مقال

في جنة القرآن

علي جبار عطية
رئيس تحرير جريدة أوروك  |العراق

لا أدري هل كان أستاذي في الدرس القرآني يدعو لي أو يدعو عليَّ حين يقول: أسأل الله ألا تشبعَ من القرآن! فهل يمكن أن يرتوي المرء من عذب كلام الله؟ والأمر ليس غريباً فهناك مَنْ يقرأ جزءاً أو جزأين من القرآن في اليوم ولا يشبع، ويشعر بالحاجة إلى المزيد خاصةً في أيام شهر رمضان، وهناك من يختم القرآن كل عشرة أيام، وأعرف قراء يعدون القرآن وردهم اليومي، ولا يستأنسون بشيء غيره..بينما تجد بعضهم يمضي وقته في ممارسة فعاليات حياتية متنوعة فينتقل من كتاب إلى كتاب أو يتابع نشرةً خبريةً أو مباراةً بكرة القدم أو برنامجاً ترفيهياً أو مادةً دراميةً لكنَّه لا يضرب موعداً مع القرآن أو ينتظر التلاوة القرآنية باللهفة نفسها!
قد يقول قائل: إنَّ السبب هو الافتقار إلى الثقافة القرآنية لكن حسب تجربة شخصية يمكن أن يكون هذا أحد الأسباب فجيلنا مثلاً نشأ وسط بيئة إسلامية، وكان درس (الدين) أو (الإسلامية) أو (التربية الدينية) ومازال مقرراً في المنهج الدراسي وله تقديرٌ خاصٌ، وكنا ونحنُ في مرحلة الطفولة ننتظر بث تلفزيون بغداد، لنحظى بمشاهدة أفلام الكارتون إذ اعتاد التلفزيون أن يتحفنا بربع ساعة من أفلام الرسوم المتحركة.
لقد استذوقنا اللهجة العامية المصرية من أفلام الرسوم المتحركة المدبلجة بها منذ الطفولة، وكبرنا معها حتى إذا شاهدنا أعمالاً مصرية تعاملنا معها كأنها أعمال تجري في بيئتنا العراقية..ما زلت بعد تلك السنوات يهدر في سمعي صوت عظيم هو صوت القارىء عبد الفتاح الشعشاعي (١٨٩٠م ـ ١٩٦٢م)، وهو يتلو آيات من سورة الإسراء:(مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا).. لن أنسى حلاوة هذه التلاوة أبداً فالمرء مهما تقدم في السن فلن تغادر ذاكرته مباهج الطفولة.
كنا نجتمع كل مساء في ليالي الشتاء الباردة حول مدفأة علاء الدين ننتظر ما يجود به علينا تلفزيون بغداد من برامج وأولها تلاوات قرآنية في سُنَّة حسنةٍ أن تبدأ الإرسال بأن تشنف الأسماع بكلام الله، وقد بدأت إذاعة بغداد ذلك مع أول بث لها يوم ١٩٣٦/٧/٧ إذ افتتحت الإذاعة بتلاوة للملا مهدي واستمرت على هذا المنهج حتى يومنا هذا.
تتكرر التلاوات التي يبثها التلفزيون على مدار الأسبوع لقراء مصريين وعراقيين منهم: الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي، والشيخ محمود علي البنا، وسعيد حسين القلقالي، والشيخ أبو العينين شعيشع، والشيخ محمد رفعت، والشيخ محمود عبد الوهاب، والشيخ خليل إسماعيل، أما القراء العظام الآخرون فحدث ولا حرج مثل الشيخ محمد صديق المنشاوي، والشيخ عبد الباسط عبد الصمد، والشيخ محمود خليل الحصري، والشيخ مصطفى إسماعيل والقائمة تطول.. أصوات صدحت حناجرها بأعذب الأنغام وأسهمت في تقديم آيات القرآن الكريم بأساليب حببت الناس إليه، فكنا نطوف بين نغم ونغم.
ثمَّ حدث تحول مهم مع انطلاق الفضائيات فبرزت أصوات من العراق، والخليج والمغرب العربي وإيران، وغيرها، وصارت نهضة قرآنية، ومؤسسات قرآنية، ومسابقات قرآنية، وبدأ العالم الإسلامي يستمع إلى القراءة القرآنية العراقية المميزة بتعدد مقاماتها وحلاوتها وشجنها الشفيف النابع من الشجن العراقي الأصيل.. أصوات شجية وصداحة مثل الشيخ عبد المعز شاكر، والشيخ عامر الكاظمي، والشيخ عبد الرزاق الدليمي، والشيخ عبد الفتاح معروف، والشيخ عبد القادر الخطيب، والشيخ أسامة الكربلائي، وغيرهم، والميدان مفتوح، والفرصة مؤاتية لجعل القرآن الكريم هويتنا .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى