من أجل التمركز حول إثبات شيء واحد فقط، ولا سيما أن اللفظة العنوانية المنفية “لا جديد” ذات طبيعة شعبية على مستوى الاستخدام التداولي، حين يرغب القائل في التعبير عن حالة شديدة الرتابة لا تحتوي على أي أمل بالتغيير والتجديد، لكن القصيدة لا تخضع لهذه المقولة تماماً؛ بل تفيد من جزئها الأول في نفي الجدة عن الأشياء كلها باستثناء فكرة الحب:
لا جديد
يا حياتي لا جديد
ولا أماني تعبر الدنيا وتأتي
في سباتي أو سكوني أو مماتي
لا جديد
غير جرحي لي خفيته
ينبت ابجوفي تهاني
تحضن الدمعة تباني
والمباني
الــــ…
ولا أقل لك
ليه أقل لك؟
والجفون تحكي حالي
يا جفوني
لحظة لحظة
لين اتنهد متوني
واترك أحزاني تعاني
لا جديد ولا مفيد
غير حبك ذا كواني
والسوالف لي تهاوت
من قريب ومن بعيد
تلفح انفاسي وربعي
وأنتي أنتي
بين ضلعي والحنايا
ما زهرتي إلا حبك
إلا حبك
يا حياتي
إلا حبك
وتبدأ القصيدة بتكرار لفظ العنونة المنفي “لا جديد” متوجها بالخطاب نحو الحبيب “يا حياتي لا جديد”، ثم يأتي التفصيل السرد-شعري لهذا النفي مقترنا بخفوت صوت الأماني العابرة للدنيا “ولا أماني تعبر الدنيا وتأتي”، في الأحوال التي تكون عليها الذات الشاعرة وهي تنطلق بخطابها نحو الآخر الحبيب “في سباتي أو سكوني أو مماتي”، ثم ما يلبث التفصيل أن يصل إلى تكرار الجملة المنفية العنوانية “لا جديد”، وهنا يظهر التفصيل في حضور الجرح “غير جرحي لي خفيته” الذي يمتلك القدرة على أن ينبت في جوف الحبيب على شكل تهاني “ينبت ابجوفي تهاني”، بما يجعل الحال الوجدانية العاطفية في أعلى استجابة “تحضن الدمعة تباني/والمباني/الــــ…”، على النحو الذي يعزل فكرة القول وينفيها تماما “ولا أقل لك،/ليه أقل لك؟”، لأن الحال الشعورية لصاحب الخطاب واضحة جسدياً بما يجيب على السؤال الشعري.
إن حالة الحزن التي تهيمن على فضاء الشخصية الشعرية وهي تروي الحدث تبدأ من دال “الجفون” في دلالة على الشروع بالبكاء “والجفون تحكي حالي/يا جفوني/لحظة لحظة”، وتنتقل حالة الحزن من الجفون وحراكها الدلالي نحو أجزاء جسدية أخرى “لين اتنهد متوني/واترك أحزاني تعاني”، وصولاً إلى مضاعفة طاقة النفي العنواني وزيادته “لا جديد ولا مفيد”، وهنا يظهر الاستثناء العامل شعريا خارج فضاء النفي العنواني بعدم وجود أي شيء جديد “غير حبك ذا كواني/والسوالف لي تهاوت/من قريب ومن بعيد/تلفح انفاسي وربعي”، فالحب هو الشيء الوحيد الذي لا يشمله نفي الجديد لأنه يتجدد دائما بلا حدود ولا توقف.
تظهر شخصية الحبيبة من خلال مخاطبتها عبر التوجّه نحوها بشكل متكرر “وأنتي أنتي/بين ضلعي والحنايا”، حيث يتحول هذا الحب إلى ملاذ ومصير لدى الشاعر بما يمكن أن يقول فيه الخطاب أنه لا جديد في الدنيا سوى هذا الحب “ما زهرتي إلا حبك/إلا حبك /يا حياتي/إلا حبك”، وهذا التوكيد يولّد إيقاعا شعريا خاصا يتناسب مع حركة الصورة الشعرية وهي تؤدي الوظيفة على أمثل ما يكون، من خلال تحويل العالم كله إلى فضاء سالب لا جديد فيه؛ ويعيش في حالة من الرتابة يشكو منها الجميع، بينما قصة هذا الحب بهذه الصورة التي يتجسد فيها داخل القصيدة يرسم مسار مغايرا لحركة المجتمع في الخارج.
وتعمل القصيدة الموسومة بـ “غياب” على نوع من المونولوج الشعري الذاتي يجعل من فكرة الغياب الذاتي عن المحيط شاغلا مهما من شواغل الشاعر والقصيدة، بما يجعل الشاعر يقوم بمراجعة ذاتية لشخصيته الشعرية أقرب إلى المحاسبة وجلد الذات:
ما عاد فيني من أماني ورميت هـذه ضلوعي كونت من سكوتي
برج وإمارة داخل النفس والصيت شاعر نحت اسمه وجا وسط نوتي
آخاف لا جيتك وناظر عسى جيت ظـامي محبة يـا خفــوقي وصوتي
بعطيك ايدي واقطع العرق والبيت واحضن جفوني بعد جرحي وموتي
غياب في صدري وغياب لي ميت بــالله لا تجــزع م دامــك بـ كوتـي
الدايم الله في حياتي ويا ليت تمســح دموع أمي وبــويه وخوتي
تظهر صورة فقدان الأمل في هذه القصيدة من بداية استهلالها الشعري بين الإحساس والسكون، في خضم الإحساس بقوة الشخصية الشعرية من حيث بناء الاسم عبر تجربة شعرية عميقة وصادقة وأصيلة، وهذه التجربة تقترن بالآخر الحبيب في أرفع سماته وعلاقته بالشاعر الحبيب الذي يمنح ذاته العاشقة بلا حدود، وهنا تبرز صورة الغياب بأشكال مختلفة تعمل على شحن الدال بطاقة شعرية هائلة، تتدخل في أدق التفاصيل التي يمكن أن يتركها هذا الغياب في فضاء الصورة الشعرية العامة للقصيدة.
إن الشاعر ياسر الغانم في ديوانه الموسوم بـ “أنين” ظلّ مخلصا في قصائده كلها لفكرة العنونة الكبرى، فصوت الأنين وإيقاعه بقي حاضرا في تفاصيل اللغة التي سعت إلى الإفادة من طاقتها الشعبية العامية في كل المستويات، فاللغة العامية تنطوي على شحنات إيقاعية ودلالية لها علاقة بالمحتوى الشعبي للقيم والأفكار، على نحو قد لا تتمكن فيه الفصحى من الوصول إلى هذا الأداء في هذه التفصيلة الشعرية الدقيقة، بما يجعل لغة الديوان سلسلة ورقيقة وعميقة وذات أداء شعري عالٍ في وقت واحد، كما سعى الشاعر إلى تحريك الأداء اللغوي الشعبي نحو فضاء تشكيلي صوري؛ يسهم في إثارة الطاقة الإيقاعية القصوى التي يمكن أن تنتجه اللغة وتنتجه الصورة في الوقت ذاته.
يقدّم الديوان تجربة أنيقة من تجارب القصيدة العامية الشعبية ويؤكد قدرة الشاعر على التصرف باللغة الشعرية، واستثمار مكنوناتها على مستوى الدلالة والمعنى من أجل أن يصل إلى مبتغاه في توكيد قيمة هذا النوع من الشعر، وثمة مستويات أخرى يمكن معاينتها في هذا الديوان على صعيد الموضوعات الشعرية من جهة، وعلى صعيد الأداء الشعري الخاص باستعمال اللغة وصناعة الصورة وتوفير الإيقاع المنطلق من جهات مختلفة، بما يجعل من حساسية الروح الشعرية جوهار عميقا من جواهر هذا الشعر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى