أدب

الروائية مريم هرموش صاحبة الخيال الذي يرتقي بالواقع إلى ما “خلف الحجب”

فكري حسن | القاهرة

في روايتها الجديدة  ” خلف الحجب”  تقدم لنا الروائية اللبنانية مريم هرموش طرحاً روائياً فلسفياً عن حيرة الإنسان في مواجهة الكون الغامض والمصائر التي لا نملك التحكم فيها والعلاقات الإنسانية التى تحتوينا أحياناً بغلالة الحب الرقيقة ثم تلقي بنا إلى هوة الفارق وآلام البعاد.  

تنسج مريم عالماً اسطورياً لقرية لا تعرف الليل ولا النعاس- في يقظة دائمة تتخللها أحلام اليقظة – قرية تتحول من الخصب والنماء إلى صحراء جرداء مقفرة. يرتبط مصيرها بحاكم ظالم شرير قضى علي أهلها بالفناء والخراب عندما لم يحققوا رغباته الأثيمة. ونعرف من خلال الراوي – وهو أي منا – وهو مريم وكل من  يتلمسون طريقهم إلى ” الحقيقة  “. فإذا بيننا وبينها حجب وأستار، وإذا بنا نهيم في عوالم من الخيال الذي يمرق بنا من مكان إلى مكان ومن زمان إلى اللا زمان، ومن الوجود إلي العدم، ومن العدم إلى لحظات الأنس والألفة والحب والاشتياق، وسرعان ما نجد أنفسنا في ظلام دامس يداهمنا فيه نور ثاقب، وتجتاحنا ذكريات متخيلة هي كل ما نملك من حقيقة في عالم من الظلال التي تتلاش وتختفي لتتركنا أمام ما لا نستطيع أن نغيره أو نفهمه أو – أحياناً – أن نرضى به ونستكين إليه.  

هي صرخة إيكاروس وهو يسقط إلى البحر عندما حلق قريباً من الشمس بجناحين من ريش بعد أن ذاب الشمع الذي يلصق الأجنحة بجسده.  كان محكوماً عليه بالسجن في متاهة وعندما تحايل للهروب وطار بجناحية محلقاً لم يدرك “الحقيقة ” التى تسببت في سقوطه.  

تقترب ” مريم ” في صياغتها الأسطورية بجوهر وثيمات الأساطير وتمثلاتها عند الأشوريين والمصريين القدماء والأغارقة ، وما يحكي في إبداعات ألف ليلة وليلة والحكايات الشعبية الغرائبية. تحدثنا مريم عن “المعمر” الذي يحيا في ذاكرة القرية وهو الابن الذي أخفته أمه من والده الشرير، لينمو مع الذئاب والدببة، وهو من يحيا ليجسد ” الخلود ” ليتخطي حدود العمر القصير الذي نحياه على الأرض، ويذكرنا بأسطورة ” متوشالح” الذي عاش  – كما نعرف في سفر التكوين 969 عاماً،  وعندما مات انفجرت كل ينابيع الغمر العظيم وانفتحت طاقات السماء وكان المطر على الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة. كما لا تنسي مريم تيمة العجوز الساحرة الشريرة التى سخرها الحاكم الظالم لتعاقب المرأة التى رفضته وترسلها إلى عالم الظلام.  

وتتخلل الرواية الأسطورية قصة حب بين الراوي و” شمس ” بما فيها من لقاءات عابرة حميمة  تجدد الحب. بين صحراوات  من الفراق. وفي سرد شاعري هامس رقيق يناجي ” الراوي ” حبيبته شمس  – زهرة روحه بجمالها الملائكي وقامتها الرشيقة وشعرها المغزول بخيوط من أشعة الشمس المتوهجة، ولكن شمس كما في ” شمس المعارف ” هي الحقيقة التى لا يستطيع إدراكها، والنور الذي يسعي إليه بكل جوارحه والذي يضيء حياته في ومضات من المعرفة ليتركه بعدها في ظلام دامس لا تتخلله سوى حمى الحقيقة التى لا يستطيع الإمساك بها.  

الراوي كما تخبرنا مريم باحث عن الحقيقة تتوق نفسه إلى النهل من بحور المعرفة . 

” خلف الحجب” أسطورة أزلية تتخفي وارء الراوية لتكشف عن التراجيديا الإنسانية التي نجمت من اصطدام العقل الواعي بحدود معرفته وقصورها، ولجوؤه إلى الخيال والألغاز “لأن كل حقيقة نكتشفها وراءها حقيقة أخري نجهلها”،  و”إن مدارك عقولنا لا تقل غموضاً عن مدارك أبصارنا”،  وأن الحقيقة ليست إلا محض خيال.  

تحفل ” الرواية”  بهذه الأقوال المأثورة Aphorisms، وهي نص تحتي يتلامس مع الرؤية الفلسفية التى أوهجت شرارتها هذه الرواية، والتى تكشف لا فحسب عن أوهام الحقيقة ولكن أيضاً عن أسطورة الزمان والمكان وارتباطهما بالذاكرة  – 

” فكل ماضي سيعود ” وكل آت قد مضى”،  و “إن كل شيء سيعيد خلق نفسه مجدداً إلى أن يتدحرج الزمان والمكان معاً إلى الهاوية.”  

أما ” الموت ” وهو العدم الذي نتقدم صفوفاً إليه جيل بعد جيل، ويختطف أحباءنا ويطويهم تحت الثرى  – نفتقد ضحكاتهم ولمسة أناملهم – فهو محل تساؤلات لا تنتهي. نتناساه حيناً ونحيطه بالأكاليل حيناً أخري، ونمضي لا نعلم كيف ولماذا يتصاهر الموت والحياة وكيف أن “حياتنا قد لا تكون إلا سكرة لا يوقظنا منها سوى الموت”.  كما تذكرنا مريم هرموش.  

كما تذكرنا أيضا، بآلام الوجود، و”الدموع التي تفيض عندما يتعذر الكلام،” ولكننا نحيا من خلال الأحلام  ونرتشف في حالات الحلم رحيق الحب وعذوبة اللقاء، وننتصر على الموت في لحظات عابرة وأمامنا شواهد القبور.  

تصاحب ” الرواية ” تشكيلات بصرية من إبداع الفنان ذو الحس المرهف والرؤية الميتافزيقية المتبصرة  – أحمد الجنايني – تستحق أن تعرض مع قراءة مقتطفات من ” الرواية ” ليتكامل النص الروائي الفلسفي مع الرؤية التشكيلية في حوار من الخيال الذي يرتقي بالواقع إلى ما خلف الحجب.  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى