الشاعر مؤمن سمير وتجليات الاغتراب بين ديوانَيْن
خالد محمد الصاوي | ناقد مصري
مازال الشعراء يعانون من الاغتراب والإحساس بوطأة الوجود فأخذ بعضهم يصرخ لإعلان رفض الواقع ، وبعضهم يهيم في عمق الإنسانية ويشتبك مع وحدات الوجود الصغيرة والهامشية ليبث من خلالها تعبيره عن خوفه وأزماته..
وعندما نتعامل مع أعمال مؤمن سمير نجد ذاته دائماً محور كتاباته ، هذا الذات القريبة التي ربما لا يدرك غيرها وكل العالم ما هو إلا صور لأحباء أو لأعداء في الغالب ، وكأنه يرى الوجود من خلال ذاته ليعاين منها حالة الاغتراب الداخلي والعزلة ، وما تمر به الذات من أحداث قد تبدو صغيرة وتفصيلية ، لكنه ينفخ فيها من روحه ومن عذاباته اليومية ، لتتشكل وتحيا وتظهر للعلن .. فنجده يعلن عن ذاته بوضوح في إهداء ديوانه “غاية النشوة “ – الصادر عن مكتبة الأسرة عام 2003 – فيقول :
” إلى مؤمن
درع حقيقي
من دروع العزلة .. “
فهو يعترف بامتلاكه وجوداً حميماً هو ذاته ، وأنه يملك درعاً وغطاءً هو هذه الذات ، ولكن الدرع ليس للاحتماء من سيوف الأعداء أو حماية من صروف الأحداث بل هو درع للعزلة يحمي بها وحدته وخوفه من دخول الآخر أياً كان .. إن أمانه يكمن فقط في احتضانه لنفسه وفي التعاطي مع العالم الرعب كل الرعب .. وفي قصيدة “هكذا..” يتحدث عن طائر له خبرات تعلمها من قصص الأولين ولكنه يقع ببساطة فريسة لأنياب ثعبان كأنه القدر الذي يتقبله بهدوء المساق إلى المقصلة فيقول :
” نسي بغبائه الطيب الجميل
أن يطلب مني ألا أشفق عليه
كي لا أشيد نصبا تذكارياً رمزياً
مكان الحادث التاريخي ..”
وفي قصيدته ” .. يا نافذتي وتضحكين ” تتلبس الذات شخصية بائع الروبابكيا القديم رغم حداثة سنه ، وهذا تعبير يجمع بين المأساة و السخرية .. يقول :
” بائع الروبابكيا شاب صغير .
يصر كلما يدق رأسه النوم أن ينام في العربة
بائع الروبابيكيا شاب صغير
لم يطلع في قلبه شَعر أبيض
بائع الروبابيكيا قديم جداً جداً جداً “
وفي نفس الديوان نجد الذات الشاعرة تُلمح إلى البون الشاسع بين ما تعيشه في مجتمعها ، وبين ما يعيشه الإنسان في المجتمعات المتقدمة ، ويبرز كيفية تعاطي الآخر المتقدم مع فكرة التسول وربطها بالجمال والموسيقي فيقول في قصيدته ” مثل رائحة النغمة في العيون ” :
” كونك أوربيا أو أمريكيا
هو الوضع الوحيد الذي يمكنك
من مشاهدة الموسيقيِّ الأعمى
وقد لبس نظارة سوداء .. “
وفي قصيدته “جمرات ” تبين لنا الذات الشاعرة أنها ليست وحدها التي تعاني ؛ فكثير من البشر يعانون ما تعاني ، والإحساس بالغربة والانكفاء على الذات والرتابة التي نعيشها هي أحوال الحياة ، فيقول :
” لكن الهواء
بعد أن تعب من اللف حولنا
سينتبه إلى أن الرجال دخلوا
ذواتهم سريعاً
وأن الغريب يبكي
وأن النار أصبحت عجوزاً
فيغني : ليلة جديدة لم يحدث فيها جديد ..”
ونلاحظ أن الذات الشاعرة تعود إلى لفت النظر لفكرة أنها قد تجد في البلاد الأخرى حياة تختلف عما تعيشه ، حياة قد يجد الإنسان فيها نفسه المتحققة فيقول في نفس القصيدة :
” لأنقذها وأطلقها على بلد أخرى
لا القمر فيها شاحب
ولا يترك ظله فيها غريب ..”
والذات التي تشعر بالضياع ، تعود إلى المجاز لتثبت لنا مدى المعاناة التي تعيشها في الواقع المتأزم فيقول في نفس القصيدة :
” الأفكار والأحلام وأيامك الرومانتيكية
والحرب والسفر والبحر
تنصهر وتصير دماً مفروماً..”
فمؤمن سمير شاعر ” موجوع من فرط الطعن .. وربما لأن حياته قصيدة سريالية ، تحتاج من يؤمن بها ويسامرها ليكتشف نزيفها ” هكذا تحدث أحمد الشهاوي في مقدمة ديوان “يُطِلُّ على الحَوَاس” – الصادر عن دارأخبار اليوم عام 2010- لنفس الشاعر الذي يحاول التأكيد في قصيدته ” بوق كل ساعتين ” على أن الآخر جحيم فيقول :
” وهكذا يشيلونا من راقص لآخر وينسونا كأننا هواء ضغطوه في العمق ..”
وفي قصيدة ” الفائز باللذة ” تُظهر الذات الشاعرة مدى الضعف الذي ورثناه ونعيش فيه ، وحالة الارتباك والخوف والرعشة التي نواجه بها مصائرنا ، وكأن هذا المقطع يستجمع في طياته كل حالات المرض المتنوعة في جسد محموم واحد فيقول :
” بكل ثقةٍ دخلتُ
الريح تدفعني بنزقها التاريخي
وتحت إبطي طريقان من القش والخيول
والارتباك الممزوج بالخشية الدفينة
والتفاؤل المرتعش ..”
ثم يردف ذلك بذكر الوحدة ، وذكر تاريخ قدسناه كوثن فيقول في نفس القصيدة :
” أوقات الوحدة عالية النبرة
والجد الصامت كإله وثني ..”
وفي قصيدته ” صاحب اللحظة المقطرة ” تستعير الذات حيوات الطيور والأسماك ، وتشتري الخرائط لتعيد التشكيل والخلق .. يقول :
” من أعماق همسنا المحبوس في المرآة
يبني الطيور والأسماك ويشتري الخرائط ..”
وكخط في الكتابة قد لاحظناه في ديوانه السابق وهو فضح الألم الشخصي من خلال التماهي مع ما هو خارج الذات وذلك من خلال سرد شعري يوجِد تشابهاً بينه وبين أعماق نفسه ، وبينه وبين الآخرين الذين تتضافر مع مآسيهم الخاصة وفيها ، صورة واقعه المأزوم ، يقول في قصيدته ” بائعة الابتسامات ” :
” إنهما اللتان تصادقان الظل الصدئ دائماً
الغبار دائماً
تعود أن يحضنهم دائما ”
وحالة الاغتراب جلية في قصيدة ” بنت المرات الأولى ” حيث تعيش البطلة مع ذاكرتها وحدها ولن تصدق أو تصادق إلا ذاكرتها .. يقول :
” لقد رسمتهُ في ذاكرتها
ذاكرتها صديقتها الوحيدة ..”
كما تتضح تلك الحالة في قصيدة ” صديقة اللعنة ” :
” القريبون تركوها
وهي التي تطل عليهم
من وراء الأيام
وتساوم النهار على عاداته
وتقلبها كواكب تنير قبلاتها
للمارة وللنهر..”
كذلك الذي في نهاية المطاف لن يحصل إلا على إشارة للماضي لن تغير من واقعه شيئاً فيقول في قصيدته ” إنسان النور ” :
” لن أحوز إلا ميدالية
يهتم الأولاد بتلميعها بين الحين والحين .
هكذا ستنتهي حياتي
بعد أن انتصرت نهائيا
على أشباح الدخان
ودربت جسدي على ابتلاعها
وبعد أن صارت لي لغة العارفين
وأنا أتجلى في المقهى “
ونلهث وراء حالة القلق التي تفرضها كتابة مؤمن سمير مع وضع أسئلة لإشكاليات العالم الكبرى في استخدام لغوي يتسم بالحيوية والحركة ، تتقاطعه مجازات جديدة ومشهدية ، تسير كلها مع أحداث تحت مظلة من السرد الشعري يكون فيه هو الراوي دائماً ، لينقل لنا الواقع من خلال عينيه التي تتلمس مناطق خاصة ، وتلقي عليها عدسته لكي نعيش معه هذه الحالة من البوح حيناً والهذيان والعبث أحياناً أخرى ويُطَعِّم ذلك بالسخرية المُرَّة دائماً.