تاريخ

ملحمتا أكتوبر بين الأمس واليوم (1)

رضا راشد | من علماء الأزهر
      غربت شمس الجمعة السادس من أكتوبر (سنة٢٠٢٣م) وما زال المصريون يحتفلون بذكريات نصر أكتوبر (١٩٧٣م)في محاولة منه لاستحضار رائحة النصر العطرة لعلها تفلح في مزاحمة روائح الهزائم المتتالية التي باتت تزكم الأنوف بنتنها.
بات الجميع (مصريون ومسلمون) وهم لا يدرون أن كتاب التاريخ المجيد سيفتح مرة أخرى في صباح اليوم التالي السبت السابع من أكتوبر (سنة ٢٠٢٣م) ليسطر في أجلِّ صفحاته ملحمة جديدة لترتبط أيضا في أذهان المسلمين بشهر أكتوبر هي ملحمة (طوفان الأقصى).

    نام الناس منتشين بذكرى النصر الماضية، ثم استيقظوا على هذا النبأ السعيد الذي استحضر للأذهان أمجاد الماضي نبأ هذا الهجوم الفلسطيني الكاسح:(جوا، وبرا، وبحرا) على هذا الكيان الصهيوني الغاصب وتحقيق انتصارات سريعة مذهلة في ملحمة باتت أشبه ما تكون بالمعجزات حيث طلع عليهم أبناء الإسلام
…..طلوع المنون
فطاروا هباءً وصاروا سدىً
كما قال الملاح التائه على محمود طه.

ولأن التاريخ سلسلة متشابهة الحلقات تشبه آخرها أولها -كما قال سبحانه:(كما بدأكم تعودون) فقد لاحت لي بعض وجوه التشابه -لا التماثل- بين الملحمتين.

ما أشبه الليلة.بالبارحة
  يقول سادتنا البلاغيون:إن التشابه ليس كالتماثل، فالتشابه اتفاق في بعض الصفات، أما التماثل فاتفاق في كل الصفات.
   وما كان بين الملحمتين إنما هو من باب التشابه، أي اتفاق في بعض الامور واختلاف في بعضها الآخر. 

فأما وجوه التشابه فكثيرة منها:
   أولا: أن كلتا الملحمتين سبقت بخمسين سنة أو أكثر من الهزائم المتتالية، فقد سبقت ملحمة أكتوبر الأولى سنة ١٩٧٣م بوعد بلفور سنة ١٩١٧م الذي أعطى فيه من لا يملك (بريطانيا) وعدا لمن لا يستحق (اليهود) بتمكينهم من فلسطين، وما تلاه من تهجير لليهود إليها تهجيرا مصحوبا بمذابح يندى لها جبين التاريخ من قبل العصابات الصhيونية ثم كانت حروب (١٩٦٧،١٩٥٦،١٩٤٨ م) وما انتهت اليه من هزائم نكراء لتكون ضغثا على إبالة:(مثل يضرب لمن تراكمت عليه البلايا والأحزان)وبعدها جاءت حرب أكتوبر لتمسح بآمالها آلام أمة تتابعت عليها النكبات، ولتضمد جراحها الغائرة. 

   ثم كأن الأمة قد أبت أن تتبع النصر بانتصارت أخرى، وأن تتوالى سلسلة النصر في تاريخها كما كان أول مرة فما لبثت بعد ملحمة أكتوبر الأولى أن تراجعت القهقرى مرة أخرى إلى الهزائم والانتكاسات المتتالية التى امتدت إلى خمسين عاما أخرى: بدءا من كامب ديفيد، ومرورا بالحماقة الكبرى والفخ الأكبر الذي نصب ل(صدام) فوقع في شراكه العرب كلهم( وهو غزو العراق للكويت) الذي بسببه رجع العالم العربي قرونا عديدو إلى الخلف؛ فضرب العراق وحوصر، ثم احتلت أرضه، وضيع تاريخه وضحي برئيسه (صدام) في يوم عيد الأضحى، في إشارة رمزية لا تخلو من إذلال وإهانة.. وكان ما كان، بعد أن تنازع العرب ففشلوا وذهبت ريحهم. وأما على المستوى الفلسطيني فلم يكن الأمر أحسن حالا: فكانت اتفاقية أوسلو المشئومة التى بسببها سلط السيف الفلسطيني على أعناق الفلسطينيين أنفسهم، ثم اقتحام الضفةالغربية (سنة٢٠٠٢م) وإذلال (ياسر عرفات) بمحاصرته في مقاطعته ومنع المياه والكهرباء عنه!! ثم كانت ضرباتهم لغزة الأبية في سنوات (٢٠١٤/٢٠١٢/١٠٠٨م).

  هذه الهزائم المتتالية التي سبقت كلتا الملحمتين على مدى خمسين سنة أو اكثر رسخت لدى العدو الشعور بالقوة والغرور والغطرسة، حتى بات يردد في زهو : نحن الجيش الذي لا نقهر، ولن نغلب اليوم من قوة..كما رسخت عند كثير منا الشعور بالضعف والخزي والمهانه حتى بات لسان حال كثير منهم يردد ما قاله أسلافهم في الاستخذاء والانبطاح من قبل(لا طاقه لنا اليوم بجالوت وجنوده) ولولا الاستمساك بالله عز وجل ثم بنور الأمل الخافت واليقين بنصر الله ما كانت هاتان الملحمتان.

   ولهذا الشعور (بالهزيمة والضعف والاستخذاء من جانب العرب)، وذاك الشعور (بالقوة من جانب العدو) كانت الضربتان موجعتين وكانت الصفعتان قويتين؛ إذ ما أشدَّ أن تكون الضربةُ قويةً حين تكون على غرة وحين تأتي على غفلة. وكأن الله عز وجل برحمته للمسلمين ابتلى العدو بهذا الشعور بالقوة حتى يكونوا عن جنود الله غافلين وبقوتهم مستهزئين.

 ثانيا: أن العدو كان قبل كلتا الملحمتين قد تحصن بحصون منيعة. فقبل حرب أكتوبر أقام خط بارليف المنيع الذي روج أنه من المستحيل اختراقه وأن المصريين لو حاولوا يوما عبور قناة السويس فستتحول مياهها إلى نار تلظى بهم، وستكون رمال سيناء مقبرة لهم، بما يجعل من محاولة العبور مغامرة مجنونة غير محسوبة العواقب.

    وكذلك فعل العدو أيضا قبل ملحمة أكتوبر الثانية(٢٠٢٣م) فقد أقام سياجا فاصلا من الأسوار والأسلاك الشائكة طوله خمسون كم، كما أقام الجدار الحاجز من كتل أسمنتية بعمق تسعة امتار في باطن الأرض؛ ليكون في مأمن من هجمات الفلسطينيين. وهذا تصديق لقول الله عز وجل :(لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى).

 ثالثا: أن تلك الملحمتين تمت بشكل مفاجئ غير متوقع، حيث آتت خطة الخداع الاستراتيجي (السياسي) والخداع التكتيكي (الحربي) وكانت جهودهم من قبل ردَّ فعل، لكنها لأول مرة تقوم على الفعل والمباغتة؛ ولهذا كانت نتيجة واحدة، مع فارق بسيط: ففي الملحمة الأولى فقد العدو توازنه في ست ساعات، كما قال الرئيس السادات في خطابه الشهير الماتع. وأما في الملحمة الثانيه فَقَدْ فَقَدَ العدو توازنه في دقائق معدودات، كما قال رئيس الوزراء الفلسطيني.

هذا عن وجوه التشابه فماذا عن وجوه الاختلاف بين الملحمتين؟!ذلك ما سيكون موضوع المقالة التالية إن شاء الله.
يتبع… 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى