محمد درويش المنتمي إلى المعرفة والأدب والجمال!
بقلم: علي جبار عطية |العراق
تزخر سماء الترجمة في العراق بنجوم متلألئة كجبرا إبراهيم جبرا، ومحمد درويش، وبسام البزاز، وعبد الواحد محمد، وعبد الواحد لؤلؤة، وكاظم سعد الدين، وفلاح رحيم، وعلي عبد الأمير صالح، وسعد الحسني، وشاكر حسن راضي وغيرهم، لكنَّ يبقى الأبرز فيهم هو الذي يشار إليه بالبنان للغته الأدبية الرفيعة، وتنوع ترجماته، ودقة اختياراته، وشموليته.
يورد الكاتب الأمريكي آندي ميلر في كتابه (سنة القراءة الخطرة /كيف استطاع خمسون كتابًا عظيمًا إنقاذ حياتي)/٢٠١٧ عدة حكايات منها حكاية عثوره على كتاب لهنري ميلر عنوانه (الكتب في حياتي) يقول : (في مقدمة الكتاب يعرض هنري ميلر جملة بسيطة ليختصر فيها الكتّاب والكتب التي بقيت معه عبر السنوات : لقد كانوا أحياء، وكانوا يتحدثون معي !) ص ٢٥ وهذا الرأي يمكن أن نجد مصداقه في ترجمات المترجم البارع محمد درويش (١٩٥٠م ـ ٢٠٢٣م) فيكفي أن تقع عيناك على كتاب ممهور بترجمة محمد درويش لتقتنيه وأنتَ مطمئن إلى ذوق المترجم وجودة الكتاب ونوعيته؛ وذلك لأنَّك تكون أمام جهد ترجمي ثري يستحق القراءة، والتأمل والدراسة. حدث هذا معي في بعض الكتب فقد جذبني مثلًا كتاب(كيمياء الكلمات/ حوار في النقد والشعر والرواية والمسرح)/٢٠١٢الذي ترجمه الدكتور محمد درويش، وصدر عن دار المأمون للترجمة والنشر، ليس لمادته العميقة والغزيرة، وإنّما لأنَّ مترجماً بارعاً هو الذي تولى ترجمته، ذلك المترجم الذي هو كالنحلة لا يقف إلا على طيب! ومن فرط إعجابي وتعجبي تناولت الكتاب وما يتصل به في الحلقة الثانية من البرنامج الثقافي الشهري (ضفافٌ معرفيةٌ) الذي تبثه دار المأمون للترجمة والنشر.
لم يكن هذا الكتاب هو فاتحة معرفتي بالمترجم الفذ محمد درويش، راهب الترجمة ـ كما يُطلق عليه ـ وإنّما سبق ذلك دهشتي لترجماته المنتقاة بعناية جراح قلب ماهر يعرف ما يمس شغف القارىء فهو أحد المترجمين القلائل الذين لهم بصمات في حقل الترجمة، وأسهموا في التعريف بأهم الكتب العالمية في الأدب والفكر والروايات وقد أثرى المكتبة العربية بأكثر من خمسة وخمسين عملًا مترجمًا في شتى صنوف المعرفة والآداب.
لعلَّ من أبرزها (فن الرواية) لكولن ولسن، و(السقوط الحر) لوليم غولدنغ، ورواية (الخلود) لميلان كونديرا،و(أربعون قاعدة للحب) لأليف شافاك، و(سيرة غابريل غارسيا ماركيز)، و(صراع الكلمة والوجود /حوار مع كولن ولسن)، وغيرها من الكتب.
إنَّ التحدي الكبير الذي يواجه المترجمين هو ما تسمى بالترجمة الحرفية للنص بدعوى تجنب خيانة النص فيتقيدون بأساليب اللغة المصدر، ويحاولون أن يكونوا أمينين في نقل تركيبة الجملة مع المعنى بدعوى عدم التضحية بشيء، فيربك بعضهم القارىء بجمل مفككة تفتقد إلى الربط والانسيابية والجاذبية ، بينما نجد مترجمينَ آخرين يعيشون أجواءَ اللغة الهدف فيبتعدون عن اللغة المصدر، ويجتهدون لينقلوا المعنى فيقعون في دائرة الاتهام بعدم الأمانة.
لكن كيف عالج محمد درويش هذه المسألة؟ أنقل رأياً للناقد الدكتور نجم عبد الله كاظم يقول فيه: (.. حقق الدكتور محمد درويش ما جعلنا نسميه من مدة مترجماً فذًّا، نعني الموازنة، التي نعتقد أن تحقيقها أعيت الكثير من المترجمين، بين الاقتراب في النص مترجماً من القارىء العربي من جهة، وعدم الابتعاد، في الوقت نفسه، عن النص في لغته الأصلية من جهة ثانية). (جريدة المدى ٢٠١٣/٦/٢١).
المدهش أنَّ محمد درويش بدأت مسيرته في الترجمة، وهو لم يزل طالباً في كلية الآداب /قسم اللغة الإنكليزية بجامعة بغداد وواكب الكتب الحديثة طوال أكثر من نصف قرن ثمَّ أكمل دراسته العليا فحصل على شهادة الماجستير في علوم الترجمة من كلية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية بجامعة هيريوت وات/ المملكة المتحدة عام ١٩٨٣، ثمَّ حصل على شهادة الدكتوراه في فلسفة اللسانيات والترجمة من كلية الآداب في الجامعة المستنصرية/ بغداد عام ١٩٩٨ فهو يجمع بين الثقافة الأكاديمية والثقافة العامة لذا عرف ما يهم القارىء العربي، وعمل على سد النقص في حاجاته المعرفية.
واكب محمد درويش دار المأمون للترجمة والنشر منذ انطلاقها كمشروع مؤسسي نير، وعمل فيها عنصرًا فاعلًا مؤثرًا ترجم أهم الأعمال التي تبنتها. إنَّ الملمح البارز في شخصية محمد درويش الترجمية هو عنايته بكتابة مقدمة رصينة لكل كتاب يترجمه، وتتكشف روعته فيها ليس بوصفه مترجماً، وإنَّما لمهارته كمؤلف، ويشعر القارىء أنَّه يقرأ لمؤلف أصلي، وليس لمؤلف ثانٍ.
لقد عرف عنه ولعه الشديد بالكاتب البريطاني كولن ولسن (١٩٣١م ـ ٢٠١٣) المنظِّر لفلسفة اللا انتماء، بل وافتتانه به حتى أنّه ترجم أهم أعماله، ولعله تبنى بعض آرائه في الفكر والأدب والحياة حتى يمكن أن يقال إنَّه كان لامنتمياً في المنهج والحياة لكنَّه منتم إلى حد كبير إلى المعرفة والأدب والجودة والتنوع والثراء والجمال، يورث مَنْ ينتمي إليه بكل ما يعزز هذه القيم العالية.