سياسة

معركة غزة والمرجفون والمجاز العقلي

بقلم: رضا راشد

    أرأيتم إلى السكين كيف تكون في يدٍ أداةَ تذكية للحيوان ليصبح لحمه حلالا طيبا يأكله الناس، ثم تُمسي السكين نفسُها في يدٍ أخرى أداة إجرام وبطش وطغيان؟! أورأيتم إلى السيف كيف يكون في يد الحق قوة يحتمى بها، فإذا هو مهند من سيوف الله مسلول، ثم يصير هو نفسه في يد الباطل أداةً يحاول بها الباطل الإجهاز على الحق؟!

   أورأيتم إلى الكلمة كيف تغدو في لسانٍ كلمة الحق والصدق والنور الذي يمحو ظلمات الظلم والفساد ويستمد منها نور العدل والصلاح والإصلاح، ثم تكون هي نفسها في لسانٍ آخرَ كلمةَ كذبٍ وإفكٍ وبهتانٍ وطغيان؟!

    إنها أمثلة للشيء يستغل تارة في النفع والإصلاح، وتارة أخرى في الضر والإفساد، وإنما ذلك بحسب من يستعمله وباليد وبمعيار اليد التي تمسكه… وكذلكم كان أسلوب (المجاز العقلي) سلاحا ذا حدين: فهو في ألسنة الصالحين المصلحين أسلوبٌ بلاغي يكتنز الكثيرَ من الأسرار البلاغية التي تخدم الأغراض السامية=ثم يصير هو نفسُه في ألسنة المرجفين والمنافقين وسيلةَ تضليلٍ وإفسادٍ وتسميمٍ للعقول بأفكارٍ خبيثةٍ، تحقيقا لأغراض دنيئة، وذلك كما استعمل في المعركة الإعلامية المواكبة للمعركة الحربية الدائرة رحاها على الأرض المباركة في فلسطين، بين فسطاط الحق من جانب، وفسطاط الباطل والنفاق والإرجاف من جانب آخر.

     و(المجاز العقلي): فن بلاغي وأسلوب بياني يتم فيه إسناد الفعل لغير فاعله الحقيقي؛ لعلاقةٍ وصلةٍ بينه وبين هذا الفاعل المجازي، كأن يكون هذا الفاعل سببا في الفعل أو زمانا له أو مكانا له..إلخ.

ومثالا على ذلك تقول: بنى جمال عبد الناصر السد العالي فأسند الفعل (بنى) إلى (جمال عبد الناصر) مع أنه لم يتول البناء بنفسه، وإنما لما كان هو السببَ في بناء السد العالي- بقراره الذي أصدره-، جاز إسناد الفعل إليه؛ لكونه كان السببَ. ومن ذلك أيضا قول الله تعالى:{إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفه منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين}، فقد أسند الفعل (يذبح) إلى الضمير العائد على فرعون، ومعلوم أن فرعون لم يباشر فعل التذبيح بنفسه حتى يسوغ إسناد الفعل إليه على سبيل الحقيقة، بل الذي تولى التذبيح هم جنوده، وإنما لما كان فرعونه هو السبب في ذلك بقراره الذي أصدره بتذبيح ذكور بني اسرائيل واستحياء إناثهم، أسند الفعل إليه من باب إسناد الفعل إلى سببه، وهذا هو المجاز العقلي.وقد يسند الفعل أيضا إلى زمانه كما قال الشاعر:(من سره زمن ساءته أزمان)؛فالزمن لا يسر ولا يسوء، ولكن لما كان هو الظرف الزمانى للفعل جاز إسناد الفعل إليه.

    وفي التاريخ الإسلامي ما يدل على أن(المجاز العقلي) يكون أحيانا ملاذا يلوذ به الإنسان من تهمة توجه إليه، ففي معركة (صفين) قَتَلَ أهل الشام الصحابيَّ الجليلَ عمارَ بنَ ياسرٍ -رضي الله عنه وأرضاه-، فاستحضر الناس حينئذ حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المروي في الصحيح الذي يقول فيه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: “ويح عمار تقتله الفئة الباغية”، وفي هذا بيان أن الحق مع سيدنا علي -رضي الله عنه-، وأن أهل الشام قوم بغاة، وعاقبة ذلك -لو استقر هذا في الأذهان- ستكون وخيمة على أهل الشام أنفسهم، فحينئذ قال سيدنا معاوية رضي الله عنه وأرضاه: “إنما قتله من أخرجه”، يريد أن الذي تسبب في قتله هم أهل العراق من جنود سيدنا علي -رضي الله عنه- لما كانوا هم السببَ في إخراجه إلى ساحة القتال، يريد بذلك سيدنا معاوية رضي الله عنه ان يبرئ ساحة أهل الشام من قتله؛ فرارا من وسمهم بالفئة الباغية، وفي ذلك من سوء العاقبة ما فيه.

    ولا شك أن في ذلك مغالطة؛ لأن إسنادَ الفعل إلى فاعله الحقيقي أولى من إسناده إلى فاعله المجازي، وإسنادُه إلى فاعله المجازي لاينفي إسناده إلى فاعله الحقيقي، فلو سلمنا أن أهل العراق كانوا هم السببَ في إخراج عمار إلى ساحة القتال، فإن ذلك لا يبرئ أهل الشام من إثم قتله وعواقبه ويبقى الفاعل الحقيقي هو الأَوْلى بأن يُسنَدَ إليه فعلُ القتل، وهم أهل الشام الذين باشروا قتله، ولكنه (المجاز العقلي) الذي يصير أحيانا ملاذا ومهربا يلوذ به الدهاة من العرب فرارا من اتهامهم بقتل عمار ومن ثم وصفهم بالفئه الباغية.

    وفي الحرب الدائرة رحاها الآن على الأرض المباركة بين أحفاد القردة والخنازير وبين إخواننا في فلس طين يرتكب المرجفون والمنافقون جريمة لا تقل عما يرتكبه اليهو د في حق إخواننا المسلمين، حيث تراهم كلما رأوا آثار الإجرام الصهيوني من قتل وتدمير بل وإبادة تصنف في عداد جرائم الحرب، تراهم يزمون شفاههم، ويقطبون جبينهم، ويلقون بنفايات أفكارهم؛ تلويثا لعقول الناس وتلبيسا عليهم، يزعمون أن الأحق باللوم والتثريب فيما حدث ويحدث من تدمير ومجازر وحشية هي حركات المقاومة؛ لأنها هي التي أثارت العدو عليهم، ولولا هذه المغامرات غير المحسوبة النتائج والحماقات -كما يقولون ويزعمون- لكان أهل فلسطين الآن في بيوتهم مطمئنين، وعلى فرشهم نائمين، وبالاطمئنان متدثرين، ولكان الشمل ملموما والرخاء موفورا .

     وفي هذا مغالطات كبرى وتناقض مع التاريخ والواقع. فالتاريخ يشهد أن هؤلاء لا يسالمون الناس وإن سالموهم، ولا يتركون الناس وإن تركوهم، ولا يوفون بعهودهم مع من يوفي بعهده معهم، وتاريخهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير شاهد بذلك.وأما الوقع فلقد أغار هؤلاء الأوباش اليهو د على غزة ثلاث مرات من قبل في سنوات (٢٠٠٨م و٢٠١٢م و٢٠١٤م) وفي كل مرة كانوا يقتلون ويذبحون ويهدمون البيوت على رؤوس أصحابها وكانوا هم أيضا البادئين بالعدوان؛ فماذا فعلوا حينها ؟! ملأوا أفواههم ماءلا فلاذوا بالصمت!

    ولو صح كلام هؤلاء المرجفين لكان أهل الضفة الغربية (المنزوعة السلاح من قبل حُرّاس السلطة الفلس طينية) في سلام؛ لأنهم ليسوا تابعين لأهل غزة، بل يتبعون السلطة الفلس طينية التى لا تتفوه بكلمة إلا بموافقة اليهود عليها..فهل سلم مسلمو الضفة الغربية منهم؟ ألم يبلغ هؤلاء المرجفين المنافقين ما فعله اليهود بالمقدسيين منذ سنتين في حي الشيخ جراح..فهل كان المقدسيون أيضا هم السبب بإثارتهم لليهو د؟!إن هذا الكلام لا يقوله إلا جاهل بتاريخ يهو د وواقعهم، وإما مدلس يرى الحق أمامه ثم يغمض عنه عينيه لمآرب خبيثة.

    ولو صح كلام هؤلاء المرجفين أيضا لرأيت من أهل فلسطين -ممن نكبوا في هذه المعركة- من يصب جام غضبه على المقاومة؛ إنكارا عليهم تهورهم وزجرا لهم عما فعلوا وتسبب في هدم بيته وقتل أسرته مثلا..فهل حدث شيء من هذا؟ لا والله بل ما يحدث إلا العكس: حيث ترى من الناس صمودا وثبات يزن الجبال رسوخا وإصرارا على المضي قدما في طريق المقاومة حتى النصر أو نيل الشهادة…وإنها لجهاد: نصر أو استشهاد .

إذن فقد بطل من كل وجه أن بكون المجا هدون هم السبب فيما حدث، ولو افترضنا جدا أنهم هم السبب فهل من العدل أن نحمل المسئولية للضحية التي تحاول أن تنتصف لنفسها – ولو قليلا – من إجرام ووحشية طال عليها على مدى أكثر من خمس وسبعين سنة..ونترك المجرم بريئا من أي مسئولية..مالكم كيف تحكمون ؟!

إن محاولة تحميل المجا هدين المسئولية فيما حاق بغزة من تدمير ومجازر وحشية ما هي إلا محاولة خبيثة فاشلة بتبرئة المجرم وإدانة البريء لغرض في نفس يعقوب، ولكن ذلك لن ينطلي على أحد.

ومع كل ذلك يظل المجاز العقلي بريئا من أي تهمة، فلا عتب عليه ولا إنكار إلا إذا أنكرنا على السكين أو السيف ذبحه لمظلوم؛ إذ ليس له من الأمر شيء، بل هو أداة في لسان من يستعمله، وإذن فالإنكار إنما على من يسيء استعماله لاغراض خبيثة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى