من وحي الهجرة النبوية: (كيف تكون هجرتنا اليوم)؟!
الدّكتور محمد بن قاسم ناصر بوحجام – القرارة – الجزائر
هاجر الرّسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه من مكّة إلى المدينة، بعد معاناة كبيرة وأذى شديد، نالهما من قريش، التي قامت بكلّ أنواع التّنكيل والتّضييق على المسلمين ليتركوا دينهم، وينفضّوا من حول رسول الله الذي بعثهربّه برسالة الإسلام والأمن ولسّلام والهداية للبشريّة كلّها.
ظلّ المسلمون صابرين على كلّ أنواع الأذى، متحمّلين كلّ الضّغوط؛ بسبب تمسّكهم بدينهم الإسلامي، وفي سبيل البقاء أوفياء لتعاليم الدّين الحنيف، حتّى أذن الله لهم بالهجرة من الرّقعة التي ضيّق عليهم فيها إلى رحاب مستقَرّ الأمن والأمان، ليعبدوا الله في سعة من أمرهم. هاجروا من مكّة إلى المدينة.. فكان هذا الحدث مفصليًّا في حياة المسلمين، وفي مسيرة الدّعوة الإسلاميّة. إذن هاجر المسلمون وتركوا مكّة فرارا بدينهم إلى المدينة، حيث ينعمون بالظّروف المناسبة لعبادة ربّ الخلق أجمعين. وقد كانت الهجرة واجبة لكلّ من استطاع إليها سبيلا..
إنّ الهجرة النّبويّة بما تضمّنته من معانٍ ومغازٍ، وخير للإسلام والمسلمين، وما حملته من دلالات الرّاحة النّفسيّة، وما وفّرته من علامات الاطمئنان لحياة كريمة سويّة، ترضي الله.. غدت مصدرا لاستلهام العبر منها، ومنبعا لاستيحاء أساليب العيش التي تبعد المسلمين عن الضّيق والضّغط اللّذين يشعرون بهما أو يمرّون بهما في حياتهم؛ لتأمين سلامة دبنهم، وبقائهم في الصّراط المستقيم الذي قال عنه الله جلّ وعلا: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْوَصَّاكُمْبِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام 155). هذه وصيّة الله للمسلمين أن يبقوا ملتزمين بشرعه مهما تكن الظّروف والأحوال، ومهما تتغيّر البيئات والقوانين ونظم العيش..
مناسبة ذكرى الهجرة النّبويّة تدعونا أن نتذكّر سيرة أسلافنا من العهد النّبوي إلى اليوم، ونتأمّل كيف كانوا يتعاملون مع المتغيّرات والمستجّدات فيما يتّصل بدينهم ومبادئهم وأصالتهم. ثمّ نعرض واقعنا على هذه المسيرات، خاصّة سيرة النّبي صلّى الله عليه وسلّم وصحابته الذين عاشوا تلك الظّروف القاسية والأجواء المكفهرّة، فتدافعوا للهجرة؛ حفاظا على دينهم، وسلامة عقيدتهم.
نحن اليوم نعيش متغيّرات كثيرة، معاكسة للدّين، بل مضايقة له وضاغطة لتحويل المسلمين عن قبلتهم ووجهتهم وصراطهم بالقوّة والإغراء والإغواء والتّغرير.. وبكلّ الوسائل الممكنة. يحاول الغرب ومن يسير في ركابهم إخراج المسلمين من دينهم بمنظومات كثيرة، وقوانين عديدة، وبحروب مختلفة، ومشروعات متعدّدة.. في مختلف العهود والمراحل، آخرها الحرب المدمّرة للقيم والهادمة للمقوّمات، والصّادمة للمبادئ، والمهلكة للأصول.. هي “حرب المثليّة”، التي جنّدوا لهل كلّ الوسائل، وحشدوا لها الجهود، وأحاطوها بسلسلة من القوانين والتّشريعات والنّظم، التي تسمح لهم فرضها على العالم كلّه، بل سنّ هؤلاء الاعداء عقوبات شديدة لكلّ من لا يمتثل لهذه التّعليمات والإملاءات والتّنظيمات، على مستوى الأفراد والجماعات والمؤسّسات والدّولوالكيانات..وحشروا وحشدوا هذه الأوامر والنّظم في كلّ الميادين والمجالات والفضاءات. في المدارس والجامعات، في المنازل والمنتديات، في الرّياضة والسّياسة والتّربية والحياة الاجتماعيّة، هي – حقًّا – حرب شاملة عارمة.
بل إنّ أصحاب هذا المشروع وقائدِي هذه الحرب أصبحوا يتدخّلون حتّى في توظيف العمّال في الشّركات داخل العالم العربي والإسلامي.. بعضهم يشترط -كي تستثمر شركة أجنبيّة في أرض العرب والمسلمين – أن يكون عدد المثليّين موجودين ضمن عمّالها بنسبة معيّنة.
ذكر أحد الإخوة من دولة عربيّة أنّ شركة اقتصاديّة في هذه الدّولة نشرت إعلانا لإبرام عقد تعاون وشراكة مع إحدى الشّركات الأوروبيّة الكبرى للعمل المشترك، فكان من ببن الإجراءات التي قامت بها الشّركة الأجنبيّة أنّها أرسلت استبانا، طلبت فيه استيضاحات، تضمّن أسئلة تتعلّق بعدد المثليّين في الشّركة العربيّة في موطنها،وعددهم في الإدارات المتوسّطة والقياديّة, وتمادى مسؤولُو هذه الشّركة وتجرّؤُوا أن يسألوا عن خطّة الشّركة العربيّة في زيادة أعداد المثليّين في المستقبل.
أضاف هذا الأخ الفاضل الغيور: ” ولعلّ فرض سياسة ” المثليّة” على الدّول والشّركات الرّافضةلوجودهم باتت في حكم الواقع، فبعض الشّركات الأوروبيّة والأمريكيّة ملتزمة بدعم هذه الفئة في كلّ محفل، ومناسبة وغير مناسبة، وهي تحاول أن تمرّر سياستها بكلّ ما أوتيت من قوّة، وتمكّنهم من التّغلغل في أوصال التّجارة والاقتصاد والمال والرّياضة والثّقافة والتّعليم وكلّ شيء آخر، بل وتجاهد بذلك. ولا يخفى على الكثيرين أنّ أحد عناصر التّقويم للمنظومات الجامعيّة والتّعليميّة (العالميّة) يتعلّق بقبول الشّواذ وتمثيلهم في هذه الجامعات والمؤسّسات الأكاديميّة…والتي تفرض على الملتحقين بها أن يتقبّلوا هؤلاء الشّواذ في حرم الجامعات، وأن يتعاملوا مع الأمر بروح التّسامح والحريّة” .
سرد الأخ الفاضل كثيرا من الحقائق عن هذه الانحرافات الأخلاقيّة، وهذه الضّغوط التي تهدّد القيم والأخلاق والتّماسك الاجتماعي.. الخطر الكبير أنّ هؤلاء المثليّين بدؤوا يظهرون في بعض الدّول العربيّة من أبنائها.
نحن مع مناسبة ذكرى الهجرة النّبويّة الشّريفة المهمّة في حياة المسلمين، التي كانت هجرة بالدّين إلى المكان الآمن لعبادة ربّ العالمين. نسأل أنفسنا: كيف تكون الهجرة في هذا الزّمان الذي كثر فيه العهر والفساد الخلقي، الذي يفرض على النّاس بقوّة القانون الجائر؟ ألا تكون هذه الهجرة، بل العودة إلى الأوطان الأصليّة ضرورة حياة، بالنّسبة للمغتربين المقيمين في هذه البلدان التي تقوم بهذه الأعمال الشّنيعة، المخالفة للدّين والفطرة الإنسانيّة؛ حفاظا على الدّين، وفرارا من الضّغوط للتّخلّي عنه، والتّحلّي بروح الانحلال الخلقي والفساد الدّيني؟ ماذا يكون الجواب يوم الحساب، حين يكون إلى الله المآب، إذا لم يتمكّن الفرد المسلم من التّمسّك بدينه، وحماية نسله وأهله من الميوعة والخلاعة والتّأثير الأخلاقي السّلبي عليهم؟ حين لا يفكّر في الوسيلة التي تنقذه من هذه الهوّة والورطة، ويخرج من البلد أو الموطن الذي فرض عليه مذهبه الدّنيء الخبيث الحالق للدّين، والمؤدّي إلى غضب ربّ العالمين – لا قدّر الله – وفي الأرض متّسع لعبادته بكلّ راحة واطمئنان .
قال تعالى محذّرا ومنبّها:(إِنَّ الذينَ تَوفَّاهُمُ الـملائِكَةُ ظَالِـمي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِيَن في الاَرْضِ قَالُوا أَلَـمْ تَكُنْ أرْضُ اللهِ واسعَةً فَتُهَاجِرُوا فيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الـمُسْتَضْعَفينَ مِنَ الرِّجَالِ والنَّسَاءِ والوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ولَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا َفَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أن ْيَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا )( النّساء/77 – 99).
إذا كانت الآيات بيّنت أنّ من ضُويِقَ في أرضه، ولم يجد كيف يعبد الله حقّ العبادة، ووجد وسيلة للهجرة عنها، ولم يفعل فهو هالك، فكيف بمن يعيش خارج أرضه، ووجد البيئة غير صالحة للعبادة والحماية من الانزلاقات والانحرافات، ولم يتمكّن من تربية أولاده وأسرته وتنشئتهم على الصّراط المستقيم، ولم يترك الموطن ويرجع إلى وطنه..،كيف يكون موقفه يوم القيام؟ وبماذا يحيب ربّه حين السّؤال..؟الجواب الصّريح الواضح عند كلّ واحد منّا، ولو أفتانا النّاس وأفتونا، وبرّروا مواقفنا وعلّلوا وتفلسفوا في الجواب وتفنّنوا..فقد قال الله عزّ وجلّ أيضا: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) (العنكبوت/ 56). فانظر أيّها المسلم واختر لنفسك ما تنجو به يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.