مقال

خط أحمر

د. إلهام الدسوقي | القاهرة

خبير السلوك المهني التعليمي

على عهده معي منذ سنوات، ينظر في عيني نظرة المتعجب الذي لا يفهم كلامي، وكنت أقدر هذا واتغاضي عن بعض الأخطاء وأكتفي بأن يكون ضمن مجموعة من الأصحاب تسانده إذا لم يستطع وكان ذلك مطمئن بعض الشئ. 

كانت والدته تسبقه دائما بخطوة ويتبع عمر ظلها وهو منحني الرأس خوفا من أن يفقده، أو يتخذه ساتر يختبئ خلفه، ينظر إلى من حوله في خجل يتعرف على وجوههم بنظرات متقطعة من وراء ظهرها.

تتحدث باسمه، تتكلم بلسانه، تقلد حركاته، ترد بعقله متواضع التفكير وتدافع عنه وتأخذ حقه الضائع وكتير من الأحيان تقضي عنه واجباته وتحل امتحاناته..

يشارك زملائه وقت الراحة، لا يتحدث معه أحدا،  يحاول اللعب معهم ولكن لا يقدر على مجاراتهم، ينعته اقرب من يحبه منهم بالعبيط، وآخر يضحك في وجهه، فيقول وجدت من يصاحبني، ليصدم عندما ينادي عليه يا متخلف، لا يفهم معنى الكلمة ولكنه يدرك أنها مسيئة، لا يملك إلا قوته البدنية فسيتخدمها للدفاع عن نفسه ظنا منه أنه الاقوى ولكن يخيب أمله بعد أن ينال علقة ساخنة وضربا مبرحا ردا على تجرئه واستخدام يده مع الأسوياء.

اقتربت منه فلم يعيرني اهتماما، ضحكت في وجهه ووصفته بالجميل فانتبه، مددت يدي لأسلم عليه فلم يفهم معني السلام، هو فقط يواجه ويتأهب للعراك طوال الوقت، خوفه من أن أكون في وضع استعداد لضربه جعله يجري مسرعا من أمامي، يختبئ خلف الحائط، بين اقرانه، يقدم لهم السندوتش الوحيد في جعبته لينال الحماية بينهم.

يعلم جيدا أنه لا يفهم ما يدرسه، يبكي في بعض الأوقات عندما أكافيء زملائه ويعلم أنهم أفضل دراسيا ولكنه يحتاج أن يصفق له الجميع كما يحدث للأصدقاء ، يعتقد بعدم صلاحيته. حاولت هذه المرة أن أضع جائزة لأكثر الأولاد هدوءا فتهلل وجهه بالفرحة وانتظر في صمت تام حتى نال الجائزة، ظل يرقص ويلف حول نفسه ليعلن أنه الفائز وعيناه تقول: أنا مثلكم متفوق. 

سعدت بهذا الموقف فقد كان بدايه اطمئنان عمر وقربه مني، ومصدر حوار بيننا بدأ بالسلام وانتهى بما يحب أن يكون في المستقبل، حديث طويل مرهق معه لجأت للضغط على نفسي حتي أجاري عقله الذي لم يُبنَ بعد وأتعامل معه كما أعامل طفل الخامسة من العمر، لكن أحسست بهدوء نفسه بعد أن وجد من يسمعه وسعدت بصحبته وأحسست بالانتصار أخيرا على مخاوفه.

اختفى عمر سنوات لم أقابله، فقد قررت والدته أن تحميه من المجتمع كما اعتقدت ومنعته من الخروج إلا لأداء الامتحان فقط ظنا منها أن ذلك أفضل، غير مدركة أنه سيعامل مجتمع يرفضه في يوم من الأيام، سبع سنوات مرت سريعا، لم أصادفه ولو مرة، فقد كان يمتحن في هدوء لا يسمع أحد صوته ولا يعرف بوجوده.

حتى جاء اليوم الذى وقفت فيه أراقب الممتحنين، أطمئنهم لسهولة الامتحان وأحثهم على الإجابة والسرعة، وجدته بينهم، ينظر إلى ورقة الامتحان بتمعن، تظهر نظرته أنه لا يعرف ما يوجد فيها، تبدو عليه ملامح الاكتئاب والكسل والتساؤل لما أنا هنا؟ لماذا أدرس مالا أحب؟ لماذا ينظر إلي أصدقائي بنظرة دونية؟ لماذا لم يرعاني أحدهم بطريقة ترضيني؟ رمقته بابتسامة فسألني ماذا أكتب في ورقة الإجابة؟ وتعالت صيحات الممتحنين وضحكاتهم، دا عبيط مش زينا. 

صرخت بهم جميعا هدوء، عمر خط أحمر لا تتعداه.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى