أدب

جماليات السرد في رواية البومة السوداء للأديب المصري خليل الجيزاوي

دكتور عبد الحكيم المالكي
المختبر النقدي ـــ مصراتة ــــ ليبيا

يُمثّل مدخل الرواية بداية التعاقد بين الكاتب والقارئ؛ حيث يقوم الراوي (نائب الكاتب داخل الرواية أو القصة) بتفعيل كل ما هو ممكن لشد المروي لهم أو القارئ، وعندما يمسك به، ويجعله مُنسجماً وراضياً عن الفعل السردي المميز، ضمن سياسته في القول كما يسميها (عبد الله البهلول)؛ فإنه يستطيع أن ينطلق ويفعل الأعاجيب ضمن حدود ممكنات النوع وآفاق التلقي.. يحضرني هذا القول وأنا أبدأ في دراسة رواية الكاتب خليل الجيزاوي البومة السوداء وكيف تمكن الراوي من شدّي إليها عبر حيله السردية المميزة.(1)


لنمضي إذاً مع الفصل الأول من الرواية مادة بحثنا، وننظر كيف كانت مناورات هذا الراوي ليسيطر على المروي له، ولنهمل قليلا العنوان وكلمات الافتتاح وما فيهما من دلالات مهمة تساهم في بناء الدلالة الخفية للرواية، ولنمضي إلى بداية الخطاب السردي، بطريقة مختلفة (قليلا) عن السابق؛ حيث سنقوم بعمل ملاحظات حول التقنيات السردية المستخدمة في بداية الرواية ولن نتقيد بالدخول بتقنية محددة:
المقطع الأول:
“(أ) صَوْتُ جَدَّتِي یَتَقَاطَعُ مَعَ صَوْتِ العَصَافِیرِ، (ب) وهي تَتَقَافَزُ فَرِحَةً بِتَبَاشِیرِ طُلُوع الفَجْرِ على فُرُوعِ شَجَرةِ التُوتِ الأَحْمَرِ التي طَالَتْ فُرُوعُهَا شُبَّاك قَاعَة جَدِّي، (ت) صَوْتُ جَدَّتِي یَقْتَحِمُ ضَبَابِیةَ الحُلْمِ الأخِیرِ الذي لا تزال تَجْرِي أَحْدَاثُهُ وَراَءَ جَفْنَيّ اللّذین أُحَاوِلُ مُجَدَدًا إطبَاقُهُمَا (ث) كَيْ أتذوقَ لِلْمَرَّةِ الأَخِیرَةِ الدقائقَ الفَاصِلَةَ بَیْنَ بَقَایَا النَوْمِ وبِدَایَةِ الصَحْوِ، (جـ) وَأَدْفِسُ رُوحِي تَحْتَ حِرَامِ جَدِّي الصُوفِي حتى أحفظَ أحداثَ التَفَاصِیلِ الأَخِیرةِ لِلْحُلْمِ الوَحِیدِ(حـ) الذي یَتَكَرَرُ قُرْبَ كُلِّ فَجْرٍ، (خـ) وهو أَنْ أَرْكَبَ العِفْرِیتَ الذي رَكِبَهُ جَدِّي ذات لیلةٍ شُتویةٍ مُمْطرةٍ، (د) كُنْتُ أزومُ وأرفسُ مثل مُهْرٍ حَرُونٍ، وأهزُّ رأسِي (ذ) وَأُتَمْتِمُ غَاضِبًا: یا ستي والنبي، أبوس إیدك یا ستي، سیبیني أنام كمان شویة، عاوز أكمل الحلم ……”(ر) تضْحَكُ جَدَّتِي، وتَسْحَبُ الحِرَامَ الصُوفِي؛ حتى أَتَعَرَّى تَمَامًا من الغِطَاءِ، ساعتها تعلُو ضِحْكَتِهَا قائلةً: (ز) مثل جدك تمامًا، تنامُ مُتكومًا على نفسك، مثل نومة الجنین في بطن أمه.
(سـ) وتُتَمْتِمُ بالدعاء: صَبَحْنَا وصَبَحَ المُلْكُ للهِ، یا فتَّاح یا علّیم، یَا رَزَّاق یَا كَرِیم، اكْفِنَا شَرَّ النِهَارِ وَمَا یَتَأتَّى فِیْهِ مِنْ أَحْدَاث، (شـ) ثم تَخْرُجُ فَتُشْعِلُ راكیةَ النَّارِ في الحُوشِ بِجَانِبِ البَابِ حتى لا یدخل الدخانُ ویملأ الدارَ،(صـ) وعندما تَعُودُ وتنظرُ ناحیة السریر وتَجِدُنِي لا أزال مُتكَوِمًا فَوْقَهُ بَیْنَ النَوْمِ والصَحْوِ تَقُولُ: یا ولد الرزقُ في البَكُورِ، (ضـ) وَرَبُّكَ یُوزعُ الأرزاقَ من الفَجْرِ وحتى طلوع الشمس، قُمْ وَخُدْ رزقَ البَكُورِ؛ فالبَكُورُ رزقُهُ كثیرٌ وفیرٌ، والكَسُولُ الذي یَنَامُ للضُحَى رزقُهُ شَحِیحٌ قلیلٌ.”(2)

تحليل المقطع الأول في الرواية
نلحظ بداية السرد السابق ما نسميه صورة حواسِّية سمعية؛ حيث يصف لنا الراوي على لسان الشخصية/ الولد، تقاطع
صوت الجدة وصوت العصافير على شجرة التوت؛ وهو إذ يبرز تداخل الصوتين، يضعنا في (ب) في الإطارين: الزماني والمكاني للحدث الذي يحدث فجراً على فروع شجرة التوت، ويجب هنا أن يراودنا السؤال التالي: هل سيكون لهذه الشجرة من ظهور تال أم أنها ستظهر هذه المرة فقط، ونتذكر أننا من خلال (أ) و(ب) مع راو يناوب بين تقنية الاشتغال على الحاسة السمعية وتقنية التأطير، وهي ضمن ما أعُرِّفُهُ بالممارسة السردية(3).
في (ت) نتابع صورة حواسية مميزة لصوت الجدة الذي يصبح فاعلا مادياً يخترق ضبابية الحلم، ثم نتابع في (ث) صورة حواسية متخيلة عن تذوق الحلم، فهي ليست صورة حقيقة ممكنة، ولكنها صورة ممكنة لغوياً وتخييلياً لتذوق الولد للحلم الجميل الذي نعرف أنه طالما كان يراوده من خلال تقنية التواتر في (حـ)، بينما في الجزئية السابقة (جـ) من هذا المقطع الأول، نتابع بداية لغة مختلفة أو أسلوب حديث مختلف، تقترب فيه الشخصية من الحديث اليومي في البيوت، وهي منطقة وسطى بين اللغة العربية وبين العامية لجعل الشخصية أكثر حضوراً لدى المروي له، مع العلم بأن الدفس والحِرام كلمتان فصيحتان، فهو يدفس روحه تحت حِرام جده.
يُمارس الراوي تنظيماً ممّيزاّ للسرد وهو يضعنا أمام ذلك الحلم المتكرّر معه كل ليلة في (خـ)؛ حيث نجدنا أمام فحوى الحلم المتكرر وهو أن الولد يركب الجني كما ركبه الجد ثم نجدنا في (د) و(ذ) مع تقسيم تفاصيل مؤكدة لذلك الفعل اليومي المتواتر، وهو الدفس والرفس في (د) ومخاطبة الجدة باللهجة الشعبية ستي وسؤالها بالنبي (صلى الله عليه وسلم)، كما ندرك أن الراوي وهو يمارس سرده يضعنا في البعد العائلي من خلال الولد والجدة التي توقظه، كما نتلقى شموخ أو علو صورة الجد المثالية عند الولد، في (ر) نجد الترهين الذي يتم توظيفه مع بقية التقنيات السردية لجعل السرد أكثر تميزاً، وما نقصده بالترهين هو ذلك الربط بين تعريه تماماً من الغطاء مع ضحكة الجدة، وهي تقول قولا في (ز)، هذا القول يضعنا فيما يشبه التواتر من خلال ذلك التشابه بين نومة (أو طريقة نوم) الطفل/ الراوي وطريقة نوم الجد، ثم في (س) تستكمل دورة بناء الشخصيات بقولها أو ما تقوله؛ حيث نتابع أقوال الجدة الدالة على الشخصية المتدينة المنطلقة من بعد ديني في كافة تصرفاتها، وهو ما ستبنى عليه هذه الرواية ونحن نتحول مع راويها شيئاً فشيئاً من الديني الواضح إلى أفكار لا علاقة بالضرورة لها بالديانة الصحيحة، وإنما يتداول في مجتمعاتنا العربية، وكذلك تصرفات نتيجة لما تعيشه الجدة من وسواس ناتج عن موت الأبناء ومن حرب بينها وبين قريبتها وجارتها.
في (شـ) نتابع ما تقوم به الجدة من إشعال النار في الصباح لأعداد الشاي، وذلك التوضيح المستمر للأسباب من الراوي الذي يضعنا في نمط تفكير الجدة، فهي تقوم بإشعال النار خارج البيت بجانب الباب حتى لا يدخل الدخان إلى الدار، بينما في (ص) نعود لنتابع توظيف تقنية الترهين من جديد، والراوي يربط بين رؤية الجدة له وقد وجدته نائماً
وبين ما تقوله من أقوال تنطلق فيها من قيم إسلامية عن القيام المبكر وأهميته وأن الرزق يوزع في البكور.


المقطع الثاني
(أ) منْ بَاحَةِ الدَارِ أَسْمَعُ خَشْخَشَةَ رادْیُو جَدِّي وَصَوْتَ الشَیْخِ محمد رفعت یقرأُ قرآنَ الفَجْرِ، وَمْنْ بَعِیدٍ یَصِلُ إِلَیْنَا مُتَقَطِعًا بفعل الرِّیَاح صوتُ الشیخ حمزة البدوي مُؤذن الجَامِعِ الكَبِیرِ، أَسْمَعُهُ مَرَةً بوضُوحٍ، ویَضِیعُ عدة مَراتٍ إذا هبَّت الرِّیَاحُ. (ب) ومِنْ خَصَاصِ الشُبَّاك المَكْسُور أَرَى الفَجْرَ الأزرقَ یُشَقْشِقُ بخیوطِهِ البَیْضَاءِ مثل نُدَفِ السَحَابِ، وَأَرَى اللیلَ یُلَمْلِمُ جلبابَهُ الأسْوَدَ الكَبِیرِ الذي یَضْرِبُهُ فَوْقَ سَمَاءِ عزبة جَدِّي الشیخ خلیل أبو صالح، (تـ) أسمعُ أذانَ الدیُوكِ فِي حُوشِ جَدَّتِي، یَتَقَاطَعُ مع صوتِ الشیخِ حَمْزَة وهو یُؤذنُ لصَلاةِ الفَجْرِ، (ثـ) یُمْكِنُنِي الآن أنْ أُمَیّزَ صَوْتَ الدیكِ الكبیرِ الذي یُشبُهُ لونه لون زَهْرة نَوّارة الفُول الحِرَاتِي، ترى البَیَاض الثَلْجِيّ المُرقّط بالأسود، (جـ) بعیني وأذني أتابعُ حركة ریاح اللیل، تهدأ شیئاً فشیئاً، فتزیحُ السُحبَ اللیلیة الداكنة وَتَسْحَبُهَا للبَعِیدِ، لتُفْسِحَ مَكَاناً للسُحبِ البیضَاءِ حتى تنفتحَ آلافُ الكُوَّاتِ من سَمَاءِ اللهِ فیطلعُ النهارُ، (حـ) وكانت خُیُوطُ الشَمْسِ الأولى تُهَیّئ سَمَاءَ اللهِ والأرضَ والزرعَ وشَواشِيَ الأشْجَارِ لِطَقْسِ شُرُوقِ الشَمْسِ. (خـ) من خَصَاصِ الشُبَّاك تَدْخُلُ خُیُوطُ الشَمْسِ فَتُبَدِدُ مَا تَبَقَّى مِنْ عَتْمَةِ اللّیلِ فِي قَاعَةِ جَدَّتِي، ساعتها أَرَى ضَوْءَ لمبة جَدَّتِي نمرة عشرة وقد أصبحت ضعیفةً وَاهِنَةً أمَامَ خُیُوطِ الشَمْسِ البَیْضَاءِ، (د) وأسمعُ حفیفَ فروع الكافور التي تقفُ منذ عشرات السنین أمام الدار وعلى شاطئ الترعة، وأرقبُ السُحِبَ والغیومَ الكثیفةَ وهي تَبْتَعِدُ شَیْئاً فَشَیْئاً، وأحلمُ بالطیران مثل عُصْفُورٍ صَغیرٍ، یَحْلُمُ أن ینبتَ زَغَبُ ریشِهِ سَرِیعاً، كَيْ یُحَلِّقُ في سَمَاءِ اللهِ خَلْفَ أمِهِ وَیَلْهُو فِي الفَضَاءِ بین السَمَوَاتِ السَبْعِ، وِیَرْكَبُ السُحبَ البیضَاءَ التي تركُضُ باتجاه الرِیّاحِ، (ذ) حتى لا أَصْحُو مُبَكِراً وأذهبُ للمدرسَةِ بقریتنا التي تبعدُ عن العزبة ثلاثة كیلو مترات، وكُنْتُ أسِیرُ هذه المَسَافَةَ على قَدَمَيّ صَبَاحاً وَعَصْراً، وفي عِزِّ شهر طوبة”.(4)
تحليل المقطع الثاني في الرواية:
يمكن أن نلحظ كيف يشتغل الراوي بشكل ممّيز على الحواس؛ حيث نجد استمراراً في التنويع الصوتي على الحاسة السمعية في (أ) من خلال تلك الأصوات المختلطة بين صوت قريب وآخر بعيد، ثم اشتغال على الحاسة البصرية في (ب).
في (أ) تتداخل الأصوات المسموعة للولد ويتم تصوير كل صوت ومدى وضوحه وما يصاحبه من أشياء، وهي أصوات تدخلنا في إطار المُكوّن الديني للعائلة، فيسمع تلاوة الشيخ محمد رفعت من الراديو، كما يسمع أذان الفجر القادم من البعيد، ويتم تحديد مصدر الصوت بكونه لمؤذن الجامع الكبير حمزة البدوي، ونلحظ أن الأصوات تأتي متقطعة سواء تلاوة الشيخ محمد رفعت المصحوبة بخشخشة الراديو، وكذلك صوت المؤذن الذي تؤثر الرياح على درجة جودة وصوله، الأمر نفسه سنجده في (ب) بخصوص الصورة البصرية، وهي صورة تبدو بصرية، لكنها تحمل بعد سمعي بشكل ما، لنتابع شقشة الفجر الأبيض بخيوطه البيضاء، كما يمضي الراوي في الاشتغال المميز تصويرياً على البعد البصري وهو يصور – من وعي الطفل- صورة الصبح القادم والليل المغادر، فخيوط الفجر المشقشة تتقاطع مع اللمسي من خلال تشابهها مع ندف السحاب، بينما صور الليل، من الوعي نفسه، كأنما ممتلكاً لجلباب أسود كبير يغطي عزبة الجد ويتم تعريفنا باسمه: خليل أبو صالح.
ويستمر الاشتغال التصويري حواسياً بين السمعي والبصري، ففي الجزء (ت) نجد تداخل الأصوات من جديد؛ حيث يتداخل صوت الديوك مع آذان الشيخ حمزة، بينما في (ث) نجد اشتغالا مُمّيزاً على السمع ومنه إلى البصر؛ حيث يتم
تمييز صوت الديك الكبير ثم وصف لون ذلك الديك بما يشبه شيئاً مُمّيزاً هو لون (زَهْرة نَوّارة الفُول الحِرَاتِي).
هذا التناوب بين السمعي والبصري يعلن عنه الراوي من خلال الشخصية بشكل مباشر ومميز في الآن ذاته في (جـ)
حيث يرصد التحول من الليل إلى النهار (بعیني وأذني أتابعُ حركة ریاح اللیل)، ينتقل في (حـ) إلى الإضاءة أو شروق الشمس باعتباره فعلا بصريا على مستوى البصر ويضعنا في أول أماكن وصول أنوار الفجر الذي يهيئ السماء والأرض وشواشي الأشجار لنور الصباح، ثم ينتقل من العام الخارجي إلى الداخل من جديد في (خـ)، لنجدنا في تقاطع البصري ضوئياً بين أشعة الشمس القوية، وبين لمبة إضاءة الجدة التي يُصرّ الراوي هنا على تسمية نوعها وهي لمبة نمرة (10)، وهو ما يضعنا من خلالها ومن خلال ما سنراه في النص مع مكونات مهمة لحياة المصري في تلك المنطقة وفي ذلك الزمن، وهنا تكمن خصوصية الرواية في كونها ترصد المكونات الحياتية والطقوس الأكثر خفاءً عند الناس في ذلك المكان.
هنا الراوي يقوم بتحديد مكونات الحياة في عزبة الجد خليل أبو صالح وصحبة الجدة القوية.
يستمر التناوب بين الصورة الخارجية والصورة الداخلية؛ الصورة الخارجية مكونة من البعدين: السمعي والبصري، بينما الصورة الداخلية يجسدها ما يحلم به ذلك الولد من أحلام يتمنى تحققها؛ لنتابع ذلك في المقطع (د) وهو يسمع حفيف شجرة الكافور يتقاطع مع صورة حلمه بالطيران مثل عصفور صغير، ولنلحظ كيف يصر على تحديد مكوناته الثقافية الدينية وهو يحدثنا عن السموات السبع، وكذلك في (ذ) وهو يحدثنا عن الجانب الشخصي موضحاّ المسافة بين مسكنه مع الجدة وبين المدرسة بطريقة فنيّة مميزة، كما قدم الزمن من خلال تسمية خاصة للشهر بكونه شهر طوبة؛ ولعل هذا ما يميز الفن الروائي خاصة والسردي عامة، وهو قدرته على استنطاق المكونات المعيشية لحياة الأفراد في فضاءات مختلفة متعددة، وتتحول الرواية بذلك إلى فن الخصوصي والشخصي لدى كل فرد ينطلق من منطقة ما وفضاء ما.
لاحظنا أيضاً تلك القدرة الطيبة لدى الراوي على تقديم بعض المعلومات الأساسية لبناء الحكاية منها اسم الجد خليل أبو صالح وكذلك المدرسة والمسافة بينها وبين البيت والمسجد الجامع الكبير الذي يصل أذانه متقطع وشجرتي التوت والكافور اللتين سنرى لهما أثراً مُمّيزاً داخل النص.
صاحب ما سبق الحديث عنه ذلك الاشتغال المميز على الحواس وتحديداً حاستيّ السمع والبصر، ووجدنا ضمنهما تنويعاً على كل حاسة وما احتوته من مكونات سمعية وبصرية لا تمثل الصورة المعتادة العادية؛ ولكنها تُمثّل موضوعين أساسيين: أولهما كونه تنويعاً على كل حاسة؛ بحيث يصبح الشعور بتلك الأشياء على تلك الحاسة قوياً، وتصبح تلك الحاسة بحضورها مادة لشد المروي له؛ بينما من جهة ثانية، هي صورة غير مباشرة ولا سهلة ولكنها صورة متخيلة تعكس وعياً ثقافياً لدى مؤطرها، تلك الشخصية التي ينطلق الراوي من وعيها، وهي لا تبعد أن تكون شخصية الروائي نفسه، وهي تقنية سبق أن اشتغل عليها خليل الجيزاوي في روايته سيرة بني صالح؛ ليصبح المحلي واليومي والمعتاد والشخصي حاضراً بقوة داخل النص ومادة لبناء رواية مميزة.
نلاحظ أن الصورة السمعية والبصرية تقدم ضمن إطار تلقيها وإمكانية وصول رسالتها فيرسم لنا الراوي في المقطع الأول تداخل الأصوات بين الآذان وتلاوة الراديو، كما يُقدّم لنا فيما بعد التداخل بين صوت الديك الكبير الذي يميزه
وبين الآذان، كما يصر على أن يرصد لنا كيف يتم تصور الصورة البصرية التي تتم من خلال خصاص شباك الجد.
كما نجد مع ما سبق من اشتغال حواسي اشتغال تقنيتي الترهين والتأطير، كما نجد تقنية التواتر في أكثر من موضع.
كما نجد الصورة العاكسة للثقافة الشعبية والمصطلحات المنطلقة من ثقافة أهل المكان مثل تحديد: لمبة نمرة عشرة والعفريت الذي ركبه الجد، وكذلك المُكوّن الديني من خلال صوت الشيخ محمد رفعت وصوت المؤذن من جهة، ومن خلال ما تقوله الجدة عن البكور وما فيه من بركة من جهة أخرى، وكلها تؤسس للثقافة الدينية لدى تلك العائلة وتبني شخصية الجدة المتدينة المؤمنة.
ليس هناك (في تصوري) عمل فني أكثر فعلا على متلقيه من السرد، بل إن شهرزاد السرد التي طالما حكت لملكها الجريح حكايات تطيل بها عمرها عادت على السنة رواتها الجدد وبعيونهم المختلفة تعيش عبر السرد حيوات مديدة.
شكرًا لكل من كرّمني بقراءة نصّه، شكراً للكاتب خليل الجيزاوي لأن شهرزاد الجديدة/ الجدّة قد فعلت فعلها على الحفيد وعلينا، شكرًا لرواية البومة السوداء نص موجع ينحت في عميق ثقافتنا العربية الإسلامية، نص يجعل من القرية المصرية البسيطة وأحداثها العادية المتكررة نابضة بالحياة، نص فيه هندسة سرد مميزة خاصة مع العلاقات التي أنشأتها الجدة/ شهرزاد مع جلابيب الأحبة الراحلين وهي تصبح، أي هذه الجلابيب/ الحيوات، مادة لنحت الجدة الساردة ويصبح تاريخ لبس لباس ما، إطارًا لسرد جديد في ألف وليلة مصرية عربية مميزة.
نحت مُميّز في مُتخيّل بين الغرائبي والواقعي مع عدم جزم مميز بحقيقة ما يحصل (في وعي متلقي السرد الأول الفتى المميز) كل ذلك ضمن سرد دائري تواتري لا تغيب عنه تقنية سرد إلا لتحل أخرى، مادته حياة عائلة مصرية في ستينيات القرن الماضي وسبعينياتها، عندما انتقل الحفيد لكي يُعيد الحياة للجد ويعيد للجدة وهج الحكاية/ الحياة بصورة الجد الكبير الغائب، كان قد وقع على وثيقة تسلمه الراية، راية السرد لتنتقل الجدة في رحلة أخرى طويلة.
نص روائي مُميّز تقنياً وثقافياً يتسق مع مشروع الكاتب خليل الجيزاوي في رواياته السابقة، خاصة روايته سيرة بني صالح؛ لكنه لا يُكرّرها وإنما يمضي بها هذه المَرّة في مسارات أكثر وجعاً وإمتاعاً؛ وكأنما علينا ونحن نسرد أن نعيد حياة كاملة غرائبية تعشش في أذهاننا وتحكم تصرفاتنا، نعيدها تأملًا وأسئلةً عميقةً تصل بنا إلى قيعان ما هو مندرج في عميق أوجاعنا وألمنا وفرحنا أيضًا، شكرًا للروائي خليل الجيزاوي لهذا الجمال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جزء من دراسة مطولة (تحت الإنجاز) حول الحِجّاج في رائعة الكاتب خليل الجيزاوي الروائية: البومة السوداء.
(2) خليل الجيزاوي، رواية البومة السوداء، سلسة إبداعات عربية، منشورات دائرة الثقافة بالشارقة، الإمارات عام 2021.
(3) عبد الحكيم المالكي.
(4) خليل الجيزاوي، البومة السوداء، مصدر سابق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى