تلميذ الحياة
أ.د. محمد سعيد حسب النبي| اكاديمي مصري
جاء في كتاب الخيميائي للكاتب باولو كويلو قصة تستحق التوقف طويلاً؛ وفيها أن تلميذاً سأل شيخه وهو يحتضر عن أفضل معلم له، فقال الشيخ إنهم مئات المعلمين، وذكري لهم سيستغرق شهوراً طويلة، فسأله التلميذ عمن ترك فيه أثراً باقياً. فكّر الشيخ طويلاً ثم قال: كان من هؤلاء ثلاثة، تعلمت منهم كثيراً؛ أولهم كان لصاً! ففي يوم من الأيام كنت على سفر، وتهت في الصحراء، ووصلت بيتي في ساعة متأخرة من الليل، وإذا بي وقد فقدت مفتاح الباب، فصادفت رجلاً طلبت منه المساعدة، ففتح لي الباب في لمح البصر، فأثار الرجل إعجابي وطلبت إليه أن يخبرني بما فعله، وفاجأني أنه لص يعتاش من سرقة الناس، فدعوت الرجل لبيتي ليكون ضيفي لأيام، وكان الرجل يخرج كل ليلة يسعى لرزقه، وأنا أمكث الليل أمارس تأملي المعتاد، وكلما عاد الرجل سألته عما اغتنمه في ليلته، وفي كل ليلة يقول الرجل الجملة نفسها: “لم أوفق في اغتنامشيء هذا المساء، ولكنني إذا شاء الله سأعاود المحاولة غداً”.
أما المعلم الثاني فقد كان كلباً! ففي يوم من الأيام كنت أشرب من أحد الأنهار، ووجدت كلباً أجهده العطش، وعندما اقترب من النهر شاهدفيه كلباً، وهو لا يدري أنه انعكاس لصورته في الماء، فدب فيه الفزع، وتراجع للوراء وهو ينبح، وكلما اقترب ورأى الكلب عاود الفرار والنباح، وفي النهاية جمع الكلب شجاعته وقفز في النهر ، وإذا بصورة الكلب وقد اختفت.
أما المعلم الثالث فقد كان طفلاً يحمل شمعة بيده، وقد رأيته يوماً في إحدى جولاتي، فبادرته سائلاً: هل أضأت هذه الشمعة بنفسك؟ فرد الصبي بالإيجاب. فتابعته بإلحاح، وقلت له: إني أرى الشمعة وقد انطفأت ثم اشتعلت مرة أخرى، فمن أين أتيت بالنار التي تشعلها، فضحك الصبي وأطفأ الشمعة ثم بادرني سائلاً:يا سيدي، أتستطيع الآن أن تخبرني إلى أين ذهبت النار التي كانت مشتعلة هنا؟
ثلاثة معلمين تركوا أثراً في الشيخ المعلم؛ ولم يجد المعلم في نفسه حرجاً أن يتعلم من لص، وقد اكتسب منه القوة على المتابعة وعدم اليأس، ولم يستح أن يأخذ درساً من كلب؛ وقد تعلم منه مواجهة مخاوفه، والتي قد لا يكون لها وجود إلا في مُخيّلته، ولم يكابر في أن يتعلم من طفل، وقد أدرك أن الإنسان يحمل في قلبه شمعة الحكمة التي لا يعرف متى تشتعل. لقد كان الشيخ المعلم تلميذ الحياة، وقد استقى منها المعرفة والحكمة وتعلم من أكثر الأشياء بساطة وأبعدها توقعاً.