مقال

رمضان شهر عبادة

بقلم: محمد أسامة | أمريكا

 نقفُ في أيَّامنا تلك على بعد أيام من شهر الرَّحمة، ومناسبة التوبة، وأيام العبادة والتقوى، وقد جرت سُنَّةُ الكون أن يختار الله تعالى مناسبات تكون فرصةً للمؤمن يستريح فيها من أعبائه، فينسى هموم عاجلته، ويتذكَّرَ فيها آخرتَه، ويتطهَّرَ من ذنوبه، ويبرأَ من خطاياه، فيصل من نفسه ما انقطع، ويجبر فيها ما انكسر، ويجدِّد خلالها صلته بربه، ولا يخطئ الحق بدربه. فقد خلق الله من الشهور واختار رمضان، وقدَّر الليالي واختار ليلة القدر، وقدَّر الأيام واختار يوم عرفة ويوم العيد، وجعل الأسبوع واختار الجمعة، وكلها مناسبات يتذكَّر فيها الناسي، وينتبه فيها الغافل، ويتوبُ فيها العاصي، ويهتدي فيها الفاجر، ويهتدي أثناء الضال، ويعي فيها العاقل، ويكفُّ فيها المذنب.

 وقد تعوَّدنا في سنين حياتنا أن تعبِّر الناس عن فرحتها، وتُفصح عن سرورها وغبطتها، بأساليب مختلفة، وأنماطٍ متعددة، فمنهم من يعبِّر عن فرحته بالعبادة، فيصلِّي الصلاة ويؤتي الزكاة، ويصوم بالنَّهار ويقوم الليل، ويقرأ القرآن ويبذل الصدقات، ويزيد من فِعل الخيرات، ومنهم من يلجأ إلى الاحتفال بالظواهر الحسِّيَّةِ، فيبالغ في الزينة، ويعلِّق الفوانيس، ويقيم الاحتفالات، ويضيء الأنوار، وهي أعمال لا بأس بها، ولا ضررَ منها، شريطة ألا تشغلنا عن غاية الشهر الحقيقية، وتفرغَه من معانيه الروحية، وهناك من يعبِّر عن رمضان بصلة أهله، وزيارة أقاربه وصحبه، فيرضيَ ربَّه، ويصلَ رحمه.

لذا فقد قد كان شهر رمضان فرصةً عظيمةً يجدِّدُ فيها العبد صلته بربِّه، فينير طريقه ودربَه، ويقيم من مشاعر العبادة ما يعجز أن يقيمه سائر الشُّهور، فيصيب من رمضان لذَّته الرَّوحية، ويفوز بنفحته الإيمانية، فلا ينبغي له أن يضيِّع فرصته، ويضلَّ غايته، وينشغل بدنياه عن أمور آخرته.

وعلينا أن ننتبه جميعًا لما في هذا الشَّهر من مُفسدات تُضِلُّ المؤمن عن غايته، وتغيم على بصيرته، فقد اجتهد المنافقون في عصورنا تلك أن يشغلوا المسلم عن أهداف رمضان الرَّوحية، ونفحاته الإيمانية، فزَّينوا له ما يصرفه عن صلاته، ويفسد عليه ثواب صيامه، فشغلوا شاشات التلفاز ببرامج ترفيهية، ومسلسلات تخريبية، ومسابقات فارغة المعنى، منعدمة الجدوى، سطية المخزى، لا ينال من شاهدها إلا ضياع أجره، وذهاب صومه، وانشغاله عن عبادته، والنيل من صلاته وصيامه، ولاريب أنه من اغتر بتلك المغريات فقد ضيَّع وقته، وخسر آخرته، ولا ربح دُنياه، وفوَّت على نفسه أوقاتٍ ثمينةً يُضاعف فيها الثواب، ويعظم فيها الأجر، وتُجدَّدُ فيها صلةُ العبد بربِّه، وهو ما يبتغيه أرباب الألحاد وأهل النفاق من إفراغ رمضان من قيمته الروحية، وأهدافه الدينية، بانصراف الناس  عن أسباب العبادة السامية، وسعيهم خلف المسلسلات الواهية، في مخطَّطٍ متعمَّد مفضوح، وأسلوب ممنهج معروف.

 وها نحن نرى أصحاب الدراما يتركون جميع شهور السنة، فلا نشاهد فيها عملًا واحدًا، بينما ينتجون في رمضان شهر العبادة العشرات من المسلسلات، والكم الهائل من البرامج، والتي لا صلة لها برمضان، ولا علاقة لها بأهدافه الدينية، ونفحاته الإيمانية، ولا تمتُّ بأصلٍ إلى طبيعة الشهر الروحية، بل وتمتلئ الطرق والمرافق، والشوارع والأبنية، بإعلانات عن مسلسلات درامية، بدلا من ملء الأجواء بالايات القرآنية، والأحاديث النبوية، وبمظاهر الوعظ والإرشاد، التي تنفع بشائرها العباد، والتي تناسب تلك المناسبة الدينية، بل إن حتى المسلسلات التاريخية، وأعمال الدراما الإسلامية، التي كانت تعبِّر ولو من بعض الوجوه عن مناحي الشهر الروحية، وكذلك البرامج الدينية والفقهية، قد صارت منعدمة، وأصبحت محتجبة، رغم أن الشهر مناسبة دينية، فتحوَّل رمضان في عيونهم من شهر العبادات إلى شهر المسلسلات.

 ومع أسف فإن الظاهرة تتزايد من حين لآخر، ومن زمن لغيره، فقد بدأَ الأمر أوَّلًا بعددٍ قليلٍ من المسلسلات، وبعض البرامح والمسابقات، وكانت تتخلَّلها بعض الأعمال الدينية، ثم ما لبث أن زاد عددُ الأعمال الدرامية، لتصل إلى أرقام مهولة، فاستحوذت حتى على الأوقات التي كانت تخصَّص للبرامح والأعمال الدينية، فألغيت حتى البرامج الهادفة، والمسابقات النافعة، وحلَّت محلها برامج اللهو والعبث. بل لم تعد تتَّسع لها القنوات الإعلامية العادية، فأنشأت قنوات متخصِّصة لهذا الغرض الدنيء، إمعانًا في تحقيق هذا الهدف الخبيث، فأصبح رمضان للناس مناسبةً لمشاهدة المسلسلات والفوازير، وليس لآداء الصلاة والعبادة.

 إن ملء رمضان بتلك المسلسلات الفارغة، والإمعان في برامج اللهو الفاسدة، هو إفراغ رمضان من قيمه الدينية، وغاياته الروحية، وصرفٌ للمؤمن عن عقيدته، وضلالٌ له عن أهدافه، وقتلٌ لروح التدين، ودعوة لانتشار الرذيلة، وتجريد رمضان من قيم معالمه الروحية، وتحويله إلى عباداتٍ شكلية، حينها لا ينال الصائم من صيامه غير الجوع والعطش، ولا يحظى من عبادته بثواب ولا أجر.

 وبما أن الشياطين قد صُفِّدَت في رمضان، لينقطع ما يكون منها من وسوسة وطغيان، فإن ذئاب البشر وأهل النفاق، قد نابوا عن الشيطان في وسوسته، وملؤوا فراغه في  طغيانه، حتَّى أنَّهم فاقوه في فجوره، وزادوا عليه في مفسدته، وأمثال هؤلاء لا ينبغي أن نواجه شرورهم، ونتوقَّى آثامهم، إلا بسلاح الوعي، وإعمال الفكر، بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتنبيه أن رمضان شهر عبادة، وصلاة وصيام وهداية، لابد من استغلال أوقاته، واستثمار لحظاته، وإفراغ أوقاته من أجل تزكية النفس ومرضاة الرب، فلابد من توعية الناس وتنبيههم، ونصيحتهم وتحذيرهم، والتنبيه على أن ما يحدث في شاشاتنا في رمضان ليس مجرَّد لهو وعبث فحسب، بل هو خِطَّةٌ ممنهجةٌ لتجفيف منابع الدين، وإفساد العقل، ومحو الهويَّة، وإعمال الفتنة، وإفراغ الشعيرة من معانيها.

وكلُّ عام وأبناء أمَّتنا بخيرٍ ويُمن

    

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى