سياسة

بين الكلام والفعل

نهاد أبوغوش | فلسطين

يواصل الاتحاد الأوروبي الإعراب عن قلقه وصدمته بسبب اعتداءات المستوطنين المدعومين من حكومتهم على المواطنين الفلسطينيين في عدد من قرى رام الله ونابلس، وبخاصة في قريتي المغير وبرقة. قبل ذلك، وخلال زيارة لنحو عشرين دبلوماسيا من ممثلي الاتحاد الأوروبي لبلدة سبسطية كرر ممثلو الاتحاد المواقف المعروفة لنا ولغيرنا بأنهم يرون الاستيطان مخالفا للقانون الدولي، لكن هذا الاتحاد المحترم والمصدوم لا يفعل شيئا ولا يتقدم خطوة عملية واحدة لمنع مثل هذه الاعتداءات المستمرة منذ أكثر من خمسين عاما.
يتخذ الاتحاد الأوروبي كمنظمة إقليمية، كما تتخذ دول الاتحاد كل على حدة مواقف عملية مؤيدة لإسرائيل في جميع المجالات، ويكفي أن ندلل على ذلك بتصويت معظم دول الاتحاد الأوروبي إما لصالح إسرائيل أو بالامتناع في الغالبية العظمى من جلسات الجمعية العامة ومجلس الأمن التابعين للأمم المتحدة، حتى لو كانت القرارات المطروحة تعيد التأكيد على قرارات الهيئة الدولية عينها، وكذلك في استمرار العمل باتفاقية الشراكة الأوروبية الإسرائيلية، ومعاملة إسرائيل بشكل تفضيلي في مجالات التجارة والسياحة ونظام التأشيرات والتعاون الاقتصادي والعسكري والعلمي والثقافي. كما في تبني عدد من دول اوروبا للرواية الإسرائيلية التي تساوي بين معاداة السامية وانتقاد سياسات الاحتلال الإسرائيلي. ولا ننسى التصريح الشائن لأورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية التي تجاهلت كل ما سببته إسرائيل من معاناة ونكبة للفسطينيين ما زالت آثارها مستمرة ووصفتها بأنها الديمقراطية النابضة بالحياة والتي جعلت الصحراء تتفتح!
هذا النفاق الأوروبي تجاه القضية الفلسطينية هو في الواقع امتداد ذيلي تابع للمواقف الأميركية التقليدية التي تعرب هي الأخرى عن قلقها من أثر الاستيطان على عملية السلام المزعومة ولكنها تواصل دعمها للدولة التي تقود الاستيطان بكل السبل المتاحة، في ظاهر الأمر تطلق الولايات المتحدة تصريحات حيادية تساوي بين الجلاد والضحية، فهي بعد كل مجزرة يرتكبها الاحتلال تندد بأعمال “العنف المتبادل بين الفلسطينيين والإسرائيليين”، وتدعو مثل أي حكيم إلى ضبط النفس وخفض التصعيد. ولكنها دائما تتجاهل المشكلة الرئيسية المسؤولة عن التوترات الأمنية كافة وهي الاحتلال، وهذا التجاهل لا ينطبق فقط على التصريحات الصحفية المرتبطة بالتطورات اليومية بل يسري على رعايتها للمفاوضات الثنائية التي بدأت منذ ثلاثة عقود، وما زال الفلسطينيون محكومين لمسارها وقيودها المجحفة. وإذا أرادت الولايات المتحدة ممارسة الضغط على طرف ما فهي تضغط على الفلسطينيين لدفعهم إلى استئناف التنسيق الأمني مثلا، أو منعهم من التوجه للهيئات الدولية بما فيها مجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية ( الواقع أنها ضغطت على نتنياهو بسبب مشروعه للتغييرات القضائية وليس بسبب سياسات الاحتلال تجاه الفلسطينيين)، في حين تبرر لإسرائيل اعتداءاتها الوحشية المتكررة على قطاع غزة بحجة حقها في الدفاع عن النفس، وتوفر لها دائما الغطاء الذي يحميها من الإدانة ومن قرارات مجلس الأمن، وتواصل دعمها المطلق لإسرائيل عسكريا وماليا وسياسيا.
لا يعني ما سبق أن العالم متحد ضدنا، ومتآمر علينا، وأن لا فائدة من التوجه للمحافل الدولية لاستقطاب التأييد، بل على العكس، ثمة قوى حية كثيرة تملأ العالم شرقه وغربه تعلن انحيازها لقيم الحرية والعدالة وترفض الظلم والعدوان والاحتلال. هذه القوى نجدها في أحزاب وحركات اجتماعية ونقابات واتحادات شعبية ومنظمات أهلية فضلا عن الكتاب والمثقفين والهيئات الأكاديمية. ولكن المشكلة لا تقتصر على مواقف الآخرين، بل جوهرها في ما نفعله نحن، وبخاصة إذا اقتصر فعلنا على الكلام. لدينا مجموعة من الهيئات والفصائل والشخصيات لا تفعل أكثر مما دأبت على فعله لسنين طويلة: إصدار البيانات وبعضها يبدو تكرارا مملا لبيانات سابقة، أو عملية “قص ولصق” لبيانات أطراف أخرى مع تغيير التاريخ والمناسبة، وإن كان بعضها يضيف أفكارا ألمعية من قبيل مطالبة المجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل. إحدى الهيئات الفلسطينية الرفيعة تحرص على إضافة جملة “بأشد العبارات” إلى جمل الإدانة التي تواظب على إصدارها، وكأن التشدد اللفظي يعفي من العمل، والمثير للسخرية أن بعض الهيئات والفصائل يستعير هذه العبارة وكأنها ضربة قاضية من ملاكم لخصمه، لكن الخلاصة هي نفسها: كلام في كلام وليس سوى الكلام!
هناك حقيقتان أكيدتان لا بد من إبرازهما عند الحديث عن المواقف الدولية: الأولى هي أن دول العالم جميعها ومن دون استثناء تتبع مصالحها عند اتخاذ مواقفها، وها نحن نرى دولا شقيقة وصديقة مثل الهند وفيتنام والصين وإيطاليا واليونان وقبرص، وعدد كبير من الدول الأفريقية كانت تاريخيا مؤيدة للعرب والفلسطينيين باتت تقيم علاقات وثيقة مع إسرائيل في شتى المجالات الاقتصادية والعسكرية، ومع أن بعضها يواصل دعمه المبدئي لحقوقنا ولكن لا يمكن توقع مواقف عملية منهم أكثر من ذلك، الحقيقة هي أن هذه الأطراف مهما كانت متعاطفة معنا لا يمكنها أن تحارب بالنيابة عنا، إذا كانت مواقفنا الرسمية يمكن اختزالها بالكلام وأشكاله المختلفة من خطابة وتصريحات وبيانات شجب وتنديد واستنكار ومواصلة عرض المظلومية، كل ذلك ليس سوى كلام مهما تميز بالحكمة والبلاغة، وطالما أنه لا يستند إلى قوى فعلية ومادية على الأرض.

ومن دون التقليل من أهمية أعمال المقاومة البطولية التي تقوم بها بعض الفصائل والمجموعات، إلا أن اللافت هو أن اشكال النضال الفلسطيني تفتقد للتكامل ولا يسند بعضها بعضا، وذلك ما يساهم في تبديد الجهود النضالية المختلفة من مقاومة وعمل جماهيري وسياسي ودبلوماسي ومقاطعة، ويجعل أثرها التراكمي محدودا.

تلوح الآن ومع انعقاد قمة جدة إشارات تبشر باستعادة النظام العربي الرسمي لحيويته وهو ما افتقدناه طيلة عقدين من الزمن، هذا يمكن أن يصب في صالحنا لبناء موقف عربي موحد داعم لفلسطين وقضيتها، لكن ذلك مشروط بوحدة الموقف الفلسطيني الداخلي والسعي إلى اعتماد استراتيجية موحدة تعيد الربط بين مختلف أشكال النضال، دون ذلك ستبقى بياناتنا وخطاباتنا مجرد كلام لا يعبر إلا عن العجز.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى