عن اكتشافاتي عن ذاتي والكتابة والإعاقة (1)

جمال القواسمي| القدس العربية المحتلة

بين الفينة والأخرى، طوال حياتي، كنتُ أعثر على كنز من المعلومات عن ذاتي، لم أكن أعلمه من قبل. فجأة أدرك كل بضعة سنوات انني اتعرف على شخصي كأنني لا أعرف من أنا تماماً. هل نتغير أم أنني جاهل أو أبله؟ هكذا تعثرت بصفات برج الجدي مؤخراً، وبرج الجدي كتوم وجيناته البرجية لا تسمح له بالتعبير عن نفسه. وهذا صحيح الى حد كبير، فهل هذا منسوج في ذاتي أم انني اكتسبتها او أصَّلتُها خلال حياتي؟ في طفولتي تعرضت كثيراً للتنمر من نظرائي في حارة الواد وفي مدرستي البكرية، وكنتُ أخشى الاستمرار في الشكوى لأبي لئلا يزعل مني، فقد كان يقول لي: لو بتقوللي في حدا ضربك، كمان أنا راح أضربك! ما تسمح لحدا يضربك! لقد تعودت على الكتمان وان التعبير عن أوجاعي ومشاعري ضعف لا يليق بالانسان. حتى بعد ظهور مرضي في سن الثانية او الثالثة عشر، شعرتُ بأن مشاعري المتفجرة غضباً وإحباطاً ويأساً يجعل مَنْ حولي يشفقون عليّ، وهذا إحساس كان يقتلني. بمرور الزمن، بتّ أكنس مشاعري من لساني، هي تظهر على وجهي وحدها، لكنني أعقلها بلساني، أتكلم بقدر، وأكتب بقدر، وأجاوب بقدر؛ وإن فشلتُ يوماً في كبت مشاعري، اندفع بلا حدود وبكل عنفوان وصخب. كنتُ دائماً انكر انني أتعرض للتنمر، والإقصاء من الآخرين، وللسخرية من مرضي والشماتة بمرضي او جسدي، ومشاعر الشفقة التي هي تعويض للناس عن مشاعرهم عن أنفسهم، للتمييز ضدي بسبب إعاقتي، رفض الناس لاستقلاليتي والاعتراف بنديتي، وكثير من الأمور المشابهة الأخرى… وكنتُ اتجاهل كل ذلك وأصرُّ انني إنسان مثل أي إنسان في مجتمعي والكرة الأرضية، وانسان قوي له إرادة وله طموح وله حلم يريد أن يحققه. لن يقبلني المجتمع بضعفي بل بقوتي، ولن أكون مثلما يرونني بل كيفما أرى نفسي!! لذلك كان عليَّ ان اتجاهل واقعي ومرضي وإعاقتي واطمح ان أكون مستقلاً له وظيفة وله دور اجتماعي. لم أكن لأسمح لنفسي بالانزعاج من أراء الآخرين لي، لم يهمني يوماً أن أعبر عن الوجع نتيجة تمييز المجتمع ضدي ولا معاملة الناس الفوقية معي، كنتُ اتجاهل ذلك واتحداهم. التعبير بحد ذاته شهادة مني بالضعف، وأنا لستُ هشاً، ولا أريد أن أكون. ثمة فجاجة في تعاملي، ثمة صراحة في تعاملي، مشاعري في وجهي ظاهرة، ولساني معقود، أنا جَدَيٌ والجدي عنيد ولا يهتم بالتعبير عن نفسه. قال أخي وليد لروحه السلام ذات يوم لاحدى صديقاتي: جمال بينسى أحيانا كثيرة انه معوق. كلامه صواب، لكن لو قال تناسى، ربما لأصاب أكثر.

لم أشأ يوم أن ألجأ للقلم وأشكو عن الإعاقة، وكيف نتعامل مع ذوي الإعاقة، كمادة توعوية او تربوية او فضفضة تنم عن أوجاع انسان هامشي او مُضطهد أو واقع في التجاهل والحرمان. المرة الوحيدة التي طُلِب مني أن أكتب عن الإعاقة، كان حين طلب مني مديري في العمل نعيم ناصر كتابة مقالة افتتاحية لمجلة بلسم عن الإعاقة، فأدَّعيت انها عتبة لفهم الحياة؛ والمرة الوحيدة التي طُلِب مني أن أتحدث عن إعاقتي كانت في أوائل التسعينيات، فقد وجه لي زملاء سابقون في جامعة بيت لحم، دعوة لالهام جرحى الانتفاضة في المبنى القديم للجمعية العربية لتأهيل المعوقين في بيت لحم، ولم أشأ أن أكذب عليهم وأشجعهم بالكلام المعسول: هل كنتُ قاسياً عليهم؟ قلتُ اشياء كثيرة سلبية عن مجتمعنا، ولكني أريد مجتمعي أن يقبلني كما أنا، أن يعطيني فرصة أن أعمل واعتاش من عملي بكرامتي وأن أتزوج وأستقل.. كم أزعج كلامي منظمي اللقاء من مرشدين وخريج جامعتي العامل الاجتماعي.. فهذه التوقعات الحيوية والطبيعية قد تكون صعبة المنال لكل جريح انتفاضة جديد أصبح من ذوي الاحتياجات الخاصة، وقيل لي ان ذلك ييأس الجرحى، لكني لم أشأ أن أداري الوجع وأخدع أحداً.

كانت الكتابة مهربي، الأدب يسمح لك بخلق الشخصيات والاختباء خلف اسمائها وأقنعتها وأزيائها. سألني القاص والروائي عزت الغزاوي لروحه السلام ذات يوم عن الذات في كتاباتي، فقلت له ان ذاتي موجودة في بعض القصص وفي أسلوب السرد أحيانا. سألني كيف. قلت له: قصص العرافة حياة بعضها عني، وقصة جاي معك تحكي عن راوي يصف ما يراه في الحارة من برندة الدار، هو مثلي معوق لأنه من جرحى الانتفاضة ويصف ما يحدث، انا فعلياً مختبئ هنا، لا أتكلم عن أوجاعه أو هشاشته أو تضحيته، انه في وضع الرائي والعالم بالحال والناس، هو يكشف مواطن القوة ومواطن الضعف، لكنه شخص فاعل وكاتب له دور.. ما تزال شخصية أحمد في قصة “جاي معك” عالمي الكتابي في داخلي وفي كتاباتي؛ في سنوات الثمانينات، في قصص مجموعتي الأولى العرافة حياة، عام 1988، ثمة قصة واحدة تحكي مباشرة عن سيرتي، وهي فعلياً أول قصة قصيرة أكتبها؛ كأنني شعرت بأنني كتبتها وخنتُ نفسي فقررت ان تكون الأخيرة، لكن ثمة قصتان أو أكثر تحكي بشكل غير مباشر عني: غرفة جمال، و العرافة حياة.

على صعيد النمط الحياتي الذي كنت أعيش فيه، كنت قبل عام 1990 شخصاً غير مستقل في حياتي اليومي، واعتمد على أمي في تناول الطعام وتغيير ملابسي؛ وكنتُ في شبه حصار او شبه سجن، فليس بوسعي الخروج من البيت وحسب، بل لم يكن من السهل لي أن اتنقل من الغرفة الكبيرة إلى الغرفة الصغيرة أو المطبخ في البيت؛ ليس لأنَّ بيتي غير مهيَّأٌ للكرسي المتحرك بل لأنني كنتُ غير مستقل بتاتاً وضمور العضلات يجعلني ضعيفاً لا أقوى على فتح زر، او الإمساك بملعقة بثبات. لم يكن ثمة أصدقاء لي أو أقارب شبان بعد بوسعهم حملي وحمل الكرسي المتحرك ليرافقوني في مشاوير خارج البيت أو شمات هوا او للتسوق. هكذا كنتُ أربط حياتي مع العالم الخارجي والواقعي من خلال أمي وأهلي وجهاز الراديو: ما أسمعه من الناس أو أهلي هي مادة تعلقي بالمجتمع ومعرفتي به، وبالتالي كانت كتابتي حالمة ونفسية أكثر منها وصفية ومكانية، نعم كنتُ شبه سجين، وكنتُ شخصاً ناقماً على مجتمعي، ولامنتمياً على نحو رافضٍ له، ذلك يتضح في مجموعتي القصصية الأولى العرافة حياة. استمع لمونتي كارلو، واذاعة عمان الانكليزية طوال الوقت، عالمي الافلام والموسيقى والكتب، كم كنت مهووسا بالكتب والتلفزيون، وكنت في كل سنة تقريباً، حين يكون بوسعي الوصول لمعرض كتاب او مكتبة انتهز الفرص واشتري كميات ضخمة من الكتب، وتبدأ طوش في الدار: أخي ابو زكي يقول: كتير هلقد، وأمي تقول لي: كتب كمان؟ وين بدك تحطهم يما حبيبي؟

قبل سنوات التقيتُ مع صديقي يحيى حجازي، كل بضعة سنوات نلتقي مصادفة جميلة على قارعة الطريق، نضحك ونتواعد باللقاء، نلتقي بشكل عابر، ولكن ذات مرة دردشنا وذكرني بحادثة كنتُ قد نسيتُها من حياتي تماماً؛ كيف أنسى حادثة فارقة كهذه. صديقي ذاكرتي الجميلة الضائعة، قال لي انه لن ينسى كيف عصبنت عليه وعلى يوهانس رفيقه الألماني المتطوع في التأهيل، فقد جاءا إلى البيت عندي ذات يوم ليعلمانني كيف أصعد درج بيتي وحدي عند الحاجة: كيف أزحف على الدرج وأجرُّ كرسيي المتحرك خلفي، كيف سأمسك بها؟ كيف سأجرُّها؟ سكوتش تاپ!!

وضحك يحيى، وقهقه يحي مطولا وقال: ولا يمكن أنسى ردة فعلك يا جمال، غضبت مني ومن يوهانس، أنا أزحف على الأرض؟ مجنون أنا! سيبوني بحالي مشان الله!!

سألتُ يحيى: احقاً تصرفت هكذا! عنجد؟

لماذا نسيته؟ لطالما خرجت من الدار واضطررتُ ان ازحف على الأرض على إليتي أحياناً وحدي متسلقاً على الدرج، حيناً لأنني وحدي وحيناً لأنني زعلان من أحد من أهلي ولا أريد مساعدتهن. كانت أمي الحنونة قد اشترت للكرسي المتحرك سكوتش تايپ وقصَّت إسوارتين من السكوتش تايپ وربطتهما في خلفية الكرسي المتحرك؛ كنتُ في فترة ما من عمري ولحتى عهد قريب، قبل لقائي المفاجئ مع يحيى، اعتقد انني اكتشفت طريقة للتغلب على الدرج، ولكن ها هو يحيى يصدمني: جئتُ انا ويوهانس وعلَّمك يوهانس كيف تتسلق الدرج زحفاً.

أضحكني على نفسي، هذا التصرف كم يلائمني!

يا إلهي، يا ذاكرتي الضائعة، لماذا أنسى موقفاً بهذه الأهمية! إنني أنسى ضعفي وقلة حولي، أتجاهلها، أغيِّبها، أنفيها، أتناساها، أنساها تماماً، انها لا تهمني ولا تمثلني؛ في باطني ولاوعيي كنت كأنني أقول: إذن سأتذكر قوَّتي ونضالي الفردي الخاص ضد المحيط الفيزيائي العِدائي! هكذا أمجد بطولتي اليومية وأعزز ذاتي وسبل مواجهة الحياة وقسوتها ودرجها وعراقيلها. هذا لا يعني أنني لست ممنوناً ليحيى او يوهانس بفضل تعليمي او أنني اردتُ تجاهل فضلهم، لكنني أتناسى ضعفي لأنني عزيز النفس ولستُ بكَّاءً ولا متحزوناً.

كإنسان معوق، يحاربونك، كرجل أو امرأة يحاربونك، كموظف أو موظفة يحاربونك، كأب أو أم يحاربونك، كجار أو جارة يحاربونك، كقريب أو قريبة يحاربونك، يعتقدون انَّك أو أنَّكِ الحيط المايل والضعيف، ثمة شبكة نسيجية من المجتمع ككل يحاربونك بها، يقصُونك ويستغلونك ويوصفونك بالوصائم، يريدون السيطرة عليك ككلب عند أقدامهم لمصلحتهم ضد أعدائهم، لا يرون أبعد من مصلحتهم المباشرة، لا يرونك. بالنسبة لي، سأفتخر بانني كنتُ قاصاً، مترجماً صحفياً، وعامل تأهيل، وأمين مكتبة، ومعلما للغة الإنكليزية وصديق وأخ وحبيب وأب، ويكفيني محبة البعض. سأفتخر بأني قاص وكاتب؛ نشرت بعض كتبي بما اقتطعته من طعام أطفالي وعمل زوجتي، لأني لا أعمل منذ عشر سنين واعيش على مخصصات الإعاشة الاجتماعية. منذ 20 عاما لم أوافق على لقاءات معي في الصحف لأنها لا تهدف للكلام عن أدبي أو قصصي، بل للتكلم عن الإعاقة وتعامل الناس النمطي مع ذوي الاحتياجات الخاصة والروح الإيجابية الزائفة والمُفرطة في مواقفها ضد او مع. كنتُ أرفضها تماماً؛ الإعاقة ليست كل ذاتي، هي جزء، فلماذا تصبح كل شيء في صحافة الصورة النمطية؛ انهم يعتبرون جمال قصة نجاح مثالية، يريدون إبراز المظاهر، ولا يريدون إظهار معاناة. يريدون أن أكون في صورة قدوة، ويريدون ان يعرضوا فقط الجانب المتلألئ من جمال: السيارة وعدد كتبه وسفره وزواجه! ذلك جزء بسيط من اغترابي، للأسف، عن مجتمعي. وأنا اعتقد ان الموافقة على تعزيز الصورة النمطية لِمَ يدعونه “نجاح” هراءٌ وتواطؤ في خداع الآخرين،. لذلك أرفض وصمي بصور مثالية، وللأسف بعض أصدقائي يريدون مني بكل وقاحة أن أكون كما يرغبون أن أكون.

في نهاية اكتشافاتي عن ذاتي، أريد أن أطمئنكم: نحن مجتمع يظلم المعاقين ويستغلهم، للأسف كثير من الأقارب والأصدقاء وابناء البلد يفعلون ذلك، ولكن احياناً الحروب الصغيرة اهم من الكبيرة وتأثيرها أعمق وأشد مباشرة وتدمير، وأنتم تهتمون بتأثيرات الحرب الكبيرة وتتجاهلون تأثيرات الحروب الصغيرة الكثيرة التي تشنونها على بعضكم البعض دون وعي لإرضاء ذواتكم ومصالحها…

وبالنسبة لبقية اكتشافاتي الأخرى، سأتابعها في وقت آخر…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى