الاغتراب قراءة أنثروبولوجية أولية
بقلم: عماد خالد رحمة | برلين
من أكثر الأمور قسوة في حياة الإنسان أن يشعر بالغربة والإغتراب معاً، وهذا مبعث سيئ لأي شخص وللنفسية الإنسانية. فإذا بحثنا في مجال الإغتراب فإنّنا نجد شخصاً أو إنساناً ما قد فَقَدَ ذاته وشخصيته، وهذا ما قد يدفعه إلى الثورة لكي يستعيد وجوده وكيانه الإنساني من جديد. لم يتوقف الاغتراب على ما يعانيه الشخص من أزمات بنيوية ظاهرة، بل يتعداه إلى القضايا الداخلية النفسية، بخاصة من يعاني من الاغتراب الذهني، وهو مرض نفسي يحوّل سلوك ومنهج المريض وحياته، فيشعر وكأنه غريب عن مجتمعه ومحيطه الإنساني القريب منه، لذا يلجاً طواعيةً إلى العزلة، وهي عملية قهرية قسرية غير منظورة. تدفعه في كثير من الأحيان لسلوك أفعال طاغية تقف ضده وتتحكم فيه بقوة، بدلاً من أن يتحكّم هو بها .
والاغتراب ليس حالةً فردية، بل الاغتراب الجمعي هو من أقسى حالات الاغتراب. بخاصة ما يُعرَف بــ الاغتراب الاجتماعي/ (Social alienation)، وهو حالة لها خصوصيتها في العلاقات الاجتماعية تنعكس بشكلٍ أو بآخر حسب درجة التكامل الاجتماعي ودرجة التفاعل مع الآخرين، كما تنعكس حسب درجة الأخلاق والقيم السائدة، ودرجة المسافة أو العزلة الاجتماعية بين الأفراد، أو بين الفرد ومجموعة معينة من الناس في مجتمعٍ أو بيئة العمل على وجه الدقة. فهو مصطلح صريح وواضح في علم الإجتماع وُضِعَ من قِبَل العديد من المفكرين والمنظرين الكلاسيكيين والمعاصرين.
الجدير بالذكر أنّ مصطلح الاغتراب قد تم استخدامه منذ أمدٍ بعيد، حيث مرَّ عبر العصور المتتالية بعدّة معاني متناقضة، ومتنوعة في بعض الأحيان. ففي التاريخ القديم يمكن أن يعني مصطلح (الإغتراب) بــ (الإحساس الميتافيزيقي) من خلال تحقيق حالة سامية وعليا من التأمّل، وهذا الإحساس قادم من (فلسفة الزن)، التي تحقق حالة خاصّة من التأمّل لها ميزاتها، تتصف بالعلو والسمو والرقي، فمن خلال تتبعنا لما كتبه الفلاسفة (النيوبلاتونيين) مثل (بلوتينوس (في اليونانية/ ألويوسيس)، وجدنا كيف تم استخدامه بشكلٍ عملي، كما وجدنا من استخدم هذا المصطلح كمفهوم له علاقة وثيقة بالأديان، بخاصة حالة الانفصال عن الله أو البعد عنه، فقد استخدم أوغسطين (345ـ 430) هذا المصطلح كونه لا يستند إلى المعرفة النشورية والخلاصية مثل آراء (الدوناتيين) في التعميد اللاحق، كما أنَّ هناك رأي آخر تؤمن به الديانة المانوية التي تعترف بوجود إله لــ (نسر)، ورأي (الأريوسيين) في التثليث المسيحي (الأب والإبن والروح القدس). وقد تم استخدام الفعل alienare للتعبير عن الاغتراب الذي ورد في الانجيل المقدّس والذي يعني (ابتعاد الوثنيين عن الله) كون الوثنيين يعيشون في جهلٍ وضلال.
وكان الفيلسوف اليوناني أرسطو ( 384ق.م – 322 ق.م) قد استعمل هذا المصطلح في كتابه الهام (السياسة) في المجلد الثاني الفصل الثامن صفحة 1268. بمعنى المُبعَد من التعامل وممارسة الحقوق في المدينة. وكان الفيلسوف اليوناني أفلاطون (427 ق.م – 347 ق.م) قد قدّم للبشرية نموذج للمدينة الفاضلة، وهي كما هو متعارف عليها مدينة يحكمها الفلاسفة ظناً منه أنهم بحكمتهم وعقلهم الراجح سوف يجعلون كل شيئ في تلك المدينة معيارياً، لذا ستكون فاضة ولا يوجد فيها أي اغتراب. كل ذلك لا ينسينا معرفتنا بمعنى الاغتراب الذي استعمله رجل القانون الإيطالي والخطيب المفوَّه (ماركوس توليوس كيكرو)، الملَّقب شيشرون. ومن بعده فُهم المصطلح بالمعنى القانوني (المبادلة) أو (البيع) أي التنازل للغير عما يملكه شخص ما .
وفي اللغة الألمانية نجد الكلمة Entfremdung وهي كلمة مدرجة في اللغة الألمانية العالية الوسطى، وكذلك عند الفيلسوف وعالم اللاهوت الألماني مَيستر إكهَرت (Meister Eckhart) (1260 – 1328) م، ونجد الراهب واستاذ اللاهوت مارتن لوثر (1438 ـ 1546) م في ترجمته للانجيل المقدّس عام١٥٤٥ يستخدم الفعل entfremden لترجمة الكلمة اللاتينية abalienare بمعنى الابتعاد عن الله. كما تضمنت الفلسفة الألمانية مصطلح الاغتراب بكلمة (Entfremduding) ،وهذا المصطلح تم استخدامه لأوّل مرة في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر على يد الفيلسوف والدبلوماسي الألماني فريدريك فلهيلم فون همبولت Wilhelm von Humboldt(1767 ـ 1835) م وهو مؤسس جامعة هامبولت ومقرها في برلين . كما استعمل المصطلح الفيلسوف الألماني (Hegel ) (Georg Wilhelm Friedrich1770 — 1831) م في كتابه (ظاهريات العقل) عام (١٨٠٧) م. إضافةً إلى أنَّ مصطلح الاغتراب قد استخدم على نطاقٍ واسع في المعتقدات الدينية عند (الغنوصيةGnosticism) أو العرفانية، أو مذهب العرفان، أو المعرفة. الذي يقول هناك من «يتصورون أن تكوين الإرادة العامّة يتم كما لو كان كل المواطنين قد تجمعوا عن قصد واختيار، وكما لو كان مجموع الأصوات قد صنعت الإرادة العامة» (مؤلفات هيجل ظاهريات العقل) نشره (لسون وهوفمسيتر الجزء 20 الطبعة الثانية ص245). إبّان عصر التنوير Aufklärung في القرن الثامن عشر الميلادي .
من وجهة نظره يرى الفيلسوف الألماني هيغل Hegel الاغتراب مرحلة ضرورية نحو تحقيق العقل أو (الروح) لذاته، وهذا مزيج من الوهمي والواقعي، ذلك لأنّ الشخص يشعر بأنّه يعتمد على شيئ خارجه، واعظم منه هو الدولة والجماعة. لكن عليه في نفس الوقت أن يشعر بذاتيته وماهيته الخاصة. والموقف الرئيسي للشعور بالاغتراب هو حين يشعر أبناء المجتمع بأنَّ جوهرهم ونسغهم يقوم في شيء خارج عنهم، وبالتالي يشعرون انهم لا يستطيعون تحقيق ذواتهم وكينوناتهم إلّا بالتغلب على خصائصهم الذاتية ابتغاء التوافق مع تلك الحقيقة الزمنية الخارجة عنهم، وهذا يعني (المجتمع) أو (الدولة). والشعور بهذا الاغتراب حاضر سواء لدى من يذعن لهذه الحقيقة الخارجية وهو موافق ودون تردّد، ومن يرفضها ويبتعد عنها. وهنا يتجلى موقف الفيلسوف المثالي (Hegel ) (Georg Wilhelm Friedrich 1770 — 1831) الذي ينعت الشعور الأول بأنَّه شعورٌ نبيل iedelmutig ،والشعور الثاني بأنه شعورٌ خسيس niederträchtig.
لقد استخدم العديد من الفلاسفة مصطلح الاغتراب كلٌ حسب فهمه ورؤيته وزمنه أمثال الفيلسوف والكاتب والأديب الجنيفي جان جاك روسو ( Jean-Jacques Rousseau) (1712 ـ 1778) م. وهو من أهم كتَّاب التنوير. مؤلف كتاب (في العقد الاجتماعي)، وكان قد نشرته الشاعرة الكرواتية ـ النمساوية (بولا فون بريرادوفيتش) Paula von Preradović)) (1837 ـ 1952)، ص ١٣٩، باريس سنة ١٩٢٢. وقبل جان جاك روسو قرّر الفيلسوف وعالم الرياضيات الإنكليزي (توماس هوبزHobbes (Thomas(1588 -1679) الذي قال أن تنازل الأفراد عن حقوقهم للحاكم ذي السيادة هو الشرط الأساسي في العقد الاجتماعي الذي يربط بين الحاكم والمحكومين. معتبراً أنَّ (الانسان المتوحش sauvage) يعيش في ذاته، بينما الإنسان الاجتماعي – هو دائماً خارج نفسه – .
كما رأى الفيلسوف الأنثروبولوجي الألماني المشهور بكتابه الجدلي عبر التاريخ ( جوهر المسيحية) لودفج فويرباخ Ludwig Feuerbach (١٨٠٤-١٨٧٢) أن الاغتراب يقوم في الفصل بين التفكير المنطقي وبين ماهية الانسان، وفي النظر إلى حقيقة الانسان على أنّها ذات أصل فوق طبيعي. ومن هنا رأى فويرباخ Feuerbach أن الاغتراب يقوم أساساً لإفقار معنى الإنسان لصالح إغناء معنى الإلوهية. وكان الفيلسوف والاقتصادي الألماني كارل هانريش ماركسMarx) Karl) ( 1818 ـ 1883) م في البداية ضمن المعسكر الهيغلي الشاب ورفض الأساس الروحي، شأنه شأن فيورباخ Feuerbach، الذي تمكَّن من تكييف نموذج الجدل الخاص بهيغل مع نظرية المادية (التاريخية). فقد ذُكِرَت نظرية ماركس Marx في الاغتراب بأوضح شكل في المخطوطات الفلسفية والاقتصادية عام 1844م، والأيديولوجيا الألمانية عام (1846) كتب ماركس (الشاب) عن الاغتراب بصورةٍ متكرِّرة، وبشكلٍ مباشر، أكثر مما فعل ماركس Marx (الناضج)، الأمر الذي رآه البعض انقطاعاً أيديولوجياً في فترةٍ ما، في حين أكَّد آخرون أن هذا المفهوم بقي مركزياً ورئيسياً بالنسبة لماركس Marx.
من جهتهم يرى البنيويون عموماً تحولًاً واضحاً من مفهوم أو مصطلح الاغتراب (كالاغتراب الداخلي عن الذات) وهو تحوّل أنثروبولوجي فلسفي (الإنسانية الماركسية) إلى تفسير تاريخي بنيوي (كالاغتراب الخارجي عبر الاستيلاء على العمل) ترافق بتغير في الاصطلاح من الاغتراب إلى الاستغلال، وإلى تقديس السلعة والتشيؤ. صُنفت مفاهيم كارل ماركس حول الاغتراب ضمن أربع أنماط من قبل الكاتب والسياسي والمترجم اليوناني ـ الفرنسي (كوستاس أكسيلوس Kostas Axelos ) اغتراب اجتماعي واقتصادي، واغتراب سياسي، واغتراب إنساني، واغتراب أيديولوجي. وهذا المعنى الأبرز الذي يشير للمفهوم إلى جانب الاغتراب الاجتماعي والاقتصادي الذي ينفصل فيه العمال عما ينتجونه، وعن أسباب إنتاجهم له. رأى ماركس Marx في الاغتراب نتيجةً منهجيةً للنظام الرأسمالي. من حيث الجوهر، ثمة هو (استغلال للبَشَر مِن قِبَل البَشَر) وهو في الحقيقة يخلق معه تقسيم العمل كهرميةً اقتصادية (أكسيلوس، 1976: 58). فقد استندت نظريته في الاغتراب على ملاحظته أنه في الإنتاج الصناعي الوليد في ظل النظام الرأسمالي، يفقد العمال بشكلٍ حتمي سيطرتهم على حيواتهم وأنفسهم وكيانهم بفقدانهم لأي سيطرة على عملهم وما يقومون به . لا يصبح العمال قط بشراً مستقلين أو أحرار يحقّقون ذواتهم بأيّ معنى، باستثناء الطريقة التي يريد بها البرجوازي أن يحقِّق العامل ذاته.تعتمد نظريته على كتاب فيورباخ Feuerbach جوهر المسيحية (1841) الذي يحاجج أن فكرة الله قد غربت صفات الإنسان. وسّع الفيلسوف الألماني (يوهان كاسبر شميتدMax Stirner ) المعروف بـ (ماكس شتيرنر) التحليل في كتابه : (الأنا وذاتها) عام (1844) معلنًا أنّه حتى (الإنسانية) هي مثل مغرّب للفرد، بخاصة أنه يُعتبر من أحد آباء الفلسفة العدمية والوجودية وما بعد الحداثة واللاسلطوية .واستوجب الكتاب رداً من ماركس وفريدريش إنجلز Friedrich Engels في الأيديولوجية الألمانية عام (1845) يحدث الاغتراب في المجتمعات الرأسمالية لأنَّ كل فرد أو كل شخص يساهم في عمله في الثروة المشتركة، لكنه لا يستطيع التعبير عن هذا الجانب الفرداني الاجتماعي بشكلٍ جذري، سوى عبر نظام إنتاج اقتصادي ليس اشتراكياً بشكلٍ علني بل مملوك بشكل فردي، يقوم ضمنه كل فرد أو كل شخص بدور آلة لا بدور كائن اجتماعي له خصائصه الإنسانية . يلخص (كوستاس أكسيلوس Kostas Axelos ) أنه بالنسبة إلى كارل ماركس، في ظل النظام الرأسمالي (يجعل العمل من الإنسان مغترباً عن نفسه وذاته وعن منتجاته). وهذا يعني الشعور بالضيق الناتج عن هذا الاغتراب عن الذات أن العامل لا يؤكد ذاته بل ينكرها إلى أبعد الحدود، ولا يشعر بالرضى عن نفسه بل يشعر بالتعاسة في حياته بشكلٍ عام، وحتى جزئياً بشكلٍ خاص، لا يشعر العامل بنفسه سوى خارج العمل، وفي عمله يشعر باغتراب عن ذاته. وصِفَتَهُ الاغترابية تظهر بوضوح في حقيقة الأمر أنّه بمجرد عدم وجود ضغط أو إكراه جسدي، أو أي إكراه آخر، فيجري تجنبه كالطاعون.
كما كتب الفيلسوف كارل ماركس أيضاً، بشكل مختصر،حول الاغتراب الجماعي الاقتصادي أن المُلّاك الرأسماليين يختبرون أيضاً الاغتراب من خلال الاستفادة من الآلة الاقتصادية والمنتجة عبر منافسة شفافة لا نهاية لها، واستغلال الآخرين، والإبقاء على الاغتراب الجمعي في المجتمع. (الاغتراب الاجتماعي ( Social alienation .
أما الاغتراب السياسي فإنَّ تلك الفكرة تشير إلى فكرة أنَّ : (السياسة هي الصيغة التي تنظم القوى المنتجة للاقتصاد)، أو (السياسة تكثيف للاقتصاد) ، بطريقة (تخلق الاغتراب لأنها تشوِّه منطق التطور الاقتصادي) .
أيضاً في سياق البحث عن الاغتراب نجد الاغتراب الإنساني له خصوصية خاصة جداً، حيث يصبح الأفراد مغتربين عن أنفسهم وذواتهم في صراعهم المستمر للبقاء على قيد الحياة، حيث قال (كوستاس أكسيلوس Kostas Axelos ) إنهم : (يخسرون وجودهم الحقيقي في صراعهم لتأمين سبل العيش) (أكسيلوس 1976: صفحة 111).
من جهته يركزكارل ماركس على جانبين من الطبيعة البشرية يسميهما (الشروط التاريخية). يشير الجانب الأول إلى ضرورة الغذاء والمأوى والملبس وما إلى ذلك. والجانب الثاني، يرى ماركس أنه بعد تلبية هذه الحاجات الرئيسية والهامة، يميل الناس إلى خلق المزيد من (الرغبات) أو (الحاجات) التي سيعملون على إشباعها بأي ثمن، وهكذا يصبح الناس عالقين في دائرة مغلقة من (الرغبات) و(الحاجات) مما يجعلهم مغتربين عن بعضهم البعض.ليس هذه فحسب بل هناك اغتراب أيديولوجي كون ماركس يرى يرى جميع الأديان تبعد الناس عن سعادتهم الحقيقية وتذهب بهم نحو سعادة وهمية .
كان عدد كبير ممن يشعرون بالقلق بشأن التأثيرات الغربية للتحديث بخاصة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين . فقد كتب علماء الاجتماع الألمان،أمثال الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني جورج زيمل Georg Simmel (1858 ـ 1918) وعالم الاجتماع الالماني (فرديناند تونيز/ Ferdinand Tönnies (1855 ـ 1936) الذي يعتبر أحد المساهمين الرئيسيين في إرساء النظرية الاجتماعية .كتبوا أعمالاً كثيرة حول التحضّر والفردية. يصف زيمل Simmel في فلسفة المال كيف تصبح العلاقات الاجتماعية أقوى وأكثر بوساطة المال. ويمكن ملاحظة فكرة الاغتراب هذه في بعض السياقات والأطر الأخرى، على الرغم من أنَّ مصطلح الاغتراب قد لا يُستخدم على نحوٍ متكرِّر. وفي سياق علاقات وسلوك الفرد داخل المجتمع، يمكن أن يعني الاغتراب بهذا المعنى، عدم استجابة المجتمع ككل لفردية كل فرد من أعضاء ذلك المجتمع. وعندما يتم اتخاذ القرارات الجماعية، يكون من الصعب بل من المستحيل عادة مراعاة الاحتياجات الفريدة والرغبات لكل شخص.