مقال

في رحاب آية.. فمن يعمل مثقال ذرة

د. أحمد الطباخ| كاتب مصري
جعل الله الدنيا دار عمل لعمارتها بالأعمال الصالحة وبعد الانتقال إلى الدار الآخرة سيحاسب عما قدمت يداه فمن يعمل من الكفار مثقال ذرة خيرا يره في الدنيا ولا يثاب عليه في الآخرة ومن يعمل مثقال ذرة من شر عوقب عليه في الآخرة مع عقاب الشرك ومن يعمل مثقال ذرة من شر من المؤمين يره في الدنيا ولا يعاقب عليه في الآخرة إذا مات ويتجاوز عنه وإن عمل مثقال ذرة من خير يقبل منه يضاعف له في الآخرة وذكر بعض أهل اللغة أن الذر أن يضرب الرجل بيده على الارض فما علق بها من التراب فهو الذر.
وقال محمد بن كعب القرظي: فمن يعمل مثقال ذرة من خير من كافر يرى ثوابه في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير ومن يعمل مثقال ذرة من شر من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في نفسه وماله وولده وأهله حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شر دليله ما رواه العلماء الأثبات من حديث أنس أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يأكل فأمسك وقال: يا رسول الله وإنا لنرى ما عملنا من خير وشر؟ قال: ما رأيت مما تكره فهو مثاقيل ذر الشر ويدخر لكم مثاقيل ذر الخير حتى تعطوه يوم القيامة. وهذه العظيمة من أحكم الآيات وكما قال ابن مسعود هذه أحكم آية في القرآن واتفق العلماء على عموم هذه الآية وقد روى كعب الأحبار أنه قال: لقد أنزل الله على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف :” فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ” إنها الآية الجامعة الفاذة وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم لما فيها من السمات العظيمة (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)
وخلق الله الناس لطاعته وعبادته ، ولن يكون ذلك إلا بالمجاهدة وجهاد النفس والشيطان فذلك الذي يحتاج إلى أولي العزم من الرجال الذين عاهدوا الله على أن يواصلوا المسير إلى الله ، فجاهدوا في مرضاة الله ، وطلبوا ما عند الله فعملوا بما علموا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من عمل بما علم علمه الله ما لم يعلم .
وقد نزع العلماء إلى قول الله تعالى :”واتقوا الله ويعلمكم الله” فالعلم الذي لا يتبعه عمل هو علم أفقد صاحبه الجلال والوقار وجعله مقصرا في حق نفسه فما قيمة العلم إن كان صاحبه لم يعمل به؟! ، وقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا تقصيرنا في العمل بما علمنا ، ولو عملنا ببعض ما علمنا لأورثنا علما لا تقوم به أبداننا ، قال الله تعالى :” واتقوا الله ويعلمكم الله”.
إن جهاد النفس وكبح جماحها والأخذ بشدة عليها وتهذيبها وتأديبها كما كان يفعل الصحابة والصالحون لهو الطريق إلى الهداية والسبيل للوصول إلى معية الله لا سيما العلماء الذين ينظر إليهم الناس على أنهم الهداة والمشكاة التي يقتبس منها الأنوار ، وليس المقصود من قول الله تعالى :” والذين جاهدوا فينا ……”كما قال أبو سليمان الداراني :الجهاد الذي هو قتال الكفار ..وإنما هو نصر الدين والرد على المبطلين وقمع الظالمين وأعلا ذلك الجهاد هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
إن الناس أيامنا هذه قد اغتروا بالقليل من الدين وهروا إلى الدنيا ومتاعها والسعي فيها تنافسا في ملذاتها وتركوا نفوسهم دون تربية ومجاهدة فكان من أثر ذلك ما نراه اليوم من ضلال وظلم وطغيان وتنافس وغير ذلك وحدث بينهم هذا الخلاف والشقاق ؛ فلم نر مجاهدة النفوس في طاعة الله ورضاه وهو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه سلم عندما رجع من غزوة من الغزوات فقال لأصحابه : رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ، إنه ذلك الجهاد الذي يحتاج إلى عدة وعتاد وهمة ونشاط لمواصلة العمل للوصول إلى رضوان الله وقد قال سفيان بن عيينة لابن المبارك وقد بلغا الرجلان ما بلغا من الزهد والورع والتقوى والمكانة فيقول سفيان لابن المبارك : إذا رأيت الناس قد اختلفوا فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور فإن الله تعالى يقول :” لنهدينهم “.
إنه الجهاد العام الشامل في دين الله وطلب مرضاته من عمل مثمر بإخلاص لصلاح الأوطان وتقدم البلاد وحماية حدود البلاد من أعداء الدين الذين يتربصون بالأوطان ، ووقفة العلماء بالمرصاد لدعاة الانحلال والافساد بإشاعة قيم الحق والعدل بين الخلق والتحلى بالحكمة في الدعوة إلى وكما قال عبد الله بن الزبير : تقول الحكمة من طلبني فلم يجدني فليطلبني في موضعين: أن يعمل بأحسن ما يعلمه ، ويجتنب أسوأ ما يعلمه.
ما أجوجنا إلى علماء يخلصون لدعوتهم وليس لدنياهم فيجاهدون حب الظهور والشهرة ويكونون كهذا الطراز الفريد من الذين جاهدوا فينا فهداهم الله السبيل من أمثال الشيخ الشعراوي والغزالي وعمارة وغيرهم من العلماء المخلصين .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى