أثر الاستغفار في فتح الأقفال وصلاح الحال
دكتور | عادل المراغي من علماء الأزهر الشريف
مما لاشك فيه أن الإنسان منذ أن وجد علي هذه البسيطة وهو في صراع مع قوى الشر من شياطين الإنس والجن تارة ومن نفسه وهواه تارة أخري ،فكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ،لذلك جعل الله الإستغفار علاجا ناجعا للذنوب والمعاصي، والخطايا ،فالاعتراف يمحو أثر الاقتراف .
ومن الأمور المحسوسة والملموسة أن الذنوب والمعاصي تضرم نيران الهم في القلب وتشغل نيران الضيق في الصدر ،فكلما كثرت الذنوب اشتعلت نيران الإكتئاب وهاجرت السعادة من حياة الناس قال ابن عباس رضي الله عنها: (إن للسيئة سوادًا في الوجه وظلمة في القلب ووهنًا في البدن ونقصًا في الرزق وبغضة في قلوب الخلق)
ويقول مالك بن دينار: ( إذا رأيت قساوةً في قلبك وضيقا في صدرك ووَهنًا في بدنِك, وحِرمانًا في رزقِك؛ فاعلم أنك تكلمت بما لا يعنيك).
والإنسان يحتاج إلي الإستغفار أكثر من حاجته إلى الطعام والشراب ،لأنه بدون إستغفار يموت القلب وبدون طعام وشراب يموت البدن ،وشتان بين موت القلب وموت البدن.
ولله در ابن تيمة حيث يقول عن أثر الاستغفار في فتح الأقفال وحمل الأثقال (إن المسألة لتغلق عليّ، فاستغفر الله ألف مرة أو أكثر أو أقل، فيفتحها الله علي وإن من أسباب راحة البال استغفار ذي الجلال ).
ومن الأمور المجربة أنثلاثة أمور من لزمها وحافظ عليها رزقه الله من حيث لا يحتسب، وسهّل أمره، وشرح صدره، وأذهب همه وغمه، وقضي دينه: الصلوات الخمس في أوقاتها، وبر الوالدين ،وكثرة الاستغفار،
وقد دلّت نصوص الكتاب والسُّنّة على ذلك.يقول أحد الصالحين : (لا تفكر كثيراً، بل استغفر كثيرا، فالله يفتح بالإستغفار أبواباً لا تُفتح بالتفكير).
سيفتح الله بابا كنت تحسبه..
من شدة اليأس لم يخلق بمفتاح..
وقيل لأعرابيّ : كيف أنتَ و دينك؟
فقال : تمزّقه المعاصي، وأرقّعه بالاستغفار!
فالمؤمن قد يخطئ لكن عليه إذا أخطأ أن يثوب إلى رشده، وإذا زلت قدمه فكبا أن ينهض من كبوته، وأن يزيح ما علق به من إثم، ثمّ يستأنف طريقه إلى غايته المنشودة، لهذا يلتمس الله للمخطىء عذراً على خطيئته ويحرضه على طلب المغفرة المؤدي إلى محاسبة النفس ومراقبة الله التي تحيي موات الضمير.
وكفارة الخطيئة في الإسلام لا تحتاج إلى اعتراف لرجال الدين، كما أنّ الخطيئة لا تبقى معلقة على رأس الفرد لا مخلص منها ولا فرار.
فباستطاعة أي إنسان في الإسلام أن يتوجه إلى ربه مباشرة، نادماً طالباً المغفرة ليفتح الله بابه ويمنحه رحمته وعفوه. قال الله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) (النساء/ 110).
ويذكر الله صفات المؤمنين الذين يستحقون مغفرته بقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) (آل عمران/ 135-136).
والمغفرة يمنحها الله لكل من تاب وأناب إليه مهما اقترف من آثام: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزّمر/ 53).
وقد قيل أنّه ما في القرآن أعظم فرجاً لنفسية المؤمن من هذه الآية لأنّها تفتح باب الرجاء على مصراعيه.
والإسلام يجعل فرصة التطهر والتخلص من الآثام ممزوجة بالتزوّد من الخير، فيجعل عمل الخير تكفيراً للإثم، وفي ذلك ما فيه من الحث على عمل الخير، قال الله تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) (هود/ 114).
ويقول الله تعالى إنّ الحسنات تؤدي إلى المغفرة: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التوبة/ 102).
ويقول رسول الله- صلي الله عليه وسلم- في هذا المعنى: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) رواه البخاري؛ فإيمان الإنسان بأنّ الله يغفر الذنوب جميعاً.. وأنّه إذا استغفره غفر له، من ضمن وسائل العلاج النفسي المستحدثة التي لم يستعن بها الطب إلا في العصر الحديث.
فقد قرر علماء النفس – وعلى رأسهم (فرويد) مؤسس مدرسة التحليل النفسي أنّ كافة الأمراض النفسية ترجح إلى الكبت الذي يسبب عقداً نفسية لا شفاء منها إلّا بما يسمونه التحليل النفسي الذي يتم بأن يجلس الإنسان في عيادة الطبيب النفساني ويعترف أمامه بأخطائه… وهذا الإعتراف يقول عنه الأطباء انّه صفة منطقية نفسية سلوكية تكشف عن أخطاء المريض فيراها ويشعر بها، فتحدث مهادنة بين النفس والضمير… فيسامح الضمير… وإذا ما تسامح الضمير واستشعر الإنسان العفو منه والصفاء بينه وبين النفس… زالت العقدة النفسية ، التي لا تعد وهماً…
فكثيراً ما تسبب هذه العقد الصداع واضطرابات القلب وأمراض الضغط العالي وغيرها من الأمراض… وإذا كان علاجها هو الاعتراف بالخطأ أمام الطبيب ليتسامح الضمير… فأي فرق بين الاعتراف أمام الله وأمام الطبيب، وأي فرق بين غفران الله وتسامح الضمير”.ونظرية الاعتراف بالذنب أمام الله هي نظرية قرآنية لها آثارها المفيدة في النفس الإنسانية.
فالقرآن ذكر مثالاً عن الاعتراف بالظلم بما صدر عن النبيّ (ذي النون) وكان فائدة هذا الاعتراف النجاة من الحزن والكرب وهو في جوف الحوت: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ •فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الأنبياء/ 87-88).
انظر إلى قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) فهو إيحاء قوي للمؤمنين للأخذ بهذا الهدي الذي فيه النجاة لهم مما يشعرون به من الحرج والضيق من جراء تبكيت الضمير عند اقتراف الظلم والذنوب.
هذا ما يحمله هذا الاعتراف من النفحات الإلهية التي ترفع عن الإنسان الكوارث والآفات الطارئة.
كما أنّ القرآن ضرب مثلاً آخر عن الاعتراف بالذنب بما صدر عن آدم وحواء عند مخالفتهما أمر الله بما جعله الله أمثولة للمؤمنين إذ قالا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف/ 23).
فائدة الاستغفار: والقرآن يجعل الاستغفار من الذنب والإقلاع عنه وسيلة لنيل رحمة الله، ونيل الخيرات والعطايا في الحياة الدنيا قال الله تعالى: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) (هود/ 3).
ففي هذه الآية دلالة على أنّ المقبل على عبادة الله يبقى في الدنيا منتظم الحال مرفه البال.
ويقول سبحانه فيما جاء على لسان نبيه نوح: (يَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) (هود/ 52).
ويقول سبحانه أيضا فيما جاء على لسان نبيه نوح: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) (نوح/ 10-12).
ويخاطب الله نبيه محمّداً (ص): (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الأنفال/ 33).
كان بعض صحابة الرسول (ص) يقول بعد وفاته: كان لنا أمانان ذهب أحدهما وهو وجود الرسول بيننا وبقي الاستغفار معنا فإن ذهب هلكنا.
الاستغفار يؤدي إلى تغيرات بيوكيميائية في الجسم؛ من بينها ارتفاع معدلات هرمون السعادة، حيث يشعر الإنسان بالطمأنينة وراحة البال.
الاستغفار إذن باب من أبواب الصحة النفسية، وهو علاج حاسم يستأصل جذوراً من الشر تنمو وتتكاثف، حتى لتصير سداً يمنع منافذ الضوء، ولكي ينجح العلاج فلابد أن يؤخذ على وجهه الصحيح.
أوقات الاستغفار
أفضل وقت للإستغفار في الأسحار وهو السدس الأخير من الليل حيث يهب ريح من تحت أشجار الجنة تحمل أنين المذنبين وآهات التائبين واستغفار المستغفرين، وقد خص الله سبحانه وتعالى المستغفرين بذلك الوقت وذكرهم في القرآن الكريم، فقال عز وجل: (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ)
وقال تعالى :(وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)فالأسحار من أفضل الأوقات التي يُستجاب فيها الدعاء، قال لقمان الحكيم (ثلاثة أصوات يحبها الله تعالى صوت الديك ، وصوت الذي يقرأ القرآن ، وصوت المستغفرين بالأسحار )ومن كلام سفيان الثوري رحمه الله: (إن لله تعالى ريحا تهب بالأسحار تحمل الأذكار والاستغفار إلى الملك الجبار)
وقد أخر يعقوب الاستغفار لبنيه حتي جاء سحر ليلة الجمعة فقام مع بنيه يستغفرون فما طلع عليهم الفجر حتي غفر الله لهم ،وهذا معني قوله تعالي علي لسان يعقوب عليه السلام (قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ۖ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)لذلك يُنصح المؤمن دائماً بالدعاء لربه والاستغفار عما فعل في ذلك الوقت أكثر من غيره.
كما أن الاستغفار يصح في جميع الأوقات وفي كافة الساعات خلال اليوم، فيُمكن القيام من المجلس،وبعد الوقوع في الذنب.