قراءة في تجييل الشّعر التّسعيني في العراق للدّكتور سعيد حميد كاظم
بين إبداع الرّؤية واستنطاق البنية

د. فاطمة حسين شحاذي
يحتلّ مصطلح “التّجييل” موقعًا إشكاليًا بارزًا في الحقل النّقدي العربيّ، بوصفه مفهومًا مُلتبسًا بين التّنظير والمُمارسة، بخاصّة حين يرتبط بالتّحولات الشّعرية في فضاء زمنيّ مُتوتّر؛ في كتاب”تجييل الكتابة الشّعرية في العراق بين التّنظير والإجراء: دراسة في الجيل التّسعيني“، ينجز الدّكتور سعيد كاظم مشروعًا نقديًا جادًا يسعى فيه إلى تقعيد المفهوم ضمن سياقه المحليّ، مقُترحًا قراءة نوعيّة لبنية الخطاب التّسعيني، مُتتبعًا جذوره وتحوّلاته، ومُنتجًا خطابًا نقديًا ذا منحى إجرائي؛ إذ يُقارب الكاتب الجيل التّسعيني بوصفه كائنًا شعريًا مُختلفًا، لا ينهض على القطيعة مع الماضي، بل على توليد وعيه الذّاتي، إذ يقول: “إنّ تجربة الجيل التّسعيني نجحت في نقلنا إلى مساحة أخرى، اهتزّ فيها فضاء العلاقات والأفكار في النّص الشعّري، حتّى أفضى ذلك إلى اجترار أساليب مُغايَرة مُتنوّعة انسجامًا مع مُقتضى الحال” (حميد، 2013، ص. 7).
وتُطرح في هذا الكتاب إشكالية جوهرية تتمثّل في الآتي: هل يُمثّل التّجييل أداة نقديّة دقيقة تفي بتحليل تحوّلات الشّعر العراقي الحديث؟ أم أنّه يُعيد إنتاج تصنيفات تقليديّة بصياغة جديدة؟وكيف يُمكن الموازنة بين البعد التّنظيريّ والإجرائيّ في تتّبع ملامح “جيل شعري” من دون الوقوع في فخ التّعميم أو الإقصاء؟
أوّلًا: التّجييل بين تعدُّديّة المُصطلح وفتنة التّأصيل
في الفصل الأوّل، يشرع المؤلّف بتفكيك الجدل الاصطلاحيّلمفهوم “التّجييل”، مُؤكدًا أنّ المُصطلح لا يُحيل إلى مجرّد تصنيف زمنيّ، بل إلى شبكة من التّصوّرات المُتداخلة التي تعكس توتّرات الهُويّة الأدبيّة والسّياقات الثّقافيّة والسّياسيّة.
وتحت عنوان “التّجييل وفتنة المفهوم”، يُقارب الدّكتور سعيد حميد المفهوم من ثلاث زوايا رئيسيّة، هي:التّجييل العقدي؛ وهو التّجييل المُرتبط بالوعي الفكريّ والأيديولوجيّ، إذ يرى أنّ الجيل لا يتحدّد فقط بما يكتبه، بل بما يُؤمّن به من قيم فكريّة وجماليّة. والتّجييل التّاريخي؛ وهو المعنيّ بتصنيف التّجارب على وفق التّتابع الزّمني والتّاريخي، وهو الأكثر تداولًا في الدّراسات النّقديّة التّقليدية، غير أنّ المؤلّف يرى أن هذا التّجييل يقع في إشكالية التّعميم؛ لأنّه يُغفل تحوّلات الذّائقة واختلاف التّجارب الفرديّة داخل الجيل الواحد. والتّجييل الإبداعي؛وهو التّجييل الذي يراه المؤلّف الأهم من النّاحية النّقديّة؛ لأنّه يربط الجيل بالمنجز النّصيّ، وأسلوب تشكّله، وانحرافه عن السّائد؛ فبهذا المعنى، يُصبح التّجييل الإبداعي “هُويّة فنيّة لا زمنيّة”.
وبذلك، يُعيد المؤلّف صياغة مفهوم التّجييل بوصفه مفهومًا مُتحوّلًا أو أداة تحليليّة مفتوحة تتأسّس على الانزياح الجماليّ المُشترك مُتحرّرًا من عبء التّراتبيّة الزّمنيّة، ومُتّجهًا نحو تأويل الانحراف الجماليّ المُشترك في الكتابة، وهو ما يجعل من التّجييل الإبداعيّ الإطار الأكثر فاعليّة في قراءة الجيل التّسعيني بوصفه كائنًا نصيًا جماعيًا، لا مُجرّد تصنيف زمنيّ.
ثانيًا: من إمكان الحضور إلى واقعيّة الإنجاز
يتتبّع المؤلّف في الفصل الأوّل تبلور ملامح الجيل التّسعيني، بدءًا من حضوره بوصفه احتمالًا، وانتهاءً بوصفهظاهرة أسلوبيّة مُتمايزة، وفي هذا السّياق، يُقدّم تصوّرًا أنطولوجيًا للجيل بوصفه كيانًا يتشكّل داخل نصوصه، لا خارجها؛ إذ يذكر أنّ الجيل التّسعيني لم يولد دفعة واحدة، بل تكوّن كضوء مُتدرّج، مارّا في ثلاث مراحل هي: الحاضنة فالولادة فالبيان، ليُعيد بذلك الاعتبار للبنية النّصيّة بوصفها مّكوّن الجيل الأول، لا مجرّد سياق إنتاج.
ثالثًا: بنية التّجاوز: تفكيك النّمط وتوليد المعنى
تُطرح “بنية التّجاوز” في الفصل الثّاني، بوصفها خاصيّة أسلوبيّة للجيل التّسعيني، تتجاوز التّسلسل المنطقي للعبارة، وتعتمد على التّجاوز في مستويين، الأول، هو الأداء الشّعري: ( الفضاء الضّدي، تمجيد السّؤال، الخطاب المعرفيّ، التّشكل السّير ذاتي، مجانيّة التّغريب والهمّ اليومي)،والثاّني هو: البناء الشّعري، إذ تمثّل هذه البنية انعكاسًا لهويّة شعريّة جديدة بأصناف مُتعددة في الشّعر التسعيني ( قصيدة الشّعر، قصيدة الومضة، القصيدة التّفاعلية)، بذلك تغدو هذه البنية ليست ترفًا شكليًا بل استراتيجيّة تفكيك واستنطا؛.ويُتابع تحليل بنى القصائد لدى غير شاعر بوصفها مشهدًا لغويًا قائمًا على مُفارقة خطيّة تُسائل اللّغة وتُعرّي سطوتها.هذا الشّكل يُمثّل عنده تحوّلًا في بنية التّلقي أيضًا، إذ إنّ القارئ لا يتلقّى المعنى، بل يُعيد ترتيبه في كلّ قراءة، ناقلًا رؤية أحد الشّاعر ومنهم الشّاعر التّسعيني مازن المعموري الذي يقول في هذا السّياق: ” إنّ الوضع التّسعيني بمجمله يُتيح للشاعر اعتماد الفردانيّة وليس التيار، وهذه دعوى أو حجّة من جعل الجيل التّسعيني أبوته في ذاته، كوّن تلك الفردانية والتّميز تجعل منه جيلًا له ملامح مُميزة” ( حميد، ص 144).
هذا ويُعمّق المؤلّف مُمارسته الإجرائيّة بتحليل عدد من النّماذج الشّعرية، ليكشف أنّ التجاوز لا يشتغل بوصفه أداة بلبنية إنتاج دلالي، وقد أفلح في إبراز كيف يُنتج الجيل التّسعينينصوصًاغيرمألوفة، إذ أنّ القصيدة لا تُعطى كاملة، بل تتشكّل عن طريقفعل القراءة، ما يجعل المتلقّيوالنّاقد معًا جزءًا من بنية إنتاجها،وبهذا يؤسُّس سعيد حميد لما يُمكن تسميته بـ”النّقد المُنتج”، إذ تصبح القراءة مُمارسة إجرائيّة تكشف عن تشكّلات المعنى داخل النّص، من دون إخضاعه لمنطق القراءات التقليديّة، كاشفًا عن بروز أنماط شعرية مُتعددة، أبرزها: قصيدة الشّعر، قصيدة الومضة، والقصيدة الّتفاعلية، وهي أشكال تُمثّل التحوّل الجمالي للجيل التّسعيني، تعكس تجربة لغويّة مُقلقة، تُمثّل صدىً صادقا للواقع العراقي البائس، فقصيدة الومضة تُمثّل نمطًا كتابيًا اختزاليًا، لكنّه لا يقلّ كثافة عن القصيدة الطويلة، إذ ” إنّ هذه البنية الشّعرية أراد لها التّسعينيون أن تكون بنية تجاوز عندهم، وأن تحسب لمنجزهم علامة مُميّزة وتكون من العلامات الفارقة” ( حميد، ص 211)، ومنها تجربة الشّاعرة ريم قيس كبة، التي عكست في قصائد الومضة لديها الهم الوطني، فتراها تنشد:
بلادي عروس
تُزفّ بأحلى الطّقوس
إلى المقبرة
أمّا القصيدة التّفاعلية، فتمثّل لديه قفزةً نوعيّة في التّعاطي مع الشّعر من جهة الوسيط والتّقنية، إذ يتوسّل النّص أدوات رقميّة تُعيد تشكيل القصيدة لا بوصفها نصًا فحسب، بل تجربة مُتكاملة تجمع بين الصّورة، والمؤثّر البصري، والتّلاعب بالزّمن واللغة، ومنها ” القصيدة التّفاعلية الرّقميّة للشّاعر المُجدّد مُشتاق عباس معن، جاءت مواكبة لتطوّرات العصر، تهدف إلى تفعيل حواس المُتلقي” ( ص 213)؛ ويصف هذا الشّكل بأنّه أكثر تجلٍّ صريحٍ لبنية التّجاوز، إذ لا تقوم القصيدة على خطّ زمني، بل على فسيفساء نصيّة تتفاعل فيها العناصر وتتبدّل في كل مشاهدة، ويُشدّد على أن هذه القصيدة تمثّل رأس حربة التّجديد في تجربة الجيل، إذ تشترك الحواس جميعها في قراءة النّص الشّعري الذي يضمّ: النّص، والمعزوفات الموسيقيّة، والمساحات اللّونيّة، والرّسومات، والهندسة… ( ص 215)، مُفصّلًا ما اشتملت عليه قصيدة تباريح للشّاعر معن.
خامسًا:وعي منهجي يُزاوج بين الوصف والتّحليل والتّأصيل
يُحسب للدّكتور سعيد حميد أنّه لا يُغرق في التّنظير المُجرّد، بل يسعى باستمرار إلى وصل المفهوم بالنّص، وتطويع المنهج لخدمة القراءة، وقد اعتمد في دراسته على مُقاربات مُتعدّدة، تجمع بين المنهج التّحليلي الوصفي،والسّيميائي، والانثروبولوجي، وغيرهافي تكامل مرن يخدم التّحليل، من دون أن يُصرّح بمناهجه بشكل صريح ومُباشر، ممّا يجعل المنهج أداة ضمنيّة فاعلة لا عبئًا تنظيريًا، والجديد في هذا الكتاب لا يكمن في اختيار موضوعه فحسب، بل في الزّاوية التي نظر منها حميد إلى الجيل التسعيني، فقد أعاد تأطير النقاش النقدي حوله، مقترحًا قراءة لا تنطلق من المُسلّمات، بل من مُساءلة المصطلح والمنهج والنّص، وبذلك، يُعد الكتاب إضافة نوعيّة للسّاحة النّقديّة العراقيّة والعربيّة، بحسبانه يفتح بابًا لإعادة النّظر في مقولات “الجيل” و”التّحوّل الشعري” من منظور إجرائي وتنظيري معًا.
كما أنّ الكتاب لا يُوثّق تجربة شعريّة فحسب، بل يُقدّم تصوّرًا نقديًا جديدًا لمفهوم التّجييل ذاته، يبيّن أن الجيل التسعيني لا يُقرأ بمنظار “الجيل الماضي”، بل بوصفه لحظة انعطاف نقديّة ولغوّية تستحق أن تُقرأ بمعزل عن تراتبية الماضي.
أخيرًا، يُمكن القول: يُمثّل كتاب “تجييل الكتابة الشّعرية في العراق”للدّكتور سعيد حميد مشروعًا نقديًا جادًا ومُتماسكًا، يُضيف إلى المشهد النّقدي العراقي رُؤيةً منهجيّةً ومعرفيّةً مُتقدّمة. هو كتاب لا يكتفي برصد الظّاهرة، بل يسعى إلى تفكيك بنيتها وتأصيل أدوات قراءتها، مُستفيدًا من تنوع الأدوات النّقدية ومتانة الخلفية الثّقافية للمؤلّف.
________
حميد، سعيد كاظم.(2013)، تجييل الكتابة الشّعريّة في العراق بين التّنظير والإجراء: دراسة في الجيل التّسعيني، ط1،بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة.