أدب

قراءة نقدية في قصص الكاتبة السورية هند يوسف خضر

قصص البوح.. الإفصاح عما يعتلج في الذات

عقيل هاشم | العراق

     القاصة السورية هند خضر في قصصها المنشورة تباعاً على وسائل التواصل الاجتماعي نجدها تمتلك قيماً جمالية وإنسانية،تضفي على مشروعها السردي سمات التجديد والتحديث،والمحاكاة والتخييل ،والانسجام والتناغم وهذه قيم جمالية ترتفع بالنصوص إلى قمة الإبداعية ،وبمواكبتها هذه تكون قد حققت لنفسها ما هي جديرة به من استحقاق المجد الأدبي،خاصة وأنها قلم قصصي يتأنى في الكتابة والنشر.
وبالموازاة مع هذه القيم الجمالية، الإنسانية،المتمثلة في الكشف_بما يعنيه الكشف من صراحة أخلاقية وتعرية جريئة -والبوح -وهو قرين الإفصاح عما يعتلج في الذات ويكمن فيها من آمال عريضة وأحلام سعيدة_،والحرية_بما تدل عليه من توق إلى كسر القيود والحدود_والتطلع إلى مجتمع أفضل_مجتمع المستقبل؛ وبذلك تتضافر القيم الجمالية والإنسانية على إكساب هذه القصص قوتها ودفقها وراءها الإبداعي،وهي به جديرة جدارة الحضور اللافت في المشهد القصصي..
وتجترح في لعبة الحكي الجميل قيماً جمالية وإنسانية، وقد بلغت في ذلك الحياة بكل طاقتها التوثيقية كونها مرحلة متقدمة من الوعي بقضايا الإنسان ومشاكله وهمومه والتحديات التي تعترضه في سبيل البلوغ إلى مجتمع راق جمالياً وإنسانياً. ما ينم عن نصوص إبداعية وجمالية؟
وأول ما يلفت النظر في كاتبتنا هند القصصية أنها تنزع إلى التجديد والتحديث، إذ هي تبتكر في كل قصة طريقة حديثة من طرائق الحكي الحداثية المتعددة منها استخدام ضمير المتكلم (الأنا الساردة) بكثرة ـ إيهاماً بصدق المحكي وكأنه سيرة وليس قصةـ هذا ما تبدأ به مجموعة قصصها حيث السرد متدفقاً بضمير الأنا، مزداناً بآليات الصنعة الحكائية الحداثية، حيث المزج بين الحاضر والماضي يتم في توليفة سردية .
وهذه الطريقة الحكائية الحداثية تتكرر في القصص الموالية كلها، هذا الفعل الذي يمنح للقصة قوتها المدهشة على تأسيس عوالم المحكي وربطها بعضها ببعض لتصب في سياق واحد هو معاناة المرأة الساردة،المعاناة المقرونة بالصمت والألم، بل أضحت المرأة منخرطة في عصرها، تكتب عن حياتها، وهي إذ تفعل ذلك تتوسل التجديد والتحديث بكل آلياتهما المعروفة من تطويع للغة الحكي وجعلها حيوية متدفقة منسابة، تتدفق وتنساب على إثرها الأحداث والوقائع، وتصبح الحياة المحكي عنها حيوية جذابة مفعمة بالتشويق والإثارة.
أيضا من القيم الجمالية اللافتة في نصوص هند هو تمثلها الحياة’ ك قيمة (المحاكاة والتخييل) ونعني بالمحاكاة هذا السعي الدؤوب الذي تنهجه الكاتبة في تصوير واقع الحياة الإنسانية من حولها، وهي في تصويرها تتكئ على آلية المحاكاة ـ التي لا تعني نقل الواقع نقلاً فوتوغرافياً كما يمكن أن يذهب إلى ذلك ظن القارئ ـ وإنما هي تضخ في هذه المحاكاة القصصية ـ التخييل الذي يجعل الواقع المحاكى جديداً بالنظر إلى ما بثه التخييل فيه من حيوية وعرامة واحتشاد بالحياة الكائنة والممكنة، للتمثيل.
أقول الكاتبة تسعى سعياً دؤوباً إلى شحن هذا الواقع بما ينبغي أن يكون عليه، ويتحقق عندها هذا باتكائها على التخييل لما ينطوي عليه التخييل من حرية في الحكي والكتابة للحظة الراهنة وللمستقب حيث تجد مظهرها البارز في العلاقات القائمة بين الأحداث المروية وطرائق اشتغال المكونات الحكائية التي تجسدها،
وختاماً أقول أنها متمكنة من آليات الكتابة القصصية ومهاراتها الجمالية.تعطينا صورة صادقة لتشظي الحياة الاجتماعية وتفككها وانفراط عقدها، وأن القاصة عندما تقول ذلك في قصتها إنما تقوله لنعيد النظر في حياتنا وعلاقتنا بعضنا ببعض.
وقد توافر الانسجام والتناغم،أو ما كانوا يسمونه(الهارموني)،ويكون الانسجام في القصة القصيرة،عندما يصبح صعباً على القارئ حذف فقرة أو مشهد أو حتى كلمة من مكانها،إذ ذاك نكون إزاء(هارمونيا)في العمل الأدبي القصصي،وهذ جلي في قصصها .لأن القصة تصور في نهاية المطاف الحياة الإنسانية الصعبة لكل من المرأة والرجل.
إن التناوب الحكائي واضح هنا في تصور المعاناة الإنسانية المعاصرة،وفي هذا سر جاذبية الأدب،وهنا تكمن وظيفته في التأثير والتغيير…وظيفته في ترسيخ القيم الإنسانية السامية. فهذه الرغبة المستبدة بالقاصة في جعل قصتها تكشف حقيقة الحياة في الحروب العربية ومأساتها وخلفياتها الحادة الشائهة..كل ذلك يتم بفضل قيمة الكشف،هذه القيمة التي تكتسي في الأدب درجة رفيعة،خاصة عند المبدعة التي جعلت قلمها في خدمة الحقيقة وفي خدمة الحياة،بمعنى جعلت أدبها كشفاً إنسانياً للحقيقة بكل ما يتلبسها من غموض وما يعتريها من آفات وأخطار تهدد الحياة في صميمها.إن الكشف وسيلة ناجعة لجعل الحياة أبهى في أعيننا وأجدر بالبقاء جدارتنا بالاستمرار في الوجود على أفضل حال.
إذا كان الكشف ينطوي على رؤية موضوعية للأشياء والكائنات والعالم،فإن البوح ينبع أساساً من ذاتية الرؤية،وقيمته أساسا تكمن في هذه الذاتية،إذ البوح تعبير صريح عما تنطوي عليه الذات من حميمية في الرؤى واشتعال في رغبة التعبير.والبوح عادة ما يرتبط بما هو سيرـذاتي،لكننا وجدنا البوح في قصصها تحول فعلا إلى سير ذاتي ،وهذا يعني أن حياة الكاتبة تنسرب في تضاعيف قصصها،سواء كانت هذه الحياة مما عاشته واقعياً وفعلياً بذاتها وكيانها،أو مما عايشته مشاهدة ومتابعة ومواكبة لما يجري حولها هنا وهناك،لذلك ينبغي عدم فهم البوح باعتباره تعبيراً عن حياة الكاتبةـحياتها الذاتية الحميمة فقط،فهي عندما تعبر عن معاناة الناس وتصل في هذا التعبير إلى درجة التماهي،تكون بصدد البوح عما يعتمل في ذاتيتها من مشاعر الآلام والآمال في حياة أفضل يستحقها الإنسان على هذه الأرض،ففي هذه الأرض التي نحيا فيها ما يستحق الحياة.
فقد اتخذت في نصوصها مرجعيات عن الدعوة إلى الحرية للشعب الفلسطيني كونه هامشاً سردياً فاعلاً في الكتابة القصصية الحديثة والمعاصرة أشكالاً وألواناً من التجلي تبعاً للمرحلة التاريخية والحضارية،التي كتبت في إطارها هذه الكتابة القصصية،فعندما كان الشعب الفلسطيني يعاني الاحتلال ورازحاً تحت نير وثقل الصهاينة ،كانت الحرية في الكتابة القصصية دعوة وتحريضاً على التحرر من هذا الغاصب الغاشم ومن جبروته وطغيانه، ولذلك نجد في تضاعيف قصصها تجليات عديدة لمفهوم الحرية باعتباره قيمة نبيلة غالية من القيم الإنسانية الرفيعة، هي مباهج الحياة التي ينشدها أبطال قصصها تكشف عن رؤية جديدة لمجتمع أفضل وحياة أجدر بكفاح الشخوص وتطلعاتهم الحالمة إلى مستقبل أجمل ،وهذا التوق وذاك الحلم يومئان إلى حياة أخرى أفضل وأجمل بل إن إيمان الساردة بقيمة الحلم_في حد ذاته_يشكل رؤية جديدة لحياة مستقبلية منشودة،ولذلك نجد في قصصها هذه الأحلام والرؤى التي تتطلع إلى حياة أخرى،حياة مجتمع جديد قادم أفضل من المجتمع القائم،إنه مجتمع المستقبل الذي يعمل التخييل القصصي على تشييده تشييداً حالماً،لكنه حلم ممكن،حلم فاعل،حلم قابل للتحقق ما دامت إرادة الإنسان الكامنة في حلمه كفيلة بتحقيق هذا الحلم،هذا المجتمع الجديد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى