أدب

بين أصابع الضوء

ھدى حجاجي أحمد| كاتبة وروائية مصرية

في زقاقٍ قديمٍ ضيق، حيث تصطف المنازل الحجرية المتصدعة كصفوف من الذاكرة، كان هناك نافذة صغيرة بالكاد ترى الشمس. شعاع ضوء صباحي ينساب برقة بين الحائط والجدار، يركض على الأرضية الحجرية كما لو كان سائلًا ذهبيًّا، يلمس كل زاوية، كل شقّ، كل أثر من الزمن على الجدران.

ليلى كانت تجلس هناك، على الطاولة الخشبية المهترئة، ويدها على دفتر قديم الصفحات، وعينها تلاحق الضوء، لا لتكتب بالضرورة، بل لتستمع إليه. كل شعاع كان يخترق الغرفة وكأنه يخاطبها سرًّا، يحكي لها قصصًا لا يسمعها أحد: صوت الريح التي تمر بين الأشجار، رائحة الخبز الطازج من نافذة الجيران، همس خطوات طفل يركض في الزقاق، حتى أصغر اهتزاز في الهواء كان له معنى.

في ذلك اليوم، شعر شعاع الضوء بأنه أكثر كثافة، أشبه بشريطٍ من الذهب النقي يتلوى بين الأصابع، يلتف حولها، يدخل قلبها قبل عينيها، ويترك أثراً عميقًا على كل شعور كان مكتومًا. رفعت يدها ببطء، محاولة لمس الهواء، لكن الضوء تلاشى بين أصابعها كما لو كان يعرفها منذ زمن، كأنها جزء من كيان أكبر من كل ما رأته أو حلمت به.

أغمضت عينيها للحظة، واستنشقت الهواء الممزوج برائحة الرطوبة والحجر القديم. شعرت بدقات قلبها تتناغم مع همسات الضوء، ومع كل خفقة، تتكشف لها تفاصيل لم ترها من قبل: ضحكة صديقة رحلت منذ سنوات، نسمة هواء خاطفة في صباح خريفي، قطرات مطر قديمة تتساقط على نافذتها… كل شيء صغير لكنه يمتلئ بمعنى أكبر، كأن الحياة كلها تتلخص في تلك اللحظة.

ثم، ظهر الظل. لم يكن ظلاً حقيقياً على الأرض، بل كيانًا شبه شفاف يقف عند حافة الغرفة، يراقبها بصمت، لا يعرفها، لكنها شعرت بأنه يحمل كل ما تبحث عنه: الأمان، الفهم، الحرية من كل القيود الخفية التي تثقلها. لم يتحرك، ولم ينطق بكلمة، لكن وجوده كان يملأ الغرفة كلها، يضفي بعدًا آخر على الضوء، ويمنح كل تفصيل صغير وزنًا جديدًا.

ليلى جلست ساكنة، تشعر بكل اهتزاز في الهواء، بكل خفقة قلبها، بكل نفَس يمر بين الرئتين. شعرت أن كل شيء هنا — الضوء، الظل، رائحة الحجرة، صوت الزقاق الخارجي — متشابك في رقصة غامضة، رقصة لا يفهمها سوى من يعرف كيف ينظر إلى التفاصيل الصغيرة، كيف يستمع إلى الصمت، وكيف يقرأ ما بين الظلال.

مع غياب آخر شعاع من الضوء، واختفاء الظل، شعرت ليلى بأنها تحمل معها شيئًا لم يكن موجودًا قبل قليل: قصة لم تُروَ، شعور لم يُعاش، حياة كاملة بين أصابعها. جلست على الطاولة وكتبت أول سطر في دفترها القديم، سطرًا يحمل كل الصمت الذي عاشته، كل الضوء الذي لمسه قلبها، وكل الهمسات الخفية التي سمعتها روحها.

كانت تعرف أن القصة لم تنته بعد، وأن كل شعاع ضوء جديد، وكل ظل غامض، وكل همسة من الزقاق، يمكن أن يكون بداية فصل آخر. لكن، لأول مرة، شعرت بأنها تملك القدرة على تحويل كل التفاصيل الصغيرة إلى عالم كامل، عالم يختبره القارئ بعينيه، وروحه، وقلبه، تمامًا كما عاشته هي، بين أصابع الضوء.

وفي هذا الصمت، تعلمت ليلى درسًا عظيمًا: أن الجمال الحقيقي يكمن في التفاصيل، في لحظة واحدة من وعي كامل، في شعاع ضوء يلمس قلبًا مستعدًا للشعور بكل الحياة، حتى وإن كان العالم كله لا يرى إلا الغرفة الصغيرة فقط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى