طفولة بلا مطر بين المتخيل والبعد الدرامي
د. الغزيوي أبو علي – د. بن المداني ليلة
يتميز المؤلف بتعدد منابعه الشكلية والمضمونية، حيث يطرح نفسه كجنس أدبي على وجه الخصوص،ولكن تناوله يختلف حسب اختلاف التوظيف والممارسة فهناك من يتناوله من بعد نفسي، أوسميائي أو بنيوي أو سوسيولوجي نصي (سوسيونصي)، وهذا الأخير هو الأقرب إلى فهم مغالقه ومفاتحه، لأن النص يتفاعل مع المحيط الاجتماعي والإنساني، وخاصة في تناوله للأبعاد الدلالية والطقوسية، ويعتبر كولدمان من بين النقاد الذين سايروا الواقع بما فيه من تحولات وتغيرات كما قال في كتابه الإله المختفي، لأن الكاتب ادريس الكريني يقربنا إلى الحياة الاجتماعية والتاريخية، ويدفعنا إلى التفكير في ذواتنا دون الانغلاق، فيختفي التقليد ليولد الإبداع وإنتاج المختلف، لكي تصير الذات لغة وتعبيرا وفكرا متحررا لفهم الوجود من جهة، ومعرفة من نحن إزاء الآخر من جهة أخرى ،لأنه المؤلف يعلمنا تقترب من المضمون والمنسي ،لكي يمنحنا شرعية الانتماء الى الوجود،والحق في الحياة ،معلنا الكتابة لا تتفوض بتاتا بل تمنحنا فرصة أخرى لتأسيس لهذا العالم منطقة الخاص به ،هكذا عمل ادريس الكريني بإنتاج الخطاب للذاكرة ليكونه وجوده وجودا مضادا لذاته ككينونة مغايرة للذات المبدعة ، لأنه المعيار المقدم في هذا المؤلف هو “الهوية لرسم معالم الذات ادريس العريني في مجال التذكر والاسترجاع فتح الباب أمام إعادة قراءة الذاكرة كوجود فرداني الذي يؤسسه لنفسه التفكير المضاد والمخالف، لا كمفهوم مجرد ومألوف، فالتنوع إذن هو خطاب مؤشر على صيرورة جديدة للذاكرة.
فاللامفكر فيه هو التثوير لبنائه الإشكالي، جاعلا من الذات جسرا للعبور نحو قضايا إنسانية مختلفة من قبيل التساؤل عن وجوده في الزمكان وعن إمكانية استحالة معرفته، فوجود الأنا المضاد يتربع البعد الجسدي الذي يرتبط بالأسرة وبالواقع وبالحياة والوجود، حيث يؤسس لمجال طرح أسئلة حول الخيط الناظم للقضايا الإنسانية التي يثيرها المؤلف (الهامش / المركز – المدينة / القرية) فوجود الهامش هو وجود مرتبط بالمركز لأنه هو الذي مدنه وأخرجه من مرحلة الكمون إلى مرحلة الوجود دون إحساس بالغثيان كما يرى سارتر، فالمؤلف قدم لنا رؤية لتشييد مقاومة ضد الفناء وضد الانغلاق الوجودي من أجل بناء خطاب حداثي محدد حول الذات لأن المفاهيم الموظفة سواء الفنية أو الجمالية أو المكانية أو العرضية والموضوعية والمطلقة والنسبية، كلها بناءات تجسد لنا عناوين انتربولوجية التي تنقلنا من كونها ألفاظ وغير إلى مستوى أطر تصير الذات تفكيرا وطريقا إلى مقاومة المنسي، لأن الاحتكام إلى المستقبل المدني هو الذي يخفي كل تقليد يقودنا إلى إبداع جهل أو محاسبة للذاكرة، لذا يصير التفكير عنده عبارة عن محاورة سقراطية تحصل الذات على جذريتها ولا فضيلتها، فالقيمة المشيدة للذات هي انسلاخ عن الماضي لكونه يعترف بالتعارض وبالمنطق المخالف فعليا ودائما، وإذا عدنا مرة أخرى إلى المؤلف الذي هو موضوع للتفكير، لأنه يهدف إلى تأسيس رؤية حداثية لتكون طهارة للذات، فادريسالكريني يقربنا إلى بوذا وزارديشت لأنه يقربنا من تصور فيلسوف صوفي وحداثييعيش في أفق الحداثة المهيمنة، فالفيلسوف يفكر داخل الهامش لكي يقترب من الحقيقة، إذن يطرح السؤال من هو؟ منطوق به صراحة في مستهل المؤلف، فالمؤلف يطرح التصورات حول الجوانب الطقوسية والاجتماعية والمدنية بالطبع، ومن ثم يتقوى هذا المفهوم المرتبط بالوازع الاجتماعي في إبعاد العدوان عن القرية، وتحقيق التجمع المدني، وقد أثبت ذلك في المؤلف لتحقيق الهداية في نفسه، إلا أن هذا التحقق الفعلي لا يدرك بالاستدلال العاطفي (الأم – العم – الخالة…)، بل بالبرهان المنطقي (الجد – الأب)، كما يقول المناطقة، فالمؤلف إذن يقربنا إلى المرحلة اللاهوتية حيث يفكر بطريقة خيالية وإحيائية كما يرى أغست كانط وأسطورية ودينية، وكان يفسر لنا ظواهر القرية وفق رؤية خفية مصدرها الذات الطفولية، ولم يكن هناك أدنى اعتراف عقلاني،أما التصور الآخر وخاصة بالانتقال من الابتدائي إلى الثانوي حاول ادريس الكريني تجاوز هذه المرحلة بالعقل وبالوعي والنضج المركب،إذ أصبح الارتكاز على الوصف الدقيق وتكرار العبارات الحواسية والمتغيرات الناضجة، جعلته يوافق بين الطفولة والرجولة والاكتمال الفكري والمعرفي، وتبقى هذه الضرورة التاريخية الطفولية صيرورة نسبية ساهمت في تصوير الفكر الاجتماعي كانعكاس لهذا النظام الذاتي، ولم يعد يعترف بوجود الهامش إلا كاضطراب سلوكي للذات العالمة، بل أسس لنفسه عقلا نقديا لمواجهة الأخلاق، والتربية والدين، وهو يزعم أنه لا يخضع إلا لمؤسسة التربية، هكذا حاول أن يحول الفطري والمكتسب إلى الثقافي لكي يتوحد مع العقل المركب، فالقرية جسدت قيمة رمزية للذات الفردانية والجماعية وقيمة احترامية كمنظومة من الأنشطة الطقوسية المتنوعة، كلها تمثل رمز الكينونة الجماعية والمحورية في حياته، لذا يبقى هذا المؤلف نسق موحد بين التماثل والممارسات ذات الصلة بالأشياء المادية، بمعنى أنها أشياء ذات حرمة (البيت – المسجد – المدرسة)، تتوحد في مجتمع واحد يسمى بني عمار، وعليه فقد توصل ادريس الكريني إلى أن المكان ظاهرة جماعية، وسلطة قبلية تبحث في المشاكل وفي الرغبات الشخصية، لأن المتعالي يتحكمه العقل المرتبط بالرمزي وبالأخلاقي، فهي أصدق آلية يستدعيها لإنجازه هذه الرؤية الإبداعية إذن تستوجب مقاربة هذا الوجود بما وجود خاص وأصيل أو بما هو وجود عام، فالمؤلف يكشف لنا التفكير الذي يؤثر على وجود الأنا كالديناميت كما يقول نيتشه، إننا مع الكريني مدعوون أكثر فأكثر إلى التحلي باليقظة لقراءة هذا المؤلف لجعل المعطى اللغوي هو التركيبة الجديدة للواقع، شكل المتخيل لدى ادريس قاعدة ثورية، واستعارية رمزية وتخيلية، حيث ضمت بين صفوفها معان عدة تؤمن بالتأويل، والتحويل، منحت للمتخيل تماسكه الداخلي الذي أهله للسيطرة والتوظيف والتوليد، حيث يقدم حلا لكل مستويات التناقض في المجتمعات والذوات ولا يرتبط واحدة تتجلى في الاختيارات السياسية والثقافية، بل يوصلنا إلى كشف النواقض والمحددات التي تثقل كاهل الذات الفردانية والجماعية داخل التنظيمات الاجتماعية والسياسية، حيث يشير بكل قوة إلى هذه الوضعية العربية في شكل سؤال يبرز “كيف يمكن أن يتصرف كل واحد من العاملين، أو كيف يتصرف فعلا كي يواجه وضعيته وضغوطاته؟ أية أهداف يلاحق؟ وأي إدراك أو توقع له إمكانية بلوغ هذه الأهداف ضمن البيئة التي يعرف، أي ما هي الوسائل التي يملك، وما هو هامش الحرية التي يتمتع به؟ وبأية طريقة؟ وفي أية شروط وضمن أية حدود يمكن أن يستخدمها؟
إن انتشار هذا الوازع بين نصوصه، جعل المتلقي يشتغل على تفجير كل الاعتبارات التقليدية دون أن يتعامل مع المتن المدروس والمقروء على أنه صياغة جديدة، تتوالد فيها العلاقة بين الذات والموضوع والروائي والسياسي والسوسيولوجي والسيميائي، ويأخذ البعد الروائي تقاطعاته وصياغاته في شكل اختزالات قابلة للقراءة، لأن الرواية ما هي إلا إدماج للتاريخ في السياسة والسياسة في الرواية وإدراج الرواية في التاريخ، هذا الإدماج يتلاحق ببطء، ويكدس مكتسباته ويكتمل بالتدرج ليكون صادقا عند التخوم الغائبة للتاريخ الروائي، وادريس يريد أن يعيد التكوينات المنتظمة التي لا ترتسم إلا في الخطاب الروائي، مشكلة بذلك شروطها التاريخية، لأن نصوصه عبارة عن تناصات وحوارات تعيد الاستنطاق والتجلي، وكذا المسح لكن صياغة غير معقلنة التي تجعل المثقف “يحل التعارض بين اقتناعه بعقلانية وعلمانية وحداثة وإعجابه بها، وما بين العدوانية الفظة التي يمثلها الاحتلال، والتي تخضع عملية التقدم في الوطن وتفسرها في اتجاهات أخرى لتحقق لها أكبر فائض للنهب والاستغلال”، فسلطة المثقف والنص قد أفرزتا بالضرورة سلطة ثالثة تمثلت في السعي إلى المتخيل، لأن ذلك لا يعني قطعا أن سلطة المتخيل والعلاقة بين القارئ والنص، قد ظلت مغيبة، بل أمست العلاقة حوارية مبنية على أسس تنظيرية تخترق الأسئلة سمكها للوصول إلى ما هو قابع في صمت وراءها للحفاظ على صلابتها، وجعلها تنحبس في تعقيدها الخاص بها، يقول جان بول سارتر في هذا الشأن: “وما دامت حرية المؤلف، وحرية القارئ تبعت كل منهما عن الأخرى، ويتبادلان التأثير فيما بينهما من ثنايا عالم واحد فمن الممكن أن يقال: إن ما يقوم به المؤلف من اختيار لبعض مظاهر العالم هو الذي يحدد القارئ”، فتحديد هوية القارئ هو تحديد للمستوى التخيلي المتميز بين جمهور القراء المتعاقبين وبين التلقيات التي تمنح للقارئ صفة الخصوبة، وتضفي عليه صفة الأنوثة بقوله: “وهكذا يكون الجمهور الخاص بمثابة استفهام أنثوي فسيح، إذ هو انتظار مجتمع بأكمله على الكاتب أن يجذبه إليه مستجيبا إلى جميع رغباته،ولكن في سبيل ذلك يجب أن يكون هذا الجمهور حرا فيما يطلب، وأن يكون الكاتب حرا في إجابته”، فعرض المعنى هذا يفسح المجال أمامه للتمييز بشكل راديكالي بين تأويل المعنى ونقد الدلالة، عندما يؤول يشتبك في مناط يتحكم فيه الاحتمال وليس اليقين ولكي يحدد أي عدد من التأويلات الملائمة يطبق ادريس قوانين الاحتمال على التأويلات الأدبية والدرامية، حيث يقدم عرضا لتوقع المعنى شبيه بالمعرفة المسبقة، وللحقيقة التأويلية التي يرى بموجبها أن لا تذبذب بين المتلقي وبين المبدع.
ومن المؤكد أن هذا المتخيل بفعل إيقاعات تجريدية التي تستهدف فهم العالم والإنسان، لأن عملية انتقال من البساطة إلى التركيب لا يتم إلا بالقراءة الإنتاجية الباطنية التي تستبعد الوصف والشرح الكلاسيكي، “فالنصوص المحفوظة” في لحظة تحققها تفتح ذاتها على سلطة التمسرح والتأويل إلى درجة أن تصور نصوص روائية من وجهة نظر كلاسيكية تظل مرتبطة بسلطة التحقق الفيلولوجي، وسلطة الدليل المغلق على ذاته، الشيء الذي جعل التصور إقرائي للنصوص الكلاسيكية عقيما يتصل بوهم تحليلي بسيط لا يتجاوز حدود الموروث القديم، لكن مع التحولات الحديثة في الستينات من القرن الماضي، سيعرف الحقل الروائي تصورا مغايرا للنص وللإيديولوجية، ولم تعد القراءة ذلك الحدث البسيط الذي يمر به البصر مر الكرام، ولا هي قراءة استهلاكية، بل هي تلك العملية التي لا تنقب عن المعنى السطحي، وإنما تتسلل إلى بواطن النص، وطبقاته الرخوية لتكشف لنا عن كل الأنوية النصية والدرامية والجمالية، يقول ميشيل فوكو “لا أريد أن أقحم نفسي في هذا النظام الشائك للخطاب، لا أريد أن أرتبط بحده الفاصل ولا بحده القاطع، أريده من حولي شفافية هادئة عميقة مفتوحة بدون حدود،،من خلالها يمكن للآخرين أن يردوا على انتظاري، ومن خلالها أيضا يمكن للحقائق أن تشرق واحدة بعد أخرى”.
هكذا تبرز الإشكالات التي يطرحها النص الروائي عند ادريس بشكل صريح، يعري أمامه واقعه المزيف ليصبح فيها كذات مبدعة، يمارس فيها حضوره وتأويلاته التي يهدف من ورائها تديد الأبعاد المالية للنص وإدراك مغزاها الإيديولوجي في التاريخ العربي، يقول بريخت: “إن الفن ليس قادرا على نقل المفاهيم الفنية من المكاتب إلى آثار فنية، فمن شأن الجزمات وحدها أن تصنع على القياس رد على ذلك ذوق عدة أشخاص هم من الناحية السياسية جد مثقفين، يتغير وبالتالي يمكن إهماله”،وبريخت يسعى إلى استجلاء علامات الذوق التي تتماثل مع الواقع اليومي من أجل استنباط تركيبات جديدة لكي لا يبدو العالم واحدا ونهائيا، ذلك أن المؤول يشرع في العمل على النص فقط، وإنما هو في الحقيقة يغرق في الوحل كليا ليستنبط كنهه وجوهره، فلا غربة أن تصير قراءة في قراءة، وظيفة تمسرحية لكل ظاهرة تخييلية تعلن عن هويتها وانتمائها، وتربط مع الواقع علاقة وجود ودلالة وإيديولوجية، وفي المنظومة الروائية لا يمكن لتلك الوظيفة أن تتم إلا عن التعقلن السياسي الذي يمنح للعلاقة صورتها الخاصة يجعل منها مسكنا للإنسان حسب تعبير هيدجر، إذ هو ليس منهجا للكتابة بل هو الكتابة ذاتها، هذا التصور كما قلنا جعل من المتخيل قاعدة ذات وجهين:
1- وجه تنظيمي يرتب كل النصوص بشكل واعي باعتباره فعلا تأويليا ونقديا.
2- وجه تعقلني يمنح للذوات الفاعلة في العملية الإبداعية وجودها الإبستيمي التي تعمل على تقعيد كل إرث واقعي وعقلاني وسياسي وملحمي ودياليكتيكي، أي أن هذا الطرح التنظيمي والمتعقلن يسعى إلى الانفصال عن مشكلة المهادنة والمسالمة، لأن الحجب والتدجين التي يوظفها الخطاب الكلاسيكي والنهضوي تجعل الفهم والتأويل غير قابلين لتلقي الحقيقة الواحدة وإنما هما نمط للتأريخ الإنساني في هذا الوجود.
وعلى هذا النحو يكون الفعل الإبستيمي سابقا على الفعل التفسيري يقول جورج غادامير (Gadamer): “ليست مسألة التأويل والفهم تخص الجانب العملي وحده، إنما ترتبط ارتباطا بالتجربة الشاملة التي يعيشها كل كائن حي في هذا العالم الذي نعيش فيه”، إذن فتطور هذا الفعل الإبستيمي لن يقف عند البعد النصي الدرامي، بل يأخذ مع الكريني وقفة ضرورية وتركيبية بنيوية كمحطة وعلامة كبرى انعطف المتخيل خلالها وسيظل لأمد طويل فكرا ليس وليد نزوة أو لحظة من اللحظات، بل وليد عمر من البحث والتنقيب والمقاربة، مما جعل هذا المتخيل يتميز بثلاث مميزات.
1- حاول الإمساك بأزمة الذات وتناقضاتها وانكساراتها.
2- فهم آليات الخطاب السياسي والطبقي المهيمن.
3- أعلن التحريض على كتابة مغايرة.
هذه المكونات أعطت لنفسها حرية الاختبار لكي تقتحم مجالات اجتماعية وسياسية وتنظيرية، هذا التعدد جعل التراكم لديه محملا بعدة تساؤلات معرفية، جعلتنا ندرك أن هذه النظرية الروائية في الوطن تريد أن تقوم كبديل عن نظريته القديمة في صورتها التقليدية، وكل نظرية تنسب نفسها إلى أن تكون حلا نهائيا وحاسما لكنها تقع في الواقع في تناقض الأسس التي تنبني عليها ومع نسبية المستوى المعرفي الذي يسمح لها بطرح مسألة السياسة ضمن إشكالية معينة، حيث إن كل نظرية هي بحث في مسألة النهضة والتأسيس والتأصيل والحديثوالتعقلن…، هذا البحث يرتبط بمستوى معين من تطور المعرفة الإنسانية، وحين تحاول أية نظرية أن تتجاوز خصوصية شروطها وأن تعمم النتائج الحاصلة عن هذه الشروط بإقامة تصور عام عن المتخيل السياسي، فإنها تجد نفسها في تناقض مع تطور المعارف السابقة والمعاصرة، إن التطورات السياسية قد تؤدي إلى تفسخ موضوعي للنظريات الروائية في الواقع، كما وقع لنظرية الرواية “بوتر”، فقد أدت التطورات السياسية إلى دحض فكرة المسالمة كأداة للهيمنة بينما يأتي الفعل الإبستيمي “لكي يقدم لنا البديل عن هذا الخطاب الذي استنفذ أهدافه بخطاب يحدد لذاته مهام جديدة تتلاءم والصورة الجديدة للعلاقة بين الفلسفة والعلم”.
بحث ادريس في هذه النظريات مما جعله يدرك أنها ترتكز أساسا حول شرطين هما اللذان يوفران لكل متخيل من تلك الفنون التعبيرية والوظيفية.
وهذان الشرطان هما التحديد المنهجي لموضوع البحث من جهة، وإتباع مناهج ودرجة سيرورتها من جهة ثانية،فالإبستيمولوجي ينبغي أن يتعاون مع عالم النفس والسوسيولوجي والسياسي والمسرحي لكي يدرس تطور الذات، لأن المتخيل الروائي جزء من الدراسة من حيث هو واقع، يعمل على إبراز الذات دون أن تكون محاكاتية أو مثالية، إذ جعل المتخيل يرتكز على الموضوع المستقل دون أن نلمسه في الواقع، لأن الأمر يتعلق بصفة خاصة بإستمولوجية ترى في هذا الشأن المعرفي تركيبا مستمرا وعنفا للواقع وفي الوقت ذاته بداية تأسيس المجال الخصب للصراع والتناظر والتناقض بين مختلف التيارات الفكرية والاجتماعية وهو ما جعل تجربته في فضاء هذه المرحلة وما بعدها، ساخنة ومحملة بالأسئلة القلقة، وبالخطابات الصادقة وبالشعارات السياسية التي كانت خلفية تحرك المتخيل وتدفعه إلى تخطي الأجوبة الجاهزة واليقينات السائدة والأنماط المعلبة في الإنتاج الروائي السابق، لم يكن هذا الفعل التخيلي ممكن التحقق الفعلي في القديم نتيجة لطبيعة الإنتاج المادي السكوني في المرحلة السلفية والكلاسيكية، ونظرا لعدم توفر معطيات موضوعية ثانيا، لذلك سادت الترجمات والاقتباسات وغرق المتفرج في حمى الأساطير، والشخصيات المعبرة عن مصالح الطبقات المهيمنة، فرغم ذلك بقي المتخيل أعظم نظرية في عمقها وغناها وشموليتها، حولت الواقع إلى معطى كثيف وعقلاني يراعي شروط المجتمع وقضاياه الإنسانية.
إن البحث عن الحقيقة التي تنسجم مع ما يريد أن يعبر عنه، راحت هي التي تخدم قضية الإنسان، لأنه وجد في هذه الكتابة سبيله مجالا معنويا للتعبير عن هذه المرحلة التاريخية التي لا تعتمد على تحديد المعاني، ولا الزماني، بل اعتمد على التجريد والرمز، وأمسى الشخص المتلفظ هو موضوعا للملفوظ، لأنه يتحدث عن نفسه ولم يعد هو نفسه بمفهوم فليب لوجون (Philippe le jeune)، ويكون السارد في هذه المرحلة مستعصيا على التحديد والتسمية وحتى وإن أعطيناه اسما، ففي هذه الحالة لا يدل على شيء يذكر، مما ينتج عنه تعاقد غير صريح بين المبدع والمتلقي أساسه التواصل، وبذلك تتقلص المسافة الجمالية بين النص ومتلقيه الذي سيقرأ هذا النص وفق معاييره، لأن المتخيل يتستر بستار كثيف ليتخذ قيمة مهيمنة تقوم على السببية أو الوظائف بمفهوم رولان بارت، وعلى القرائن المفتوحة غير الهيكلية.
إن رؤية طفولة بلا مطر تفرض طريقتها وبالتالي حوارها الذي يكشف عن طاقات معرفية جديدة دون أن تكون الغاية إبراز الذات، بحكم أن الاستراتيجية التي توجه العمل جعلت ادريس الكريني نفسه ينتبه إلى ذلك في مراحل نصوصه الأخرى عندما قرر أن يجري حوارات باللغة الواقعية في رحلة “طفولة بلا مطر”، ففي هذه الرواية يدعونا إلى الكشف والإظهار عن سبب استغلال السلطة والإجهاز على ما تبقى من مكتسبات الجماهير، لأن قراءة الواقع بهدف بلورة القواسم المشتركة يفتح عالم الديمقراطية الذي يوحد الإيمان الإنساني في مواجهة الغير القادرين على الفعل والتفاعل اليومي، وتندرج كما قلت في تعرية كل من يقف وراء القبلي الذي لا يتغير في حقيقته، والمدخل الرئيسي لأي تغيير سياسي لا يتم إلا بالقطيعة مع الماضي، لأن هذا التوجه كما تتبناه الرواية هو بناء جهاز مفاهيمي يستند إلى حقائق الواقع الموضوعي بمختلف طبقاته، وألوانه المعرفية، بحيث أنه ينطلق من التجربة الملموسة لصعود الحركات الثورية وأزماتها وأسئلتها ليتواصل مع نقد التجارب الماضوية التي تعتبر نفسها امتدادا للواقع الجديد وهذا ما نستخلصه من رواية “أولاد حارتنا” إذ تقرب لنا الحاكم وبعض الوصوليين الذين يبررون الأزمة، والإصلاح بعدم المشاركة في اتخاذ القرارات من طرف القاعدة، وادريس الكريني في هذا الجنس الروائي في تنظيماته البنائية والتخييلية، جعلنا ندرك أن البعد السياسي قد حدد تصوره انطلاقا من الأهداف التي يريد أن يصل إليها، لأن نوع هذه الأهداف هي التي تملي على الكتابة نوع الممارسة غير الفاعلة، والتي تحول الأفكار إلى مصلحة شخصية يلعب فيها الحاكم دور الوسيط بين أصحاب الامتيازات، والجماهير الميؤوسة أي بين ما هو “إطاري” وما هو “جماهيري” بمفهوم موريس دوفيرجيMaurice Duverger، لأن تحديد معنى المتخيل من الناحية الوظيفية فهناك جملة من المواصفات المرتبطة بمفهوم “النص” والذي يمثل أداة أساسية لترجمة معنى الإقصاء والاستغلال، فالكتابة تبرز لنا فضاء فارغا تتخلله طاولة في الوسط وفوقها زجاجة وكوب فارغ وفنجان قهوة، وكرسي يناجي أيامه، ورجل غريب الأطوار والملامح يشبه الكرة، يثرثر وحده، خالقا عالمه الجنوني، متوهما أنه وسط عائلة أو مجتمع، فهو يتكلم ولا يدري ماذا يريد، مجنونا يحلم باليوم الوعيد والسعيد، تبدو عليه الفخامة والحلاوة وبجانبه طاولات مبعثرة رسمت بريشة خشنة.