تحليل الخطاب في مقارنة  أسلوبية بين نصين نقديين (1)

ثناء حاج صالح ناقدة وشاعرة سورية / ألمانيا

من المعروف أن تحليل الخطاب الأدبي يُطبَّق غالبا كممارسة نقدية عند قراءة النصوص الشعرية. وبدرجة أقل عند قراءة السرد في أجناس أدبية عديدة كالقصة والرواية . لكن ما سنفعله اليوم هو مخالفة القاعدة وإجراء تحليل الخطاب في نصين يمثل كل منهما مقالة في النقد.

المقالة الأولى بعنوان ( من مهارات الناقد (معرفة موسيقى الشعر )) للناقد عبد الله جمعة، والمقالة الثانية بعنوان ( الإيقاع الموسيقي في قصيدة الحال ) للشاعر عمارة إبراهيم.  والهدف من قراءة أسلوبي الكاتبين وتحليل خطابهما الأدبي أن نقارن مسألة وضوح الرؤيا النقدية التي يعبر كل منهما عنها بأسلوبه اللغوي الخاص .

وما يتيح لنا فرصة إجراء المقارنة الأسلوبية هذه، هو أن هاتين المقالتين تعالجان الموضوع نفسه؛ وهو قضية العلاقة بين الإيقاع الخارجي والإحساس الشاعري عند الشاعر ومدى تلازمهما كضرورة أسلوبية لإنجاح القصيدة إبداعياً . والكاتبان متفقان على أن توفر الإيقاع  السليم لا يشفع للقصيدة الخالية من الإحساس، كي تكون محسوبة على الأعمال الإبداعية. والحقيقة أن هذا الطرح نفسه من قبل الكاتبين يدخل في صميم إجراء القراءة الأسلوبية وتحليل الخطاب . لذا فالمقالتان الناقدتان كلتاهما تعالجان موضوعا أسلوبياً .

والآن لنبدأ تحليل الخطاب بدءا من العنوان .

الأستاذ الناقد عبد الله جمعة جعل العنوان في شقين، أو تركيبين لغويين : الأول ( من مهارات الناقد ) والثاني – وقد جعله بين قوسين – هو ( معرفة موسيقى الشعر ) .

فَعَلِمْنا أنه يمارس عملا تصنيفيا وتنسيقيا إذ جعل العبارة الأولى ( من مهارات الناقد ) ذات مضمون تعميمي، يقصد به الإشارة إلى وجود العديد من المهارات التي يتمتع بها الناقد، أو يجدر به أن يتمتع بها. وكأنه يضع عنواناً عاماً لأحد الأبواب في كتاب نقدي ستندرج تحته عناوين جانبية عديدة ومنها هذه المهارة (معرفة موسيقى الشعر ) وهي العبارة الثانية ذات المضمون المتخصص .

هذا الأسلوب التصنيفي التقسيمي في العنوان يشير إلى مهنة الكاتب وحرفته في التأليف. كما يدل مبدئيا على سعة معرفته وخبرته في الموضوع الذي يتحدث عنه؛ وذلك لأن تقسيم العنوان يوحي إلينا بأن الكاتب يعرف في الحقيقة أكثر مما يمكننا قراءته في هذا المقال؛ كونه سيقصر حديثه على واحدة فقط من مهارات الناقد العديدة التي يعرفها. وهذا يُشعرنا بمزيد من الثقة بآراء الكاتب وخبرته حتى قبل البدء بقراءة مقالته.

وفي المقابل تلفت انتباهنا في عنوان المقالة الثانية للشاعر عمارة إبراهيم (الإيقاع الموسيقي في قصيدة الحال) تسمية جديدة غريبة  لم يسبق لنا أن قرأنا عنها في تصنيف الشعر ونقده، وهي تسميته للقصيدة بـ ( قصيدة الحال ) ، فما هي قصيدة الحال ؟ ومن أين جاء هذا المصطلح ؟ وما الذي يقصده الكاتب بالضبط من هذه التسمية ؟

هل( قصيدة الحال) مصطلح جديد يطلقه الكاتب ولأول مرة على  ما يسمى بـ (قصيدة النثر ) كونها هي القصيدة التي ما تزال غير قادرة على التعبير عن هويتها من خلال اسمها ؟

إذا كان الأمر كذلك فهذا يصطدم مع القاعدة التي اعتمدها النقاد في تسمية أجناس القصيدة والتي ترتكز إلى نوع الإيقاع الخارجي الذي يلتزمه الشاعر في قصيدته . فليس ثمة سوى القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة وما يسمى بـ ( قصيدة النثر ) والتي يكون  نصها خالياً تماما من الإيقاع الخارجي ، سواء منه الخليلي أو التفعليي .

أإن عبارة ( قصيدة الحال ) في العنوان ليست سوى مفهوم مجازي ضبابي هو أقرب إلى لغة الشعر العائمة الحالمة منه إلى لغة النقد التي ينبغي لها أن تكون دقيقة في استخدام التسميات والمصطلحات ؟

لا شك أن الناقد الأدبي وخاصة ناقد الشعر يستطيع استخدام اللغة الشعرية المجازية في قراءته لقصيدة ما ، فتتوازى لغته مع لغة النص الشاعرية وتتماهى معها لتنتج نصاً لقراءة نقدية أدبية هي في أسلوبها الفني تنتمي للنقد بوصفه فنا وليس علما. لكن هذا يبقى متاحا للناقد فقط عندما يقدم نصه كقراءة لنص قصيدة محددة على وجه الخصوص. وليس عندما يقدم آراءه النقدية في مقالة تبحث في قضية عامة من قضايا النقد . ففي هذه الحالة ينبغي عليه أن يلتزم الأسلوب العلمي في صياغة أفكاره وكتابة آرائه النقدية،  مستخدما المصطلحات نفسها والتسميات النقدية المتفق عليها. وذلك لأن وضوح المفاهيم التي يناقشها الناقد إنما هي جزء أساسي من وضوح رؤيته النقدية . فإذا كان يتكلم عن مفهوم ضبابي غائم غير محدد مثل (قصيدة الحال ) فلن يستطيع القارئ فهم قصده ولا تبيُّن رأيه . وكيف يحدث هذا في علم النقد الذي ما جاء إلا ليبين المفاهيم والعلائق ويشرحها ويفسرها ؟

إن هذا التناقض بين أهم وظائف النقد ( التبيين والإيضاح ) والتسميات غير المفهومة ، وخاصة عندما يأتي في العنوان ، يُفقِد القارئ ثقته بما سيقرؤه قبل أن يبدأ بقراءته . ويجعله يشكك في فهم الكاتب نفسه لما يقول .

الأمر الثاني هو عبارة ( الإيقاع الموسيقي ) وقد بدأنا بتحليل الخطاب من تسمية (قصيدة الحال) كونها أشد لفتا للانتباه. لكننا لا نستطيع تجاوز عبارة ( الإيقاع الموسيقي ) في العنوان أيضا . وذلك لأن وصف الإيقاع بأنه موسيقي لا يضيف شيئا عندما يكون المقصود به إيقاع الشعر، إذ أن الإيقاع لا يمكن إلا أن يكون موسيقيا لأن الإيقاع هو الموسيقى نفسها . هذا إذا اقتصر كلامنا على الشعر . أما إذا أردنا المقارنة بين إيقاع الشعر وإيقاع الآلات الموسيقية فيمكننا عند ذلك وصف الإيقاع بأنه (موسيقي) تمييزا لإيقاع الآلات الموسيقية عن إيقاع الكلام في الشعر. والكاتب ليس محتاجا لهذا التمييز لأنه يتحدث عن الإيقاع في القصيدة فقط.

ثم إننا ندخل إلى مقدمة المقالة عند الشاعر عمارة إبراهيم فنقرأ من الكلام ما لا يمكننا الوقوف على المعنى المقصود منه ، ولا إدراك دلالاته المعنوية بأي حال ومهما بذلنا من جهد. وذلك لأنه يخترع الكثير من التسميات ويتحدث عنها وكأنها مصطلحات نقدية ، وما هي في الحقيقة سوى تراكيب لغوية خاوية من المعنى أو ذات إيحاءات مشتتة للذهن ، ولا يمكن تمريرها وفهمها .يقول في مقدمته :

” الايقاع الموسيقى  من ضروراته، الإيقاع الانتخابي لأفعال الحال وحواسه من واقع حركية الأفعال وتعدد دلالاتها المنتجة .لهذا أطلقت علي القصيدة الخليلية موسيقي اﻹيقاع الحسابي.”

ما هو الإيقاع الانتخابي لأفعال الحال ؟ ما تعريفه ؟ وكيف يمكننا فهمه ؟  وما هي أفعال الحال ؟ وكيف نفهم معنى( أفعال الحواس) تحت عنوان الإيقاع الانتخابي ؟  

وما معنى ( واقع حركية الأفعال ) ؟ وما معنى الدلالات المنتجة للأفعال ؟ وإذا كانت الدلالات المنتجة للأفعال متعددة فلماذا لم يعددها الشاعر لعلنا نفهم شيئا مما نقرؤه. ولماذا يكون الإيقاع الانتخابي (الذي لم يشرح لنا الشاعر قصده منه ) ضرورة من ضرورات الإيقاع الموسيقي ؟ ثم ما هي ضرورات الإيقاع الموسيقي ؟

وفي ختام المقدمة يصل الشاعر إلى نتيجة محددة بناء على ما تقدم  فيقول ( لهذا ):

“لهذا أطلقت علي القصيدة الخليلية موسيقي اﻹيقاع الحسابي.”

وهذه ال ( لهذا ) تعني وجود مقدمات منطقية محددة  تؤدي إلى استنتاجات منطقية محددة ،  ونحن كقراء نريد أن نعرف بالضبط  ما هي المقدمات المنطقية التي قادت إلى تلك النتائج .ألا يجب على تلك المقدمات التي يعبر عنها في قوله ( لهذا ) أن تكون موجودة وواضحة ومحددة ومفهومة ؟  ثم ما المقصود بـ (موسيقى الإيقاع الحسابي ) ؟ 

لا شك أننا كقراء قد شعرنا بضياع المفاهيم وضبابيتها وغرقها في لغة تعبيرية غير ناضجة وغير واضحة الدلالات . مما أفقدنا الثقة بكلام كاتب المقال كونه لا يبدي أي مسؤولية تجاه ( المصطلحات ) الكثيرة التي يطلقها جزافا . وكأنه يستسهل الأمر . وهو ما يشعر القارئ في الوقت نفسه بأن كاتب المقال لم يحترم عقله وثقافته . وكأن القارئ غر تنطلي عليه عملية التلاعب بالألفاظ  واستيراد مصطلحات وهمية مهتزة المعنى ، ظنا منه أنها توحي بسعة إطلاع الكاتب كونه يأتي للقارئ بما لا يعرفه من المصطلحات فيثير استغرابه ودهشته،  في حين أن إطلاق هذه المصطلحات العجيبة إنما يدل في الحقيقة على بعد الكاتب عن ثقافه النقد وعدم إحاطته بمصطلحاته الحقيقية . 

ثم إنه يوهم القارئ بأنه قد عبَر في مقدمته عن أفكار ومفاهيم محددة ذات حظ من المنطق تؤهله لأن يبني عليه استنتاجات منطقية . في حين أنه خرج من مأزق ضبابية الألفاظ ليقع في ضبابية وعقم الاستنتاج.

وبالمقابل سنعود إلى مقدمة الناقد عبد الله جمعة والتي يقول فيها :

” ليس المقصود بمعرفة الشاعر موسيقى الشعر مجرد إلمامه ببحور الشعر العربي ، وكيفية تسيير ضوابطها فما استُعمِلَت بحور الشعر العربي لمجرد ضبط الكلمات عليها ، فيُحسَب نجاح الشاعر في الخطو بكلماته فوق متحركاتها وسواكنها ، وإلا لهان الأمر وعددنا كل وزَّان شاعرا” .

ونلاحظ من هذه المقدمة مدى رصانة الفكرة وقوتها على الرغم من أن الناقد قد اتبع أسلوباً أدبيا بلاغيا جماليا وهو يشبه الشاعر عند ممارسة عملية ضبطه لأوزان الكلام  (بالخطو فوق متحركاتها وسواكنها ). ففكرة المقدمة ناصعة واضحة وتأتي في مكانها لتؤدي وظيفة التمهيد لمحتوى المقالة ، من خلال تلخيضها موضوع المقالة بوضوح . كما أن الاستنتاج الذي قدَّمه في نهاية المقدمة منطقي جدا وينتج عن مقدمة منطقية جدا .

المقدمة: لو كانت موسيقى الشعر هي تطبيق أوزان الخليل فقط ،

النتيجة : سيكون كل ( وزَّان ) أي كل من ضبط الوزن ، شاعرا.

إذن يفهم القارئ أن المسألة ليست بهذه البساطة  ومعنى (معرفة موسيقى الشعر) يتجاوز معرفة تطبيق الأوزان .

كلام رصين مسؤول واضح مفهوم يفتح أفق القارئ ويعده لما سيأتي بعده من فقرات المقال .

يتبع بإذن الله

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى