مشكلة الثقافة والتدوين التاريخي
مداخلتي بصالون تغريد فياض: "الثقافة حارس التاريخ- هل نكتب التاريخ أم يكتبنا؟"
إخلاص فرنسيس | القاهرة
يقول جبران خليل جبران: ” الحق يحتاج إلى رجلين، رجل ينطق به ورجل يفهمه”.
في سنة ٢٣ الدكتور زكي مبارك في كتابه “اللغة والدين والتقاليد”، في القرن ١٩ في مصر، في صفحة ٦٤-٦٥ طرح رؤيته في مناهج التعليم في المدارس الثانوية ومن ما نادى به، على وجه التحديد أن يدرس الطلاب الحياة السياسية والصراع الحزبي وما يدور في الصحف من مشكلات اجتماعية وعلاقات مصر الداخلية والخارجية الراهنة والحاضرة التي يعيشها الطلاب ويعاصرونها بالفعل وقد طالب بتحليلها من وجهة نظرهم والوقوف عليها وتفهمها وإبداء الرأي فيها، أما بالنسبة إلى العلوم التاريخية أو الاحداث التاريخية في الماضي فتحال للدراسة من الطلبة الجامعيين، وهذا من وجهة نظري قد رسخ زكي مبارك فكرة أن الذاكرة التاريخية هي من صنع جيلها وليس فيمن سيكتب التاريخ من وجهة نظره هو، فقد دعا إلى خلق جيل يفهم ما يدور وما سيسجله التاريخ لأبنائهم وبالتالي فإن من السهل أن يعود الأبناء إلى الآباء والاجداد للتحقق من تاريخ عاصروه ودرسوه في المدارس وهم أطفالا وهذه رؤيا استحقت في عصرها الالتفات إليها ولكن للأسف الشديد لم يُلتفت إلى زكي مبارك وطرد من هيئات التدريس وعانى من شظف العيش وعانينا نحن إلى الآن من أن يكتب التاريخ من وجهة نظر قد تكون غير محايدة، وخاصة في عصرنا الحالي.
من هذا المنطلق يكون كتابة التاريخ مهمة أصعب وأدق مما يتخيلها أي كاتب يجلس خلف مكتبه ويسمع قصص المنتصرين كما صُدر لنا في مقولة ” المنتصر هو من يكتب التاريخ”
انطلاقا من هنا تبدأ الأجيال المعاصرة في حراسة التاريخ وصيانته كشهود عليه كي يتسلمه الأجيال من بعدهم ك وجهة نظر جماعية محايدة.
وقد أشار مبارك ايضاً في كتابه على ذات المرجع السابق:
“درس تاريخ الآداب في المدارس الثانوية جهد ضائع وسنصبر عليه إلى أن تسوق المقادير إلى وزارة المعارف رجلاً حاذقا من بين الذين عرفوا عقلية التلاميذ، وما أظن اننا سنصبر طويلا، لأن العناية بإصلاح التعليم تزداد من يوم إلى يوم”.
بالإضافة إلى المعوقات التي تجعل الإنسان مغيباً عن تاريخه القريب أو البعيد هو القانون الذي يتعلق بسرية المعلومات، وفي بعض الأحيان لا يستطيع أي فرد في المجتمع أن يفهم أو يقدم تفسيراً لما يدور حوله من أوضاع راهنة أو تاريخية على حد سواء وبالرغم من أن اللوائح والقوانين والدساتير العالمية والمحلية تنص صراحة على حق الإنسان في الحصول على المعلومة سواء كانت تاريخية او اجتماعية هي حق مكفول بالقانون إلا أن الوثائق التاريخية قد كبلت بقوانين السرية وعلى سبيل المثال
ما ذكر في موقع الويكيبيديا:
” في الولايات المتحدة الأمريكية
ينص مرسوم قانون 13526 على آليات لمعظم عمليات رفع السرية، ضمن القوانين التي يقرها الكونغرس. وتحدد الوكالة الأصلية موعد رفع السرية بمدة 10 سنوات افتراضيًا. بعد 25 عامًا يكون رفع السرية تلقائي مع تسعة استثناءات فقط تسمح للمعلومات بأن تظل سرية. وبعد 50 عامًا يكون هناك استثناءان، والسرية التي تتجاوز 75 عاما تتطلب تصريحًا خاصًا. وبسبب التغييرات في السياسات والظروف، فمن المتوقع أن تستعرض الوكالات بنشاط الوثائق التي حجبت لأقل من 25 عامًا. كما يجب عليها الاستجابة لعرض رفع السرية الإلزامي وطلبات قانون حرية المعلومات. وتضم إدارة الأرشيف والوثائق الوطنية المركز الوطني لرفع السرية لتنسيق عمليات الاستعراض ومكتب رقابة أمن المعلومات لاعتماد القواعد وإنفاذ تدابير الجودة في جميع الوكالات. تستعرض إدارة الأرشيف والوثائق الوطنية الوثائق نيابة عن الوكالات المنحلة ويخزن بشكل دائم وثائق رفعت عنها السرية ليطلع عليها الجمهور. ويوجد لدى فريق الاعتراض على تصنيف الأمن بين الوكالات ممثلين من كافة الوكالات”.
فالكتابة التاريخية تخضع لقانون وحكم الافراج عن الوثائق بعد يصل إلى ثلاثين سنة أو أكثر، ناهيك أيضا أن مصطلح الثقافة الكلاسيكي ما زال حتى الان يدور حول الانسان الراقي المهذب باعتباره إنساناً مثقفاً، ويشار إلى المثقفين بأنهم الطبقة الأكثر رقياً وتحضراً، والواقع فإن تاريخ الفكر الثقافي يحمل العديد من المتناقضات التي قد تصطدم مع ما ورثناه في عقولنا عن المفاهيم الثقافية والمثقفين، ونشير في هذا الصدد إلى نشأة علم الأنثروبولوجيا الثقافية في نهاية القرن التاسع عشر والذي قام على أساسه استخدام العناصر الثقافية كأداة من أدوات حكم الشعوب استعمارياً، حتى وصلنا إلى أن مصطلح الثقافة الذي يعرّف الآن في مجتمعاتنا العربية والأوربية بإنه كل ما هو نتاج للعقل البشري سواء كان سلباً أو إيجاباً، فالتطرف ثقافة والإرهاب ثقافة الشذوذ والانحراف الجنسي ثقافة والأثنية ثقافة والصراع الديني ثقافة، والهوية ثقافية وإدمان المخدرات ثقافة، وبالتالي فإن مفهوم الثقافة في عصرنا الحالي لم يعد حكرا على فئة دون الأخرى، الكل مثقف بنوعية ما من الثقافة وواقع الأمر لا يوجد مثقفون وإنما يوجد من يعملون بالثقافة، او من يمارسون الثقافة، كل من مفهومه او موضعه، هناك من يمارس القتل باسم الثقافة وهناك من يمارس الإنسانية باسم الثقافة،
ولو نظرنا إلى التعريف الثقافي المتكامل نجد أن كل ما ينتجه العقل هو ثقافة كما أشرنا، وإن التاريخ هو جزء من الثقافة شأنه شأن الدين والعقائد واللغة والعادات والمعتقدات والقيم، وكل ما يتصل بالنتاج الإنساني، ولكننا نبغى أن تكون الاحداث التاريخية، مفهومها وتدوينها حقيقي سواء كان سلباً او إيجاباً.
وأود الإشارة إلى ما تناوله كيت إيكورن في كتابه (نهاية النسيان التنشئة بين وسائط التواصل الاجتماعي ترجمة عبدالنور خراقي فبراير ٢٠٢٣).
وقد أشار المؤلف صراحة إلى التطور الرهيب في استحداث الكاميرات وأجهزة التسجيل والالاف من مواقع الفضاء الرقمي وبإنه أصبح من السهل جدا توثيق وتسجيل وبث الحياة اليومية الشخصية والاجتماعية بكل سهولة، وأن هناك عصر يسمى نهاية النسيان بسبب وسائط التواصل الاجتماعي، وقد كانت إلى القرن العشرين قرن العصر التناظري مسألة النسيان أمرا بسيطاً متحكماً به، على مستوى الفرد والجماعة وكان بمجرد انزعاج فرد من صورة فوتوغرافية تعود إلى مرحلة ما من حياته طفولته ومراهقته يمكن سحبها من ألبوم الصور وتلفها، لتنمحي معها ذكريات قد تكون محرجة فإن هذا لم يعد ممكنا في العصر الرقمي الراهن حيث أصبحت لوسائط التواصل الاجتماعي سلطة منقطعة النظير وأصبح التخلص من الماضي أمراً صعب المنال واعتقد ان كتّاب التاريخ في المرحلة المستقبلية سيواجهون أمورا صعبة إذا أرادوا أن يكون التاريخ من وجهة نظرهم.
وهذه الإشارة قد سبقها مفكرنا الدكتور زكي مبارك عندما أشار في كتابه” اللغة والدين والتقاليد” أن يكتب التاريخ المعاصر من خلال معاصريه من طلاب المدارس. إلا أن الزمان دار دورته وفرض التسجيل الالكتروني كنتاج عصر لا انفكاك منه وليس لنا قدرة فيه على الاختيار.
ومن غير جبران نختم معه ” أنا لا أجيد الاساءة لكن بالمقابل أتقن مبدأ التجاهل وبشدة”