أدب

كولاج تأويل تقانة الكتابة الشعرية

قراءة في كتاب: "نباهة الطير، غواية الغابة" للناقد علي شبيب

مراجعة: د. أمل سلمان
عن الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق/ بغداد للعام ٢٠٢١م، صدر للأستاذ علي شبيب ورد، كتابنقدي عنونه ب نباهة الطير غواية الغابة، كولاج تأويل تقانة الكتابة الشعرية.


في الحقيقة جذبني العنوان وأغراني للقراءة والبحث، فوجدتالمتن أحلى وأغرى، فهو جولات مُضنية ولذيذة في عدد من المجموعات الشّعرية ذات مناخات شعرية جديدةلشعراء عراقيين معاصرين، عمل الكاتب على التوليف بينها عبر إجراءات فاحصة، وتأملات عميقة للبحث عن مكامن الشعرية والإبداع، وقد أشار إلى منهجه في الجمع بين مجموعة من الشعراء مختلفين في الرؤى والتوجهات والزمان والمكان إلا أنهم مجتمعون على أن الشعر هو، هم الإنسان الأوّل وحامل قضاياه فهو إعادة إنتاج للعالم المعيش بكل ما يتضمنه من اسئلة.
وبتسمية ثانوية عنون بها المؤلف كتابه هذا، وهو توظّيفه مصطلح (كولاج) وهومفهوم فرنسي ولد مرتبطا بالفنون التشكيلية يشير إلى تقانة تصويرية قائمة على اللصق أما على قماش أو جدار لشظايا من مواد مختلفة تنتج عنها في النهاية صورة موحدة والتي سيكون لها بالطبع هدف توصيل رسالة فنية، من هذه الزاوية، يمكن النظر إلى هذه الكتاب بوصفه،كولاجا تأويليالظواهر شعرية ريادية بارزة ومتنوعة في أماكن وأزمنة مختلفة ظهورا وتأثيرا وانتشارا عالميا أو عربيا أو عراقيا سواء من حيث النشأة أم التشكيل، غايتها واحدة ورسالتها الفنية متشابهة. وبفك شفرة العنوان الرئيس للكتاب، نجدها أخذت فضائها التأويلي من الشعر ذاته؛ فهو يمثل أنشط الأجناس الأدبية مغامرة في دحض الأعراف المسلّم بها لدى الذائقة، وإمكاناته المذهلة لاستقبالما يفد عليه من أجناس أدبية آخر، أخذ يحلّق في الأقاصي ،وفي محاولاته المتواصلةللانعتاق من أغلال السائد والمألوف، فهو أشبه بالطائر التواق دوما للطيران خارج الغابة بحثا عن مفاتن الحرية، لما للطيران من رمزية عالية في التمرد على القيود والفخاخ الأرضية نحو الآفاق والفضاءات الجالبة للسمو والرفعة.
كما أنّ الشّعر في محاولاته المستمرة للتجديد، نشدانا للمغايرةعبر مغامراته في البحث عن النائي والهامشي والمعتم والمجهول والغرائبي والمدهش، يواجه ضروبا من المصاعب والمصدات والعراقيل، وهي معززة بأفانين من وسائل الترغيب والترهيب وحقول الألغام والأسلاك الشائكة، وتساوره من هنا وهناك منظومات إغراء وغواية ومنع وقمع، وغيرها من وسائل السلطات المُغيّبة لحريته، وهذا يتطلب منه التمتع بالحيطة والحذر ونباهة الطير في مواجهة مستمرة لغواية الغابة وضراوة شريعتها ونواميسها الجائرة .
وأما المبحر في متن هذا الكتاب، يدرك أن ذاكرة الشعرية العراقية تحديدا، طرحت أسئلتها عبر كل المراحل وبتأثيرها حدثت تحولات ملموسة على مستوى النص والدرس، تلك الأسئلة التي لا تخلو من الشّك بالتابوات والمشاكسة لكلّ أنواع متاريس السّائد، ودكّ قلاع المركز عبر تنشيط الهامش وتعرّية الجبروت عن قداسته، برياح المسكوت عنه هذه الأسئلة تتكررمع تبدل الأزمنة وتباين الأمكنة، غير أنّها تتمحور حول هموم الكتابة وتطلعاتها الإنسانية لعوالم أكثر رحابة وقبولا ، وهذا أدى إلى متغيرات متواصلة في تقانات الكتابة الشعرية، ذلك أن النص الشعري عندما يكون بحثا مخلصا عن الحقيقة، لا مجرد إشباع لرغبة ما، يتحول إلى ضرب من الجهد المعرفي الخلّاق، الذي لن يتحقق من دون مخيلة خصبة استمدت غناها من مرجعيات التجربة الحياتية والثقافية للشاعر .
تأسيسا على ما سبق، فقد أختار المؤلف عينات شعرية من تجارب شعراء عراقيين، يستحقون منا وبالقوة، انتباهةووقفة جادة؛ لأنّهم من الشعراء العصريين الرؤيويين الذين لا حدود لحراكهم الاشتغالي فهممبدعون مخترعون ومتنبّئون ويطالبون بالانتباه .وسنحاول الوقوف على آليات التأويل التي اتبعها المؤلف في تفتيت شذرات تلك المجموعات والوقوف على التقانات المستعملة لتحريض القرّاء ولفت انتباههم، مكتفية بذكر اسم الشاعر وعنوان مجموعته والظاهرة الفنية المعوّل عليها في شعره على اعتبار أن العنوانات هي، مشاريع أوّلى لاستشراف المنظومة البصرية ونحن نطرق بوابات مملكة الشعر بحثا عن الجمال .
ومن هؤلاء الشّعراء:
_ كولاج تأويل مجموعة الشّاعر كاظم جهاد (معمار البراءة) وهي مجوعته الثالثة الصادرة عن منشورات الجمل ٢٠٠٦ م، وقف عنده المؤلفتحت معنونة، بياض الشعراء سواد العالم .
_كولاج تأويل مجموعة الشاعرشوقي عبد الأمير (ديوان المكان) بأجزائها الثلاثة الصادرةعن دار الفارابي، بيروت ١٩٩٧م وقف أمامها المؤلف تحت معنونة، ضراوة الغربة وغرابة الشّعر .

_ كولاج تأويل مجموعة الشاعر كمال سبتي (آخرون قبل هذا الوقت)،وهي مجوعته السادسة الصادرةفي دمشق ٢٠٠٢م، أولها المؤلف تحت معنونة، جدوى بلاغة المخيلة وكفاءة الشفرة في أسطرة النص .
_ كولاج تأويل مجموعة، (طغراء النور والماء) الإصدار الرابع للشاعر عبد الزهرة زكي،الصادر عن دار المدى للثقافة والنشر ٢٠٠٩ م، وقف المؤلف أمامها تحت معنونة ، تقانة المونتاج في النص الشعري.
كولاج تأويل مجموعة (تاسوعاء)، وهي المجموعة الثالثة للشاعر طالب عبد العزيز ، الصادر عن اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين لعام ٢٠٠٣ م، وعن دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد ٢٠٠٤ ، درست تحت معنونة ،لذّة الأسى يفضحها سراج تاسوعاء .
_كولاج تأويل مجموعة(الأرض أعلاه)، وهي المجموعة السابعة للشاعر، عبد الحميد الصائح ، الصادر عن دار نينوى للدراسات والنشر، دمشق ٢٠٠٣ م ، أولت تحت معنونة، استثمار مرجعيات المكان الأسطورية في إثراء الفضاء الشعري .
_كولاج تأويل مجموعة، (بعضه سيدوم كالبلدان)، للشاعر علي البزاز وهي المجموعة الخامسة للشاعر بعد إصداره مجموعاته الأول باللغة الهولندية، صدرت عن منشورات الغاوين، بيروت عام ٢٠٠٩ وقد جاءت باللغة العربية بعد قطيعة مقصودة على نحو ما توصل إليه المؤلف، أولت تحت معنونة، علي البزاز طالبا السلامة للموج .
_ كولاج تأويل مجموعة ،( صادف أنّه عطرٌ)، للشاعر ناجح ناجي الصادر عن دار الشؤون الثقافية ، بغداد ٢٠٠٠م ،أوله تحت معنونة، الأقنعة الجمالية للنص .
_ كولاج تأويل مجموعة(حيث الطفولة نائمة)للشاعر ناجي رحيم، الصادر عن دار نينوى للطباعة والنشر، دمشق ٢٠٠٥م ، أوله تحت معنونة محاولة في إيقاظ طفولة .
_كولاج تأويل مجموعة (شتاء الأعزل) للشاعر شعلان شريف، الصادرفي كتاب غجر ١ ضمن سلسلة شعرية تصدر عن مجلة غجر، هولندا ٢٠٠٥ وقد تمكن المؤلف من تفتيت شتاء الاعزل تحت معنونة ،صيف عراقي لشتاء أعزل .
_كولاج تأويل مجموعة (ولا أحد غيري) للشاعر صفاء ذياب ،الصادر عن الاتحاد العام للادباءوالكتاب العراقيين، في طبعته الأولى، بغداد ٢٠٠٥ وقد أوله تحت معنونة، وخز النص لقاريّة .
أحد عشر كوكبا شعريا نثروا رؤاهم ورسموا بأناملهم المبدعة وإحساساتهم المرهفة لوحة فنية رائعة جسّدت قلقهم وهواجسهم الإنسانية، استطاع المؤلف ، ضمّها في مدونته هذه ليخرج لنا باستنتاجات تشير إلى أهم ملامح الحركة الشعرية العراقية في وقتنا الراهن نوجزها على النحو الآتي:
_ المراجعات المتواصلة للوظيفة الشعرية، أفضت إلى تجديد مستمر في تقانات كتابة النص الشعري وضمن انساقهالسيميائية والدلالية.
_ انصراف الشعراء العراقيين الجادين، إلى الاهتمام بترسيخ منجزهم الإبداعي وتوجيه رؤاهم الإنسانية لمجريات الراهن العراقي .
_ تمرد النصوص على أيديولوجيا المألوف، والطرق على مرمر المركز بمعاول الهامش.
_ انفتاح النصوص على تقانات المونتاج والتداخل بين مكونات النص واعتمادها على آلية السرد للأفادة منها في تخصيب النص بمشهدية مؤثرة في المتلقي ومحرّضة له،زيادة على اعتماد النصوص على بنية التناصمع نصوص أدبية وغير أدبية.
_ حضور الملامح المحلية ضمن مكونات النصوص، لتأكيد تفردها عن النصوص العربية والعالمية، زيادة على اكتناز البنية الدلالية للنصوص على جملة رموز موحية ، لخلق صورة شعرية منتجة إتصاليا
_اقتناص اللحظة الشعرية المتوهجة، والتنويع في آليات تشكيل البنية السيميائيةللنصوص، لتفعيل طاقاتها الإتصالية مع المتلقي .
وثمّةعدد من الاستنتاجات الاخرىخرج بها المؤلف من رحم النصوص ذاتها لا يتسع السياق لذكرها ولا تغني القارىء عن مراجعة هذا الكتاب المهم، انصح كل مهتم بقضايا الشعر العراقي المعاصر، وطلاب الدراسات العليا الباحثين عن الشعراء الجادين _ شعراء الانتباهة_إلى مراجعة هذه المدونة النقدية التي أبدع فيها المؤلف وأجاد وقد امتلك الأدوات التي تؤهله لذلك، فهو شاعر وناقد وكاتب ومثقف متفاعل، وآخيرا أقول ما قاله الأستاذ علي: إن أجمل الشعر ما لم نقله بعد، ولو توقف الشعر عن الحركة والتطور لما وصل إلينا، ولا يمكن أن يصل إلى آخرين بعدنا، لو لم نتأمله ونحن مبهورون ، ومن ثم نحاكيه أو نتمثّله ونبدع فيه، ومن غير هذه الحقيقة لن نجد هذه الأعداد الهائلة من الشعراء والتي تتزايد كل يوم، وتتوالىالولادات والصراعات في جدلية كونية لا تفنى .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى