نظرة في كتاب الوجه.. هكذا تكلم ريشهديشت للشاعر محمد حلمي الريشة
فراس حج محمد | فلسطين
يمارس الشاعر محمد حلمي الريشة في “كتاب الوجه- هكذا تكلم ريشهديشت” غوايتين، إحداهما: غواية ترجمة، والثانية غواية تأليفية إبداعية، تتمثل الأولى في ترجمة حرفية أو شبه حرفية لكلمة (Facebook)، لتصبح “كتاب الوجه”. إن هذه الترجمة، بهذه الكيفية، تحيل الدارس على غير معنى، وتفتح له العديد من الآفاق؛ هل فكر (مارك زوكربيرغ) عندما اخترع هذا الفضاء، الموصوف بأنه “المملكة الزرقاء” أن يتناظر الاسم مع “كتاب الوجه” في اللغة العربية مثلًا، كلغة رديفة محتملة لتحمل التسمية الجديدة لهذا الكائن الذي اكتسح البلاد والعباد؟ وما المعنى الذي كان يدور في ذهن هذا المخترع من وراء هذه التسمية، علمًا أن وراء كل تسمية فلسفة أو هدفًا يسعى إليه المخترع؟ هل فاقت شهرة هذا الموقع وشعبيته أو شعبويته كل طموحات (مارك)، ليصبح من أشهر مواقع التواصل الاجتماعي سيطرة وحضورًا واستنزافًا للوقت والجهد؟ أسئلة أخرى تتولد تباعًا نتيجة ما آل إليه هذا الفضاء الكاسح الفاضح. نعم إنه فضاء فاضح.
من هنا ربما اكتسب الوجه دلالة أبعد من كونها اجتماعية، لتغدو ذات دلالات ثقافية محمّلة بأبعاد غير نرجسية بالمعنى المطلق أو الكلاسيكي لمفهوم النرجسية، فالفيسبوك، بوصفه فضاء متاحًا للجميع، وفّر للجميع إمكانية حضوره وجهًا لوجه مع الآخرين، إن هذه المواجهة واضحة فيما آل إليه الفيسبوك، فأصبح رواده في مواجهة مشتركة متشابكة تحكمها علاقات معينة افتراضية، عمادها مجموعة من المصطلحات التي ولدت من رحم هذا الكائن الذي وُلد شاسعًا وممتدًّا.
هذا المعنى المتاح من معاني الترجمة خلّف مدونة شخصية لكل من استخدمه للتعبير عن آرائه، ولعل أكثر ما يغلب على هذه المدونة الإلكترونية أنها مدونة ذاتية جدًّا، ومتجددة كل حين، وسهلة الاستخدام، وتخلق مجتمعًا إلكترونيًّا فعلًا، إما عن طريق الإعجاب أو التعليق أو المشاركة، وإما الاكتفاء بالمرور والقراءة والملاحظة. لقد أصبح الكل مكشوفًا من الداخل، لأن ما يكتبه الفيسبوكي هو رجع لاستجابة لحظية لما يفكر فيه تلك اللحظة، إذ تكون تلك اللحظات أهم تلك اللحظات في الكشف عن الحقيقة والصدق مع الذات. إنها تحقق فعل المواجهة مع الآخرين، ليس مجازيًّا وحسب، بل وحقيقة، لتحل الافتراضية محل المجازية والحقيقية معًا لتأخذ المواجهة تجليًّا آخر بالكتابة، وتنتج ما يشبه “كتاب الوجه” لكل من هؤلاء الفيسبوكيين.
هذا ما يتصل بالترجمة وما تختزنه ربما من آفاق ثقافية وفكرية، أمّا ما يتصل بالغواية الثانية؛ غواية التأليف الإبداعي الكتابي، فإن الشاعر الريشة في هذا الكتاب سعى لجمع تدويناته الفيسبوكية، لتشكل كتاب وجهٍ، يخصه وحده، مع حرصه على أن تتوفر في تلك التدوينات الناحية الإبداعية لتحيل إلى عملية مدروسة وواعية في التكوين الأدبي المصوغ من تدوينات غلب عليها الفنية، تلك الفنية التي تقدم صاحبها بوجه حسن أدبيًّا، مع ملاحظة أن الشاعر محمد حلمي الريشة لم يعط كتابه تجنيسًا إبداعيًّا، وجعله مفتوحًا، وعوضًا عن التجنيس جعل للكتاب عنوانًا فرعيًّا هو “هكذا تكلم ريشهديشت”، وفي هذا العنوان الفرعي الذي يتقاسم المساحة مع الغلاف الذي تتوسطه صورة ظلٍّ شخصية، يحيل بلا شك إلى كتاب الفيلسوف الألماني (فردريك نيتشه) “هكذا تكلم زاردشت”. كما أنه يحيل إلى ذاته عندما نحت اسمه بطريقة زاردشت ليصبح “ريشهديشت”. هذا الكتاب الفلسفي المكون من مجموعة قصيرة من النصوص الفلسفية الذاتية لنيتشه، تقترب من مفهوم الخواطر أحيانًا، ووضع فيها تصوره للعالم، وأودع فيه لبّ أفكاره بشكل مكثف. فهل كان الشاعر الريشة في “كتاب الوجه” يكتب فلسفته الخاصة على طريقة نيتشة في كتابه الفلسفي هذا؟
إن كل كتابة هي حاملة لفلسفة الكاتب بمعنى من المعاني، ولذا فإن “كتاب الوجه” هو كتاب فلسفة شخصية لكاتبه، ويشكل أيضًا شكلًا من أشكال الكتابة الإلكترونية، بكل ملامحها وأساليبها، ولكنه يفارق هذه العلانية المفضوحة بفعل الفيسبوك، فيقرر منذ بداية الكتاب قبل الدخول إلى النصوص، وقبل التقديم الذي كتبته مريم شهاب الإدريسي قائلًا: “حين أكتب؛ لا أرى أحدًا، ولا حتى أراني/ أفقأ عيون الرقباء بقلمي، وأسد آذانهم بحبري”(ص7). إن هذا النص التأسيسي يعيده الشاعر مرة أخرى على الغلاف الأخير من الكتاب، وفي هذا التظهير دلالة لافتة للقارئ، وتوجيه له ليرى فعل الكتابة، كما يجب أن تكون، وكما يراها الشاعر في هذا الكتاب.
يتصدر الكتاب إشارة وضّح فيها الشاعر الريشة أمورًا مهمة في نوعية الكتابة على الفيسبوك وشكلها، وليس ما كتبه فقط في هذا الكتاب، فقد كتبت هذه التدوينات “خلال الفترة من (2014 إلى 2016)، وهي مرتبة بحسب التسلسل التاريخي لكتابتها، وكذلك بشكل كتابتها”(ص18)، وهي أيضًا، كما قال في الإشارة ذاتها، مختلفة بأنواعها وتصنيفاتها الأدبية، إذن سيجد القارئ في هذا الكتاب النصوص الشعرية والشذرات الفكرية والنصوص النثرية الأدبية، ويعبّر فيها عن الأفكار بشكل مكثف كما عنت له أول مرة، استجابة لمربع الفيسبوك الذي يواجه الكاتب دائمًا بسؤال: بم تفكر؟ وكأنه مربع جائع لأي جملة تلقى بين حدوده الأربعة، وسيجد القارئ هذه الاستجابة من الشاعر إما ضمنًا وإما صراحة: “لا شيء يحضرني/ سوى/ وجع الحضور!”(ص19).
إن هذا النص المكثف يحيل في أغلب الظن على ذلك الإلحاح التقني المصاحب لسؤال مربع الفيسبوك: بم تفكر؟ أو كما ترجمه الشاعر في الجواب: “لا شيء يحضرني سوى وجع الحضور!”، بل إن الشاعر منذ البداية يقدم وجهه في النص الثالث من الكتاب: “كلما ملت إلى جدار ما…ل الجدار، ووجدتني منتصبًا!”. هل قصد الشاعر بالجدار، هذا الجدار الإلكتروني، جدار الفيسبوك؟ إضافة إلى ذلك فإنه وإن مال الجدار فإنه هو نفسه سيظل منتصبًا. هذا الانتصاب الذي يؤشّر نحو التماسك والقوة وتقديم النفس قوية غير آيلة للسقوط كما تسقط الجدران الأخرى بالآخرين. إنه حامل لفكرة ما، وفلسفة ما، وهو يمارس فعل الكتابة، ليقدم وجهه في كتابه على أحسن وجه، معرّضًا بجدران الآخرين الإلكترونية التي مالت بهم، وقدمتهم بصورة غير حسنة، وربما غير لائقة.
يوضح الشاعر الريشة وجهة نظره في عملية الإبداع بشكل عام وعوامل تحققه، فهو أي الإبداع: “عمل فردي، والعزلة الإرادية ضرورة لإتقانه، الجمال هو الإتقان”(ص93)، لذا يسيطر على الشاعر محمد حلمي الريشة في هذا الكتاب وجهة نظره في الكتابة، وخاصة الكتابة الشعرية؛ فيرى أن “الفيسبوك” ليس موقعًا للتواصل الثقافي، بل هو كما يطلب من القارئ أن يركز على الاسم “وسائل التواصل الاجتماعي”، ويرى أن هذه الوسائل خطرة على الشعر، فهي “تشنق الشعر في عنق الشاعر” (ص98)، لذلك ليست صالحة لأن تكون منتجة للشعر، وكأنه يقدم وجهة نظره في ذلك الجدل الدائر الذي استهدف ظاهرة شعراء الفيسبوك، أو قصيدة الفيسبوك، وأصبحت شائعة، ولافتة للنظر، وقد خصصت لها مجلات وجرائد عدة محاور لمناقشتها وتفكيك هذه الظاهرة، ومآلاتها، وما أحدثته من تشوّه في بنية القصيدة المعاصرة، وكان لي فيها قول بسطته بشيء من التفصيل في كتابي “بلاغة الصنعة الشعرية”(يُنظر الكتاب ص441-443).
إن وجهة نظر الشاعر الريشة في هذا النوع من الشعر متّسقة مع ما يتطلبه الفيسبوك من خضوع الشاعر للحظة الكتابة، وفطريتها، تلك اللحظة التي لا تنتج قصيدة جيدة في رأي الشاعر. فهذه المواجهة المتاحة مع الكتابة والنشر كل حين وبسهولة كبيرة على الفيسبوك تقضي على أهم عامل من عوامل الإبداع الشعري الذي يلزمه التأمل والتأنق والتأني والتبصر، إذ “لا تغفر القصيدة زلات شاعرها!”(ص101)، وعليه فإن “القصيدة ليست أن تكتبها، ومن فورها تطلقها إلى فضاء النشر! إنها بحاجة ماسّة، أولًا، إلى تهدئتها؛ كما لو أنها طفلة تصرخ لحظة ولادتها!”(ص94).
ولا تخلو النصوص، أيضًا، من لمحات نقدية سريعة لاذعة، تمس الشعراء والشعر، تومئ ولا تشرح، وليس معنيًا الشاعر بأن يشرح بل على العكس، هو يعبر عن ذاته على محمل إلكتروني، في فضاء مفتوح للجميع ليقدم مستخلصاته الفكرية، فعندما يقرر أنه “لم يزل كثير من (الشعراء) لا يميزون بين النص النثري السردي والقصيدة بالنثر!”، يختار أن يكتب ما يعتقده، وليس عليه أن يقنع القارئ، بل إنه ربما يدفع القارئ لأن يبحث ويختبر ويقرر، فإما أن يوافق بعد تجربة وإما أن يعارض.
وبما يتصل بالإبداع الشعري، يجيب الشاعر الريشة عن سؤال طالما واجه الشاعر المترجم، أيّ مترجم شاعر، وليس الشاعر الريشة وحده، وهو ناشئ في الأصل من مسألة صعوبة ترجمة الشعر واستحالته أحيانًا، فهل النص المترجم هو نص الشاعر الأصلي، فالشعر ليس فكرة فقط، بل هو إيقاع وكلمات مركبة بطريقة مخصوصة في جمل تحمل معنى إضافيًّا غير لفظي، مدرك في سياق اللغة والثقافة الأصلية للقصيدة. من هنا يُتّهم الشعراء المترجمون أنهم يعيدون كتابة القصيدة، كأن النص الجديد هو قصيدة للمترجم وليس للشاعر الأول، لذلك فالقارئ أمام نصين مختلفين، واحد للشاعر الأول والثاني للشاعر المترجم، وإن اشتركا في التعبير عن الفكرة بدرجة غير متطابقة أيضًا. فالشاعر الريشة بوصفه شاعرًا ومترجمًا لا يخدع القارئ، ويقول له مباشرة: “حين أترجم قصيدة، تشعرني أني كاتبها؛ حين تتجلى لي بحروف اللغة العربية!”(ص86).
إن اجتراح الفلسفة أو محاولة كتابة “الشذرة الفلسفية” في هذا الكتاب جعلت الشاعر الريشة ينحو منحى اليقين في الكتابة، هذا اليقين الذي سيترسخ أكثر وأكثر في كتابه الشعري الأخير “منثور فلفل على تويج وردة – هايكو عربي”. فالكتاب يقدم شاعره بوصفه معلمًا “شعريًّا”، وليس شاعرًا باحثًا عن الشعر، لأن الكتابة هنا على ما يبدو لي ليست البحث عن أسئلة الكتابة المقلقة وإنما، كما فعل نيتشة، يقدم عصارة أفكاره في تدوينات سريعة، قد لا يجد القارئ بينها رابطًا منطقيًّا لتشكل فكرة واحدة متصلة، بل إنها تقدم شيئًا عن كل شيء مستخلصًا من الخبرة الذاتية لكاتبه، من أجل ذلك في اعتقادي جاءت النصوص عارية مباشرة واضحة، وإن لجأت أحيانًا إلى اللعب بالألفاظ الذي يقصده الشاعر، ولا يترك مجالًا إلا واستخدمه، ليوفر للقارئ فرصة قراءة نص جديد يحمل أسلوب الشاعر، هذا الأسلوب الذي تجده في كتبه الأخرى، لاسيما كتابه “قلب العقرب- سيرة شعر”.
ربما لم تسلم هذه النصوص من نزعة نرجسية، كما أسلفت أعلاه، محملة بدهشة ذاتية مُعبَّر عنها بعلامة التعجب في نهاية كل نص من نصوص “كتاب الوجه”، لكنها نرجسية غير نافرة، إذا ما أدرك الدارس أن الكتابة كما قال الشاعر الريشة ذاته هي أنه يكتب لذاته أولًا وليس للقارئ فقط، وهذا الذي يدعوه للكتابة باستمرار، أضف إلى أن ظروف الكتابة على الفيسبوك هي للتعبير عن الذات والإعلان عن الذات بأحسن وجه، لتكون كتابًا يعود إليه كل من أراد معرفة الكاتب على حقيقته، ويقرأ أفكاره في موضوعات متعددة.
وعطفًا على بدء، هل تنتج كل كتابة إلكترونية، وفيسبوكية على وجه التحديد، نصًّا ضعيفًا، كما قد يتبادر إلى الذهن؟ أظن أن الشاعر الدكتور محمد حلمي الريشة في هذا الكتاب يجيب على هذا السؤال إبداعيًّا بنصوص، لها نصيبها الكبير من الإبداعية والفنية، وإن أصاب بعضها شيء من التقريرية، ودخلت في سجال غير معلن عنه بصراحة للرد على خصوم الشاعر المحتملين أو الحقيقيين، ولكنها خصومة محسوبة، ولم تنزلق إلى الشعبوية والردح الذي يفقد الكاتب أسلوبه، ويشوّش عليه صورته الناصعة البياض، تلك الصورة، الوجه، الباقي منه بعد رحليه، في كتاب الوجه، كدليل لغوي ملموس على أن الشاعر باق بشعره، وبلغته، فالشعر كما يرى الشاعر الريشة “يمنحنا ضعف الحياة، ويمحو من الموت نصفه!”(ص101). هذا النصف المتعلق بخلود الشاعر بشعره، فهو إن مات لن يأخذ الشعر معه ويروح، كما يقال عن الشخص السيئ إن مات، وفي هذا مقاربة لطيفة في الفرق بين موت وموت، وشتان شتان ما بين موتين، أحدهما يخلّف راحة لمن بعده، والآخر يفتح بابًا لخلود صاحبه ليحيا كل يوم.