د. تامر عزت | القاهرة
“ونحن أطفال كنا نتمنى أن نكبر ؛ لنكتشف الحياة، وعندما كبرنا..تمنينا الهرب مما اكتشفناه”
—–
الرياض-1987
رجل أسمر اللون ، طويل القامة، ذو ملامح مصرية كثيف الشعر والشارب ، حليق اللحية ، في الأربعين من العمر ، جالس خلف مِقوَد سيارته ، ينتظر إشارة المرور الخضراء لينطلق إلى وجهته ، عيناه لمعت بشكل غريب وكأنه لمح شيء ما من بعيد ، ألقى ما تبقى من لفافة التبغ في الشارع بجوار سيارته على غير العادة ، فجأة ..شعر بتعب و إرهاق على غير المعتاد ، منذ وقت ليس ببعيد كان يعاني من ألم في البطن وشعور بالغثيان لكن أقنع نفسه بأنه “دور برد ” وسيمر بسلام ، لكن في هذه المرة ،الأعراض تتطور وتزداد تعقيدًا، حاول الإمساك بمقود السيارة ولكنه فشل ، الارتخاء يسري في عظامه وكأن شبحًا خفيًا يتحكم فيه ، أشعره بالضعف والوهن ، انكماش سريع في رئتيه سبب له شعور بالاختناق نتيجة لضيق التنفس ، كفه الأيمن أمسك فؤاده بشكل لا إرادي ، صعوبة متكررة في التنفس الطبيعي ، جبهته صارت تصب عرق بارد غزير رغم وجود مكيف السيارة ، دوار مفاجئ يصيب دماغه ، حاول الخروج من شرنقته ولكنه قد فات الأوان ثم انتهى كل شيء.
الرياض – 2017
لحظات ويُتم الأربعين ، إنه الموعد المحدد لوفاته ، وفي المكان الذي اختاره بنفسه ، في الميدان، جالس خلف مقود سيارته يتذكر خاله الذي توفي في نفس اليوم منذ ثلاثين عاما في نفس المدينة ، كيف ساقه القدر إلى هذا المكان ؟ لا يدري ..ولكنه يعلم تلك الأقوال قيلت له طوال حياته
والتي شكلت وجدانه وعقله الباطن.
( أنت تشبه خالك كثيرًا)
قالها له ابن خاله في لحظة غريبة عندما كانا يجلسان سويا في شرفة منزل خاله ، فقد كان قد أتم العاشرة من العمر حينما سمع بوفاة خاله إثر أزمة قلبية حادة أودت بحياته في لحظتها ، وقيل أيضا أن وفاته إثر حادثًا أثناء ركوبه السيارة ، و هنا وقع في قلبه واستقر في أعماقه وترسب داخل كينونته أنه هو الآخر سيلقى حتفه عندما يتعلم قيادة السيارات ، لذلك خشي كثيرًا خوض تلك التجربة المميتة ، ولكن عمله كمندوب للمبيعات فيما بعد لزم عليه تعلم قيادة السيارات والحصول على رخصة قيادة ، في بداية الأمر أوهم نفسه بأنه سيموت لا محالة ، كانت طريقته غريبة أثناء قيادته للسيارة ، يسير ببطء ، ويلتفت يمينا ويسارا بشكل عصبي ، وإذا رأى سيارة مُسرعة تجنب السير في الطريق ، ولكن مع الوقت تلاشى هذا الوهم وتبخر مثل تبخر الندى عند بزوغ أشعة الشمس .
( كان عصبيا)
لم ينس والدته التي أبلغته أن خاله كان كثير القلق، متعكر المزاج ، عصبي في كثير من الأحيان ، وعندما انتبه لنفسه وجد هو أيضا مثله، كثير القلق ، وعصبي بالإضافة إلى أنه متقلب المزاج ، إذن لماذا لا يكون موعد وفاته في مثل عمره !
( كان مثلك ، يحب الرئيس الراحل السادات )
تذكر صورة صغيرة الحجم، غير ملونة، أبيض وأسود ، كانت للسادات وهو ببدلته العسكرية كانت مُعلقة على الحائط داخل منزل خاله .
بعد أحداث 25 يناير، قرأ كثيرًا واطلع أكثر على الكتب السياسية والتاريخية ، ومال قلبه واتجهت مشاعره إلى محبة السادات ، فهو يظن أنه رجل فقيه في السياسة ويعلم سيكولوجية الشعب المصري جيدا ، وكان من الممكن أن يستمر في الحكم ويُغير خريطة مصر ويكتب عهدًا جديدًا لها لولا الإرهاب الأسود الذي طاله من قلب بيته ، فإن الخيانة والإنقلاب على الُحكم دائما وابدا من الداخل نتيجة لمعرفة الأسرار التي لا يعرفها من يسكن بالخارج ،”نظرية المؤامرة ” ، كم مرة كشف مثل هذه النظرية داخل الشركات التي أطاحت بالشرفاء واستبدلت بالمنافقين . إنه مثل خاله تماما في الإيمان بهذا الحدث الخفي وهو “نظرية المؤامرة “
أليست هذه علامة أخرى على أنه “الشبيه ” وأن موعد وفاته قد حُددت في وقت معلوم ؟وهو بالفعل تنبأ بها!.
( تزوج وأنجب طفلين وسافر إلى السعودية)
مثل خاله أيضا ، فقد تخرج من كلية التجارة ، توظف في شركة مصرية منذ التخرج ، ومثل الآلاف من المصريين في حقبة الثمانينيات الذين سافروا إلى العراق والسعودية والكويت وقطر والإمارات ، خاله اختار السعودية ؛ كي يحجج والدته ، ومثل أي مصري كان كل عام يعود بالتكنولوجيا الجديدة التي غزت البيوت المصرية ، كان أول مرة في حياته يرى التلفاز وله جهاز تحكم ليتحكم فيه عن بُعد ، بسبب مثل هذه الأشياء التي تُبهر العين والقلب وتجعل منه في مرتبة أعلى من غيره ؛ هذا الجيل الصغير حلم بالسفر إلى الخليج منذ صغره ، ونشأ على الأنانية وحب الذات وليس على حب وطنه والعمل بها ، جيل بأكمله حدث بداخله فجوة زمنية بسبب غياب الأب عن الأسرة ، ولكنه وفاة خاله كانت البذرة التي نشأت في أعماقه وترعرعت في أن وفاته ستكون في الغربة مثل خاله وأن القدر اختار له مدينة الرياض أيضا مثله.. أليست تلك علامة فارقة ؟
كان قلبه يعتصر ألما عندما تذكر طفليه الجميلين ، كيف ستسير حياتها من بعده وخاصة بعد ما رأى اليُتم في عيون أولاد خاله والانكسار في مشاعرهم خلال حياتهما !
( خالك مثلك.. كان شهمًا)
ذات يوم من الأيام ، قام أحد الجماعات بخطف رجل أشبه بالدراويش كان يقطن في الشارع ، خاله كان يحبه كثيرًا ويتفائل بوجوده دائما ، قلق عندما لم يجده في مكانه المعتاد وسأل عليه الجيران وأصحاب المحلات ولم يجد الاجابة عندهم ، كان مشغول البال بهذا الدرويش الطيب حتى زاره في المنام فأخبره بمكانه ، استيقظ سريعا وهرع إلى بعض أصدقائه وذهبوا إلى المكان الذي وصفه له في المنام.. وانقذه ، وعندما رأى هذا الدرويش خاله.. بكى من فرحته وقال له ( كنت أعلم إنك قادم لإنقاذي.. كنت أعلم )، كانت حكاية غريبة نقلتها الألسنة لسنوات طويلة ، تذكر بطلنا كل ذلك وهو متقوقع داخل سيارته ، ينتظر نهايته فهو أيضا لديه تلك الشفافية في الرؤى والأحلام وكثيرا ما تحقق ما رآه ، تذكر عندما سمع صوت خفي يخبره بأن زوجته حامل أثناء دخوله المسجد لصلاة العصر ، وعندما سمع نفس الصوت أثناء سجوده يخبره بأن يترك عمله ويسافر للخارج ،
أليست كل هذه إشارات لمعنى خفي واحد أنه “الشبيه ” لخاله ؟
مرت ساعتين وهو كما هو لم يحدث أي تغيير ، اندهش من الساعة تخطت الثانية عشر بعد منتصف الليل ومازال على قيد الحياة! كيف ؟ فهذا هو نفس التاريخ الذي توفى فيه خاله منذ ثلاثين عاما ، تساءلت نفسه التواقة لمعرفة الغيب ما معنى هذا ؟ هل هناك حقا أمل في الحياة ؟ هل هذا ميلاد جديد ؟ غير معقول!
هل حياتنا من صنع أفكارنا ؟ هل أضعت كل هذه السنوات في وهم كبير وصنعته بنفسي ؟
خرج من سيارته وهو في قمة سعادته ، كاد أن يخرق الأرض و يبلغ الجبال طولا ، هرولت قدماه في الشارع ذهابًا وإيابًا من فرط الفرح ، غير مصدقا أنه مازال حي يرزق ، وفي لحظة فارقة ، فكر في حجز تذكرة سفر والعودة إلى مصر ، فتش جيوبه جيدا فلم يجد جواله ، من شدة سعادته نسي الجوال في السيارة ، همّ بالعودة إلى سيارته ، تثاقلت قدماه عندما أقترب منها ثم تسمر في مكانه ، في نفس اللحظة أتت سيارة مسرعة بسرعة البرق في اتجاهه ، صرخ صرخة مدوية أحدثت صدى داخل نفسه وهو يقول :مستحيييييل .
تجمع الناس حول سيارته ما بين مستنكر ومتعجب ، يحاول معرفة هوية مَنْ هذا النائم في السيارة ، وهل هو نائم أم فاقدا للوعي ؟ ولماذا دموعه مازالت تنحدر بانسيابية من عينيه المغلقتين على وجنتيه ؟ ولماذا هو غزير العرق ؟ هل هي غيبوبة سكر ؟ التساؤلات والفتاوى كثيرة ،
قام أحدهم بالإتصال الشرطة والآخر هاتف الإسعاف، بينما بطلنا قد وقف يشاهد ما يحدث حول سيارته متعجبا من تجمهر الناس وهو ثابتا في منتصف الطريق ، ازداد تعجب ودهشة عندما مرت السيارة مسرعة من خلاله..كان طيفا بلا جسد.