بالحبر الأبيض.. سيرة صحفية (3)

 علي جبار عطية| رئيس تحرير جريدة أوروك | العراق

                                  (3)

           الخروجُ من مملكة الخراب !! 

إذن، لقد فعلها (الأستاذ) على مراحلٍ : قطع من راتبي مئتي الف دينارٍ ، بحجّة أنّه غير مسؤول عن دفع هذه الزيادة، التي كان يدفعها رئيس التحرير السابق من إيرادات الجريدة، ثمّ ألغى الصفحات التي كنتُ أعدُّها، ورفض الصفحات والموضوعات، التي قدّمتُها، ثم حانت الفرصة للخلاص مني! 

جالتْ في رأسي أمنيةٌ شرّيرةٌ ـ والأمنيات الشرّيرة، كالأعشاب الضارّة، تحتاج إلى جهد لاقتلاعها ـ وأزعجتني كطنين الذبابة، وهي : إنني تمنّيتُ أن يحصل خللٌ فنيٌّ ، فتقع الطائرة التي أقلّت (الأستاذ) من بغداد إلى أربيل! 

كم من المفزع  أن يجهد المرء نفسه  ليقتلع الأعشاب الضارَّة في مسيرته التكامليّة، فيأتي شخصٌ مثل (الأستاذ) ، فيعيده ـ كما يقول السياسيون ـ إلى المربّع الأوّل ! وهذه هي الخسارة الكبرى. 

حاولتُ التماسك، ذهبتُ إلى مطعم الجريدة. استقبلني الشاب (سامان) ببشاشةٍ أزاحت شيئاً من همومي.. قبل أن يقدّم لي الطعام، رجوته أن يقلّل من كمّيته. 

وضع (سامان) طبق الرز، مع مرقة الأسود (الباذنجان)، المفضّلة لديَّ  ، لمواقفها المشرّفة في سنوات الحصار في التسعينيّات، لرخصها، ولقيمتها الغذائيّة الجيّدة، خاصةً، حين تُشوى، فكان العراقيّون يقبلون عليها بشغفٍ، ويجعلونها قاسماً مشتركاً في جميع وجباتهم ، ويتندّر الظرفاء منهم، بمناداتها بصفة (وحش الطاوة)

ـ ولأنَّ الشيء بالشيء يُذكر ـ تذكرت أيّام طفولتي السعيدة ـ برغم الحرمان ـ  يوم كنّا ننتظر فيلم الأسبوع العربي المعاد، مساء الجمعة ، ليجود علينا التلفزيون بفلم من أفلام (وحش الشاشة): تلك الصفة التي  التصقت بالفنان فريد شوقي، الذي يرتبط حضوره السينمائي بالفتوّة ، وانتزاع حقوقه بقوَّة  اليد. 

كم تمنيت أن أكون، مثل فريد شوقي في حسم الأمور، فهذا العالم لا يسير بالرومانسيّات، بل بقوّة المال ، والسلاح، والموائد ! وأنَّ رهاننا على الكلمة، محض خيالٍ، وعدم قراءة للواقع بطريقةٍ صحيحةٍ . 

تذكّرتُ مقطعاً للشاعر سعدي يوسف في مسرحيته الشعريّة(عندما في الأعالي) التي نشرها عام ١٩٨٩م  يقول  :

(نحن نموتُ، فهل سوف يموت الشر 

أم أنَّ القبح سيخلد أبد الدهر ؟) 

لاحظ (سامان) فتور حماستي للطعام فبادر : خيرك. أبو الحسن .. ماكو شي؟ 

قلت : تعبان. 

ردّ بلطفٍ :الله يساعدك . 

هو الغداء الأخير إذن ، ولابدَّ أن آكل منه، ولو لقمةً.، وهذا ما حصل. 

أعدتُ الطعام إلى المطبخ ، بعد أن ابتعد (سامان) قليلاً عنّا لشأنٍ من شؤونه. 

ذهبتُ إلى مكتبي، أخذتُ ألملمُ بعض أشيائي، ومنها : نسخةٌ من القرآن  الكريم ،  أهدانيها أحد منتسبي وزارة الدفاع ، بعد استجابة الوزير لشكواه في صفحة (شعب يريد)، وإعادته إلى الخدمة. 

حين نقلت الخبر إلى رئيس القسم الفنّي الصديق المصمِّم (باسل جلال أحمد) انفعل كثيراً، وكان تأثره الصادق خير مواساةٍ لي.

رجاني (باسل)  أن أنتظر قليلاً قبل أن أغادر الجريدة .. قال لي :(انتظر قليلاً.، لأستطلع الأمر من سكرتير التحرير جواد ملكشاهي) ، وهو شخصٌ دمثٌ للغاية، وإعلاميٌّ ناجحٌ، كان يعمل في إذاعة (شفق)،  وقد جاء إلى الجريدة بعد توقّف الإذاعة عن البث؛ بسبب وقف التمويل. 

كانت الدقائق طويلةً عليَّ .، ففي هذا المكان، لي ذكرياتٌ جميلةٌ جداً ، إذ تعرّفتُ إلى نخبةٍ من الكتّاب والمثقّفين من مختلف الميول والاتجاهات، وشهدت الجريدة أخذ فرصتي الحقيقيّة في التحرير، وفي فنون العمل الصحفي، وخدمة الآخرين، وكانت محطّةً مهمّةً في حياتي.

أذكرُ في الشهر الأوّل من إصدار الجريدة، في شهر آيار، قال لي الأخ الإداري عبد الله بابان : اذهبْ وتسلّم راتبك، فرأيت مجموعةً من الناس بأعمارٍ متفاوتةٍ على باب غرفة الحسابات ينتظرون دورهم للدخول . كانت هيأتهم لا تدلّ على أنّهم من أهل الإعلام، وحين تسلّمتُ راتبي الأول وكانت قيمته تعادل مئة دولارٍ أمريكي، كانت فرحتي كبيرةً بأعلى راتب بعد ( التحرير) خاصةً  بعد حلّ وزارة الإعلام من سلطة الائتلاف، وتسريحنا من الوظيفة من دون تعويضٍ لكنّ فرحتي كانت أكبر، بعد أن  دفعني الفضول للسؤال عن هؤلاء الناس ، خلف الباب ، فجاء الجواب : إنَّ رئيس التحرير (فلك الدين

 كاكائي) ، طلب من بعض أسرة التحرير ، تسجيل أسماء الأشخاص المحتاجين، من غير الإعلاميين لتخصيص منحةٍ شهريةٍ  لهم  مضيفاً (كاكائي) : إنَّ مهمة الصحفي ليست إيصال الكلمة فحسب، بل إن مساعدة الآخرين لا تقلّ عن ذلك، بل تتفوّق عليها !! 

كم أنت نبيلٌ وفارسٌ أيها الكاكائي !  وكم هي المسافة بينك، وبين (الأستاذ)؟.. كم سنةً ضوئيةً ؟ 

جاء باسل  ، وعلامات الأسى ، تحيط به من كلّ الجهات . قال: لقد استفسرتُ من سكرتير التحرير ، وهو يقول: إنَّ  الأمر بتحويلك من نظام العقد إلى نظام القطعة صدر من  (الأستاذ)، وحسب الله يحيى، لا يصرّحُ من نفسه !! 

كان تسلسلي في سجلّ ممّن أجبروا على مغادرة الجريدة، هو التاسع ، وقيل لي: أنّ المرشّح القادم هو القاص ناهي العامري، والمصمّم الفنّان أمير محمود حسن، (لكي تنّظف الجريدة): هكذا صرح أحد المسؤولين! وقد سبقني في الخروج من مملكة الخراب عدد من الزملاء العاملين منهم المصمّم باسم الشامي، وطالب الماجستير  اللغوي (حسين الجوراني)، والمصحّح (نصر عبد الستار)، ومحرّر الأخبار (علاء الدين كاظم) فضلا عن الفنان (خالد جبر) والصحفي (مجيد اللامي) اللذين فصلا فصلاً تعسفياً سافراً مع كلّ تاريخهما  الإعلامي، والصحفي، لأكثر من أربعة عقودٍ، وتمّ ابلاغهما بالهاتف النقال يوم الإثنين الموافق ٢٠١٥/٦/١م ، والذي نقل الأمر أحد الإداريين، وقد ظنّنا من الطريقة الاحتفالية التي طلب فيها  رقمي هاتفي الزميلين، أن مكرمةً من مكارم ( القائد) في الطريق إليهما ! لكنَّ الإبلاغ كان : الإستغناء عنهما، ثمَّ منحهما مكافأة قدرها مئة ألف دينارٍ تقديراً لجهودهما ! 

كانت الذريعة في البدء تقليل النفقات، ثمَّ صارت رفع مستوى الجريدة بضخِّ دماء جديدة مع أنّ استطلاعاً لأحد المراكز البحثية سنة201‪1 م أظهر إحتلال جريدة( التآخي) المرتبة الخامسة في عدد القراء بعد صحف (الزمان) ، و(المشرق) ، و(البيّنة الجديدة) ، و(الصباح)، وقد قال لنا رئيس التحرير د. بدرخان السندي في اجتماع لهيئة التحرير وقتها :أنّ السيد مسعود البارزاني عاتبني وقال: لماذا  تكون التآخي خامسةً، لمَ لا تكون الأولى؟

   استذكرت آخر لقاء مع (الأستاذ)  ، يوم ٢٠١٥/٦/٨ م حين دخلت عليه ، مع الصديق الكاتب جمال الهنداوي.، بسبب أخذ صفحته الأخيرة، وتكليف محرّرة بها، واقتراح (حسب الله يحيى) ألا تظهر الصفحة الأخيرة يومين، ووقتها سألته: إنّها صفحة أخيرة.. فهل تظهر الجريدة بلا أخيرة؟ فرد يحيى : هناك فكرة بأن تظهر صفحة داخلية مكان الأخيرة!! 

الهنداوي حاجج (الأستاذ) كثيرا ، وكان حادّاً معه، وبيّن له بكلّ شجاعة ، وجرأة ، جهله بإدارة الجريدة، وأن قراراته ليست من عنده، إنما من وحي الشيطان !! 

انتهى الإجتماع، وقرّر  (جمال الهنداوي) ترك الجريدة برغم إصرار (الأستاذ ) قولاً على بقائه، وفعلاً على رحيله! 

دارت بي الأرض دورتها بعد ترك الصديق (جمال الهنداوي) الجريدة، ورفضه العودة إليها مع بقاء سياسة الإدارة الجديدة، والأجواء نفسها. 

كانت الأيام المحصورة بين مغادرة (الهنداوي)، واجباري على ترك العمل خمسة أيام ارتفع فيها منسوب الوشاية، والجوّ الخانق، وبدا أنّ الإستمرار بهذا الوضع ضرب من المستحيل فمثلا : هناك شاب مهذّب يعمل مشغّلا لمولدة الجريدة  أخذوا يكلفونه برفع النفايات يوميّا بقصد ازعاجه، وإجباره على ترك العمل مع أنه يمارس عمله منذ عشر سنوات، واضطرّ في ما بعد إلى الإستقالة والسفر إلى تركيا، وجازف بركوب البحر ليصل إلى اليونان، وقال لي قبل سفره إلى اللاعودة :إنني لن أبقى في بلد ليس فيه تقدير لعمل المرء، ولا إخلاصه . 

لقد كان رهاني الأوّل، والأخير على الحبّ، وكنت أبشِّر بمضمون قصّة موسيقى( بحيرة البجع) للموسيقار الروسي تشايكوفسكي القائم على فكرة أنّ الحبّ ينتصر على السحر، والشر.  

فأيّ حبٍ، هذا الذي انتصر على الشرِّ المتأصل في بعض النفوس؟

(السيرة مستمرة.. شكراً لمن صبر معي.. يتبع) 

شرح صور :

١. فلك الدين كاكا ئي 

٢. خالد جبر 

٣. جمال الهنداوي ، مع الفنان المصمم أمير محمود حسن ، وكاتب السيرة ، بعد خروجي من المملكة بشهور ! 

٤. بعض الزملاء :  منهم :جمعة الجباري ، ومخلص خوشناو ، وشاخوان إدريس  سنة ٢٠٠٣ م في ساحة جريدة (التآخي). 

                            

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى