تاريخ

بريق المسيحيين في الشرق

د. إياس الخطيب | موسكو

       تتميّز سورية تاريخياً بتنوعها الطائفي والديني الذي قلما نجد له نظيرًا في الدول الأخرى، ولا يغيب المكون المسيحي عن تركيبة المجتمع السوري، إذ تعتبر الديانة المسيحية ثاني أكبر ديانة سماوية بعد الديانة الإسلامية في سورية، ويلعب المسيحيون دوراً هاماً في المجتمع السوري.
وتعد الطائفة المسيحية في سورية ثالث أكبر الطوائف بعد الطائفتين السنية والعلوية، وتقدر نسبة المسيحيين بين 8 إلى 10% من عدد سكان سورية، وتنتشر المسيحية في سورية بطقسيها السرياني (وتسمى أيضًا بالرومية الأرثوذكسية أو المسيحية الشرقية) والبيزنطي (وتدعى الرومانية الكاثوليكية أوالمسيحية الغربية)، وتختلف السريانية عن البيزنطية بالمراسم والتقاليد المتبعة، يتنوع مسيحيو سورية طائفيًا فهناك الروم الأرثوذكس ويشكون الأغلبية (80% حسب بعض الإحصائيات)، يليهم الروم الكاثوليك، ويوجد العديد من الجماعات الأخرى مثل الموارنة واللاتين والبروتستانت والكلدان والآشوريين والسريان الكاثوليك والأرمن الذين يتركزون في مدينة حلب شمال سورية.
ومن العوامل التي ساعدت على انتشار المسيحية في سورية وجود الجالية اليهودية في دمشق والتي قدّرها المؤرّخ اليهودي “فلافيوس يوسف” بخمسين ألفاً، إذ استطاع الدعاة إلى المسيحية التأثير عليهم وجذبهم، وكل هذه المقومات شكلت قاعدة انطلق منها الدين المسيحي في سورية ونمى إلى أن أصبح المسيحيون يشكلون غالبية السكان في سورية، ولكن في القرن الحادي عشر تضاءل عددهم نتيجة اعتناقهم الإسلام، ولكن رغم هذا بقيت نسبتهم كبيرة مقارنة بالوقت الراهن إذ كانت قرابة 25% قبل الاحتلال العثماني الذي تسبب بهجرة العديد من السوريين، وكان المسيحيون يشكلون النسبة الأكبر من هؤلاء المهاجرين، الأمر الذي تسبب بانخفاض نسبتهم بشكلٍ كبير، كما أن القرن العشرين شهد حركة هجرة مسيحية بسبب الأوضاع السياسية المضطربة التي عاشتها سورية في تلك الفترة. وهناك الكثير من الشخصيات المسيحية السورية التي لعبت دوراً فاعلاً في المجتمع السوري وفي تطوّره ونهضته، منها على سبيل المثال لا الحصر:
       فارس الخوري: وهو من مواليد 1877م- دمشق، توفي عام 1962م، وهو سياسي ومفكر سوري برز في ذلك العصر، وأسس مع رفاقه في دمشق معهد الحقوق العربي، كما ساهم بتأسيس المجمع العلمي العربي بدمشق، وتولى الخوري وزارة المالية في عهد المملكة السورية العربية (وهي أول دولة مستقلة بعد انتهاء الاحتلال العثماني لسورية والتي ترأسها فيصل بن الحسين)، وأسس فارس الخوري بالتعاون مع شخصيات أخرى حزب الشعب ردًا على استبداد السلطات الفرنسية، وشغل الخوري منصب رئيس المجلس النيابي مرتين، كما تولى رئاسة مجلس الوزراء في عام 1944م، وتولى وزاراة الأوقاف، ومعروف عنه مديحه للفكر الإسلامي.
ميشيل عفلق: وهو من مواليد دمشق 1910م، توفي عام 1989، وهو مفكر شهير كان له الدور الأكبر في تأسيس حزب البعث الذي أصبح فيما بعد حزب البعث العربي الاشتراكي، تسلم عفلق منصب وزير التعليم في حكومة أديب الشيشكلي، وكان ميشيل عفلق من كبار الدعاة إلى الوحدة بين سورية ومصر والعاميلين على تحقيقها.
قسطنيطين زريق: بين عامي (1909-2000م) وهو مؤرخ وسياسي سوري ومن أكبر دعاة القومية العربية، وأطلق عليه عدة ألقاب مثل: شيخ المؤرخين العرب، المربي النموذجي، مرشد الوحدويين وغير ذلك من الألقاب.
كذلك المطران سابا إسبر (1959-)، ولد في اللاذقية، هو مطران في ببطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس مطرانيته هي نيويورك وسائر أمريكا الشمالية، وترأس سابقاً مطرانية بصرى وحوران جبل العرب في سوريا. ولد سابا إسبر عام 1959 في اللاذقية، سوريا، لعائلة مسيحية أرثوذكسية. تخرج عام 1987 بدرجة البكالوريوس في الهندسة المدنية من جامعة تشرين في اللاذقية وبكالوريوس في اللاهوت من جامعة البلمند.. سابا شماساً عام 1984 وكهنوتاً عام 1988، خدم في كنيسة رئيس الملائكة ميخائيل في اللاذقية. وفي عام 1994 ترقى إلى رتبة أرشمندريت. انتخب أسقفاً مساعداً للبطريرك إغناطيوس الرابع الأنطاكي ورسم للأسقفية في 20 كانون الأول 1997 وعين مساعداً في اللاذقية. وفي عام 1999، انتخب من قبل المجمع الأنطاكي المقدس ليكون متروبوليت بصرى وحوران.
كانت أسقفيته في خضم ظروف صعبة للغاية، حيث تعرضت المنطقة التي كان يرأسها لأضرار بالغة وفقرت ماديًا بسبب الحرب الأهلية السورية.. في 23 شباط 2023، انتخب المجمع الأنطاكي المقدس إسبر مطرانًا على أبرشية أنطاكية الأرثوذكسية المسيحية في أمريكا الشمالية. تٝرجم العديد من الكتب والمقالات إلى اللغة العربية، بالإضافة إلى عمله كمؤلف ومحرر للعديد من المقالات الأخرى.
من عام 1995 إلى عام 2006، درس الرعاية الرعوية ومقدمة للعهد القديم في معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي في جامعة البلمند. وفي إطار صداقته مع المطران باسيليوس (إيسي) من أبرشية أنطاكية الأرثوذكسية في أمريكا الشمالية، أشرف سابا على برنامج “التوأمة” بين رعايا أبرشية أمريكا الشمالية وأبرشيته في حوران كجزء من علاقة “أبرشية شقيقة”.. في عام 2022، إدراج ضمن الأسماء في بطاقة الترشيح للنظر في انتخابه من قبل المجمع الأنطاكي المقدس ليكون رئيس أساقفة متروبوليت للأبرشية المسيحية الأرثوذكسية الأنطاكية في أمريكا الشمالية. انتخب مطرانًا للأبرشية في أوائل عام 2023.
ويؤكد المطران سابا إسبر دائماً على أهمية الوجود المسيحي في الشرق، ويستنكر كل الحروب والإبادات وعمليات زعزعة الاستقرار المستمرّة التي تجري في الشرق الأوسط، والتي أدّت في الكثير منها إلى دفع المسيحيين إلى مغادرة بلادهم، مثلما تسبّب الغزو الأمريكي على سبيل المثال للعراق إلى مغادرة النسبة الأكبر من مسيحيي العراق إلى خارجه، كذلك الهجمات الإرهابية على سورية، والتي أدّت إلى أيضاً إلى تشريد عدد كبير من المسيحيين خارج وطنهم الأم سورية..
في النهاية يمكن القول إن المسيحيين هم سوريون قبل أن يكونوا مسيحيين، وهم إحدى قطع فسيفساء الشعب الشعب السوري التي لا تنفك عنه، أفراحه أفراحهم وآلامه آلامهم، ورغم عددهم القليل نسبيًا، إلا أنهم يُكوّنون جزءًا هامًا لا يتجزأ عن المجتمع السوري وعن كيان الدولة السورية، وهم جزء من تاريخ سورية ومستقبلها، وعلمٌ من حاضرها وبريقٌ من ماضيها، وإذا بحثت عن القدم مدموجًا بالحداثة فإنك ستجد المسيحيين في سورية خير مثالا على ذلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى