أدب

شمع

بقلم: أحمد البدري | مصر
تتساقط الدموع المتحجرة من عيون كادالحزن أن يذهب بنورها، وتلك التمتمات التي تخرج بصعوبة من شفتين مرتعشتين يابستين وكأنها لم تلمس شيئا من سنوات.
انزوت في ركن قصي تتكور علي نفسها، الساحة أمامها مكتظة بالزائرين وأصحاب الحاجات، كل منهم يحمل الرجاء والتوسل لصاحب الضريح، تعلو النهنهات . .تتشابك وتتداخل الأصوات ..لايسمع إلا حروف مبتورة، اختلط الوافدون والمغادرون، كل يلقي بما حمل ويطوف حول الضريح يتمسح بالكساء الأخضر، يستجدون الإذن من هذه العجوز الجالسة بجوار الضريح، تنظر إليهم في علو وكبر، كلما غلت في علوها تحاول العودة وارتداء قناع التواضع؛ فتحبس صوتهاالخشوع والمهابة الروحانية، بزهد مصطنع وابتسامةبلا ملامح تجمع ما يحملون من نذور، تربت علي أكتافهم..يقبلون يديها يقبلون أيديهم ..يمسحون علي أجسادهم ، تهمس بالشكر والحمد، تخرج كلمات الطمأنينة أحيانا … وتلقى بنظرات التعنيف واللوم في مرات كثيرة خاصة عندما تطلب إحداهن قليلا من السناج المتخلف من حريق الزيت وأجسام الشمع المنصهرة ، ما يقدمن من نذور لا يضاهى ما يطلبن من بركة وخاصة مسحوق الكحل الذى يضعونه في عيونهن أو عيون أطفالهن لشفاء الأمراض أو الزينة؛ فتطلب منهن المزيد من الشمع والزيت،تعدها الأخريات بالمزيد في المرات القادمة، تؤمن العجوز علي كلامهن وتخرج بعضا من الكلمات معلنة أن بركات صاحب المقام لن تصيبهن …بل إذا لم يوفين بوعدهن تتساقط عليهن اللعنات، تسيح برأسها في إتجاه تلك المتكورة المعزولة بعيدا، يهمسن بحروف تكسوها الشفقةعلى المتكورة والتمجيد في صاحب المقام؛ فتنهال الدعوات والدموع فوق الضريح ، تأمرهن العجوز بمغادرة المكان ، ذلك حتي يستريح صاحب المقام كما طلب، تطلب منهن الانتظار في الساحة الخارجية، يسرعن في التنفيذ.
تخرج صندوق النذور..تفرغه في حجرها..ترتب محتوياته ..تصنف النقود حسب الفئات ..تعد ما وجدته ..تدس كبيرة القيمة، قليلة الحجم في جيوبها…تترك القليل في الصندوق ؛حتى تتمكن من إيهام شركائها بما حصدت .تستعد لتقسيم المتبقي بالعدل.
لا تعبأ بتلك المتكورة فهي تعلم بأنها لاتشغل نفسها بما حولها، تذهب إليها تهز جسدها النحيل ..تأمرها بالرحيل، المتكورة لا تستجب لحركات العجوز، تعاود الكرة مرات ومرات، تمر اللحظات دهرا عليها حتى تفيق المتكورة وكأنها لوح من خشب، تمد إليهابعضا من الطعام والمال…تأمرها بمغادرة الضريح وشراء الشمع حتي تنال رضاء مولانا، تخرج إبتسامة يائسة من المتكورة…تتقدم بخطوات واهنة إلي البوابة، تصطدم عيونها بأشعة الشمس؛فلا ترى شيئا، أصوات الجموع بالساحة تخترق أذنيها،تصاب بالدوار..تحاول التماسك ..تقاوم السقوط…تستمر في المقاومة حتى تنهار تماما، يلتف الجميع حولها،تتعالى التكبيرات والحوقلة مختلطة بالرجاء والاستغفار والدعاء.
تخرج العجوز خلفها، الصمت يصيب الجميع، تأمرهن بالابتعاد عنها وتركها وشأنها محذرة أن تصيبهن ما أصابها من سخط أصحاب المقام .
يتراجعون… يطلبون العفو …يتقدمون نحو العجوز..يمطرونها بالقبلات..ينتزعون منها البركة والرضا…يدسون أسفلهم المتكورة …يسحقونها…يتزاحمون …يتدافعون …يسقط من يسقط..يتكور من يتكور ….تحذرهم العجوز من لعنات صاحب المقام. تتسلل من بينهم تختفي بعيدا عن عيونهم ، تتعالى صرخاتهم ظانين أن اللعنة أصابتهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى