أدب

قراءة في ديوان: سلوان الرّوح

بقلم: محمد موسى العويسات

الدّيوان للشّاعرة المقدسيّة إنعام صيام، من بلدة سلوان، التي هي حيّ من أحياء مدينة القدس، يقع الدّيوان في ثلاث وستين ومائة صفحة، وهو من الشّعر العموديّ، ضمّ ما يقارب ثمانين عنوانا تتراوح حجما بين القصيدة قد تصل إلى عشرين بيتا أو يزيد، وبين مقطوعات تتراوح ما بين البيتين و السّبعة أبيات، قدّم للديوان الشّاعر السّوري محمد سامي العرّ، والدّيوان من منشورات دار ابن رشيق الأردنيّة لعام 2022. ورغم أنّه الدّيوان الأول للشّاعرة إلا أنّه يكشف بجلاء عن موهبة شعريّة أصيلة لا تَكلُّفَ فيها، فتراها تمتلك نواصي القوافي في غير عنت، وتمتلك لغة شعريّة تنبضط في رقّتها وجزالتها بالسّياق أي بالغرض الشّعريّ الذي تقول فيه، ولا تكاد تجد فيه كلمة غريبة أو مستغلقة، وتراها في التّراكيب اللغويّة فصيحة لا التواء فيها، فتقدّم وتؤخّر، وتشترط، وتنادي، وتسأل، وتتعجّب، وغير ذلك، بمهارة من اطّلع على النّصوص القديمة واستقى من معينها. ولولا بعض المقطوعات التي تتراوح بين البيتين والسّبعة، وأيضا لولا بعض الأغراض الشّعريّة كالغزل والعتاب والشّكوى لقلنا أنّ الدّيوان ليس أول شعرها، ففي رأيي أنّ هذين الأمرين هما أوليّة الشّعر لدى الشّعراء. ويكشف الدّيوان ملامح شخصيّتها بكلّ جلاء، فترى فيها امرأة تعشق وتهوى وتفيض رقّة في قصائدها الغزليّة، وترى فيها امرأة تتألّم من الهجر والفراق وخيبات الحبّ والوداد، وتراها تمتلك جرأة لافتة في التّعبير عن نفسها ومشاعرها، وتراها معتدّة بنفسها ونسبها وانتمائها وعفّتها إذا ما فاخرت وافتخرت، وتراها حادّة موجعة إذا ما هجت، وتراها تنثر الحكم في أشعارها، بل لها قصائد تظهر فيها الحكمة والنّصح والأمر والنّهي، وتتجلّى شخصيّتها في انتمائها للقدس وفخرها بهذا الانتماء، وإصرارها على الرّباط والمرابطة في الأقصى، ويتجلّى وعيها في إدراكها للمخاطر التي تتعرّض لها القدس ومسجدها من خذلان ومؤامرة وتهويد وغيرها. حتى إنّك بعد استكمال الدّيوان ترى أنّها اختارت العنوان بفطنة وذكاء ومعرفة بفنون التّورية، فلفظة سلوان تحتمل معنيين، سلوان البلدة التي تكتنف الأقصى والتي هي جزء من القدس تلتصق بسورها. وسلوان بمعنى الصّبر والسّلو، فهي مصدر سَلَوَ: يسلو سلوًا وسلوانًا، والألف والنون مبالغة في المصدر، ككلمة تُكلان، ورضوان، وغيرهما. فالشّاعرة وكما أهل بيت المقدس في رباط وصبر ومصابرة وسلو على المصيبة التي تعمّ أهل فلسطين عامّة. وبالعودة إلى أغراض الدّيوان الشّعريّة، نرى الشّاعرة قد طرقت معظم أغراض الشّعر العربيّ الأصيل، اللهمّ إلا الرّثاء، وأعظم الأغراض حجما الغزل وما تبعه من شكوى وشوق ومعاناة البعد والهجر والحنين.
و تفتتح الشّاعرة الديوان بقصيدة عنونتها بـ ( تتوق نفسي) من عشرين بيتا، هي في العتاب، وزجر من أراد ودّها كذبا وخداعا، تقول:
ما كنت أحفظ للمخادع ودّه
ولكم عرفت برفعتي وتعفّفي

وترفض الجري وراء المجد الزّائف، ويبدو أنّ طالب ودّها أو الزّواج منها صاحب مجد مغرٍ:

لم أجر خلف ذيول مجد زائف
أو قمت ألهث إثر ودّ المترف

وتقرّر أنّها لن تكون حليلة إلا لمن ارتضت دينه وخلقه:

وتتوق نفسي أن أكون حليلةً
لمن ارتضيت وغيره لم أصطف
ولمن سما بخصاله وفعاله
ولمن لأخلاق النبوّة يقتفي
ولمن يخاف الله فيّ ولم يكن
إن دارت الدّنيا عليّ بمجحف

وترسم معالم الزّوجة الصّالحة في حياة زوجيّة قويمة، فتقول:

وأنا له نعم الحليلة دائما
وبودّه ورضاه عنّي أكتفي

إن سرّني حال أظلّ شكورة
أو ضاقت الأحوال لم أتأفّفِ

وأرى أنّ هذه القصيدة من عيون قصائد الديوان بجميع المعايير الفنّيّة والمعنويّة.
وفي قصائدها الغزليّة تبدي الشّاعرة ثورة مشاعريّة صريحة، تقول في قصيدة ( قلبي السّقيم):

خذني إليك بدون أيّ تردّد
فالعمر يجري مسرعا بخطاه
دعنا نشيّد في الغرام صروحنا
لله درّ الحبّ ما أحــــــلاه

وتقول في قصيدة (ليمون بالنعناع):

تتسارع الأنفاس حين يضمّني
ويشابك الأكواع بالأكواع

والرّيح تحمل للعواذل عطرنا
وتناقل الأخبار كالمذياع

وتختم القصيدة:

عدْ لي فإنّي صرت منك زليخة
لولا غرامك ما لويتَ ذراعي

ويبدو لي أنّ كثيرا من قصائدها في هذا الغرض كانت مساجلات شعريّة لا أكثر، من مثل قصيدة (خيلي جامح)، تقول:

نفجّر إن تدانينا القوافي
ليلتحم النّسيب مع النّسيب
أغضّ الطّرف في خجل وقلبي
يفرّ إليه في شوقٍ عجيب

أمّا في الفخر فتفخر الشّاعرة بعفّتها وعروبتها وانتسابها للقدس ولبلدتها سلوان، وتصف نفسها بمريم العذراء، وهذا اللّقب ورد أكثر من مرّة في ديوانها، فتقول في قصيدة ( أنا لست في خطّ الحرف إلها):
أنا مريم العذراء في محرابها
سبحان من بالطّهر فيه زكاها
ونشأت في أرض الجبابر لبوةً
وعشقت فيها قدسها وقراها
من عين سلوان ارتويت بشربة
بزلالها تلقى الجسوم شفاها
إنعام والخير الوفير بكفّها
يا سعد من بالحبّ نال رضاها

إلى أن تختم:
عربيّة الأعراق بل قدسيّة
يتنفس الصّبح العليل هواها

ويلفت الانتباه قولها (ونشأت في أرض الجبابر لبوة) وهذا كناية عن قوّة المرأة وأنّها مهيبة لا ترام بسوء.
تقول في قصيدة (أنا مريم العذراء):

أهدي سلامي سيداتي وسادتي
يا معشر الأحباب والشعراء
أرنو إليكم والقوافي في دمي
تسري وتشدو في سنا وبهاء

إلى أن تقول:
في جيرة الأقصى نشأتُ عزيزة
ولكم دعيت بمريم العذراء

والقصيدة هذه كأنّها خطبة في محفل شعريّ، وتبدو فيها الشاعرة تجيد الفخر.
وفي قصيدة يبدو أنّها تهجو فيها شاعرا تقول في مطلعها:
قَمِل بأذناب المنابر يهتفُ
واختال إذ أغراه ذاك الموقفُ
وتفخر فيها قائلة:
أنا بنت طارق إن أردت تفاخرا
بين الملوك مع النّجوم أصنّف

أنا خولة في الحرب إمّا نشبت
وبجرأتي المقدسيّة أعـــــــرف

أنا في عكاظ على الدوان مليكة
والشّعر من بحر البلاغة أغرف

تختم قصيدتها قائلة بكل كبرياء وتفضّل على المهجوّ:

ولأعفونّ اليوم عنه تكرّما
وأعود إن عادوا ولا أتأسّفُ

وتقول هاجية إحدى النّساء في قصيدة (فاض الكيل):
وجاهلة تمادت في خطابي
وظنّت أنّها أمنت عقابي
إلى أن تقول:
وقد أبقيك في الأعداد صفرا
ولن أرضاك ذيلا في كتابي
ومن شعر الحكمة لديها قصيدة بعنوان (اصدع بالحقّ) وتصنّف وصيّة شعريّة، منها:
اصدع بقول الحقّ دوما لا تخف
مهما لقيت لقولك استنكارا
هو خير أنواع الجهاد فلا تكن
عبدا لسلطان طغى أو جارا

وتختم هذه القصيدة بأبيات من الرّقائق فيها الدعاء، تقول:

وامنن علينا من رضاك برحمة
أنت الجـــــواد وتكـــرم الأبرارا

وأمّا شعرها في القدس والأقصى، وقد اتخذتهما محور القضيّة الفلسطينيّة، فكان له نصيب وافر في الدّيوان، يوازي شعرها الغزليّ وشعر الشّكوى، تقول:

أنا كقدسي برغم القيد ما وهنت
أن يحسبونيَ قد أُخضعت واعجبا
وتقول في الأقصى في قصيدة (القدس):

يا ناس إنّي ذبت فيه غراما
وغدا هواه فريضة ولزاما

وتوجّه سهام اللوم شديدة إلى من خذلوا القدس واستسلموا وأذلّوا شعوبهم:

سفهاؤهم أضحوا ولاة أمورهم
ولكمْ أذلّوا ســـادة وكـــــراما

فتغرّب الأحرار في أوطانهم
لم يلق فيها الأكرمون مقاما

وتقول في قصيدة ( لا تحزني يا قدس):

ما ضرّكِ التّهويد أو من طبّعوا
ما دام طفلي في رحابك يركع

فأنا المرابط والصّمود وسيلتي
وعلى ثغورك رغم قيدي أدفع

فهذه نماذج من شعر الشّاعرة، تفوح بأنفاس الشّعر القديم في أغراضه، وتعكس شخصيّتها في جانبيها النفسيّ والعقليّ، والتي منها الثّقة بالنّفس. وكنت قد أشرت في المقدّمة لبعض الخصائص الفنّيّة لشعرها، وهنا أضيف أمرين: الأول أنّ الشّاعرة لم تتكلّف في جلب الصّور الفنّيّة والاستعارات البعيدة، وربّما خلا شعرها من الرّمزيّة، التي أولع بها كثيرون من شعراء العصر، لذا جاءت الصّورة الشّعريّة لديها خفيفة لطيفة من مثل قولها:

أشكو لمن والقلب فاض جراحا
والحبّ حملنا الهموم سفاحا

فجعلت الهموم ابنًا غير شرعيّ للحبّ، وهذه فكرة فيها خروج عن المألوف في الحبّ.
أمّا الأمر الثاني فإنّ الشّاعرة أجادت التناصّ من القرآن الكريم، ودلّ ذلك على تواصلها بالقرآن الكريم، من مثل قولها:

همُ العدوّ بلحن القول تعرفهم
ضلّوا طويلا ولم تنفع بهم عبرُ
وهذا تناص من قول الله تعالى في المنافقين: ” ولتعرفنّهم في لحن القول” 30 من سورة محمد.
وكذلك أجادت الشاعرة توظيف بعض العبارات أو الأمثال الشعبيّة توظيفا جميلا غير فجّ ولا نشاز، من مثل قولها:

لتغمرني وتسري في عروقي
وأحيا فيك من ساسي لراسي

وقولها:
همست بغيظ في قرارة نفسها
” حتى أراك كخاتم في إصبعي”
وقولها:
لا بدّ أن تحظى بخِلّ غيره
حتى تميّز شرّه من خيره

وهكذا كنا مع شاعرة مُجيدة، تظهر موهبة شعريّة تُغبط عليها، وتتخذ بها مكانا مرموق بين شعراء زماننا، ومن المتوقّع بل من البدهيّ أن يأتي ديوانها القادم أكثر تميّزا، وهذا ديدن الشّعراء، كلّما تقدّموا أجادوا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى