العقل الجمعي والضمير العام
محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري
يظن البعض أنه حر باعتبار هذه المساحة (العقلية) المترامية التي يمور فيها عقله ويدور، أومن خلال هذا الوعي المنطلق ــ حسب ظنه ــ الذي يجوب به مشارق الأرض ومغاربها، يعتقد ويفكر وينتقي ويختار.. ولكن ليس كل ما نعتقده صحيح، وقد نحيا زمنا في إطار فكرة أو معتقد وهما أشبه ما يكون بالقناعة، إما أتى من عالم المجهول(كبعض الموروثات التاريخية عديمة الأصل) ، أو أريد لنا أن نعتقده ونحيا به هذا الزمن؛وإن عقولناغالبالأسارى طوائف وموجات من المعلومات والآفكار المتراكمة مع مرور العمر؛ قد أتى البعض منها إلينا عفوا، وأملي الكثير منها علينا إملاء..
فحريتنا النفسية والعقلية ليست تشبه حرية الطير في السماء، أو الأحياء في البحار والأنهار، إنما هي حرية مخطط لها على الأقل وفق خطوط عريضة، وأفكار كلية، ثم يترك لنا ممارسة الجزئيات داخل هذه الصندوق أو العلب المغلقة .. كل حسب ما يتراءى لظنه.
وهناك ما يسمى ب “سيكلوجية الجماهير”، و”صناعة الرأي العام”، و” سياسة القطيع”، “والعقل الجمعي”، و”علم نفس الجماهير”، ” القطيع الحائر”، و”البروباجندا” .. كل هذه دراسات وبرامج ونظم وكتابات أعدت لتشكيل هذا الوعي الجماهيري، وصناعته على وفق ما تقتضي الحاجة والساسة، وما يراه المتلاعبون بالعقول حسب ما يسميهم (هربرت شيلر)، وعلى حسب ما يريد المؤدلجون توجيه دفة السلوك العام تجاه معتقد، أو شخص، أو حدث، أو فكرة.. ومن خلال هذا الوعي المؤدلج (المصنوع على عين) يعمد الراغبون وفق هذه البرامج المعدة إلى ممارسة حرياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهم يظنون (وهما) أنهم أحرار.
ومن خلال سطوة الآلة الإعلامية التي توجه دون أن يشعر بها، وموجات الإعلام الرقمي (المؤطر المراقب) وإملاءات فكرية لهذه (البروباجندا) السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية التي تشتعل من حولنا.. وهذه الدعاية الإعلانية والإعلامية التي تحيط بنا في كل تفاصيل حياتنا، فتصنع لنا وعيا(مؤطرا)، وتشكل عقائدنا النفسية والاجتماعية؛ فنفكر ونعتقد وننتقي ونشتري ونبيع، وننتخب، ونصوت حسب هذا الكم من الوعي الإعلامي المتراكم المملى علينا ليل نهار.. حالنا كحال (الفرس في الطول)، نسعى فيما يخطط لنا أن نبلغه.
هذه المنظومات الموجهة تستطيع أن تبلغ هذه الأفكار لا على مستوى الأفراد، ولا المجتمعات فقط.. بل ربما هناك من يخطط لها على مستوى العالم كالذي تصنعة الآلة الإعلامية الأمريكية من تضخيم وتفخيم للقوة الأمريكية، والترويج لثقافتها..
من أوائل من قاد هذه (البروباجندا) في توجيه الرأي العالم، في الربع الأول من القرن العشرين، صحفيان أمريكيان: أحدهما يدعى: إدوارد بيرنيز(1891-1995) قريب من عالم النفس الشهير(فرويد)، والآخر هو: والتر ليبمان(1889-1974)..
وقد استطاعا أن يحولا فكرة الديمقراطية من فكرة (قوة الشعب، وحكم الشعب) إلى فكرة تلاعب بالجماهير، أشبه بالمسكن الذي يعطيه الطبيب للمريض، ليشعر أنه سعيد دون أن يغير في الواقع شيئا .. وكان (بيرنيز) يرى: “أنك إذا استطعت التأثير على الذات غير العقلانية (اللاوعي) لإبقائها محفزة ومستثارة، فيمكن جعلها سلسة الانقياد والتوجيه، وأن ذلك لابد أن يكون لصالح الشعوب لأنها غير عقلانية”.
كما استطاعا تغيير فكرة الاقتصاد من (اقتصاد الحاجة)، وهو “شراء المرء ما يحتاج إليه” إلى اقتصاد (الرغبة)، وهي “شراء الفرد ما يرغبه”، من خلال هذه فكرة الدعاية (البروباجندا) التينقل فكرتها من السياسة إلى الاقتصاد، وأدخل أساليب الدعاية الإعلانية إلى نظم الشراء والبيع، لتحفيز الإغراء وإثارة الرغبات، وإرساء ثقافة الاستهلاك والنهم بدلا من ثقافة الحاجة.
كما كتب (جوستاف لوبون) في كتابه “سيكلوجية الجماهير” عن أنواع وفئات الجماهير، والأساليب التي تؤثر في إدارتها، والتحكم بها، وصناعة الوهم والعقائد الثابتة والطارئة، والتضليل السياسي، والعسكري.. وكذا تأثير آلة الصحافة والإعلام والدعاية على آراء الجماهير وتشكيل عقائدهم..
لكنه يستثني من هؤلاء فئة (العقلاء)، حيث يقول أن” العقلاء لا يتحركون ب “سيكلوجية الجماهير”، لانهم في أكثر الظروف التباسا يظلون محتفظين بشخصياتهم الواعية ، بحيث يصعب تزييف وعيهم أو توجيههم ، بينما في حالة الجمهور تتلاشى الشخصية الواعية للفرد، وتصبح شخصيته اللاوعية في حالة من الهياج، ويخضع الجميع لقوة التحريض، وتصيبهم عدوى انفلات العواطف، يحيث تلغي شخصية الفرد المستقل، ويصبح عبارة عن إنسان آلي يتحرك بقوة الهستيريا الجماعية “..
يتجلى هذا الوصف في كثير من موجات الانفلات أو الاندفاع للعقل الجمعي في (مباريات كرة القدم)، و(المظاهرات السياسية)، و(مقاومة الاحتلال)، والالتفاف حول القادة والزعماء في التأييد، والتطبيل، والتصفيق.
يمارس الإعلام هذا الدور من (تلبيس) الحقائق، وتغيير الوقائع، بإخفاء بعض الحقائق وسط هالة من الأكاذيب المتعمدة، أو تضخيم حدث معين، أو التركيز بنوع من التكرار على بعض الأكاذيب وفق قناعة قديمة”ما تكرر تقرر”ـ أو “استمر في الكذب حتى يصدقك الآخرون”، لترسيخ الفكرة من خلال الإلحاح بها على العقول، وبوسائل مختلفة، كما يحدث في إعلانات (السلع والبضائع)، أو تغيير المفاهيم تجاه بعض المواقف السياسية، والنظم الاقتصادية.
يقول شكسبير”إن حشد العقلاء أمر معقد للغاية ، أما حشد القطيع فلا يحتاج سوى راع وكلب”، وهو أشبه ما يكون بالتعبير القرآني الذي يوصف فيه الكافرين الذين ينقادون بأحلامهم (الواهية) إلى موروث أبائي لا أصل له، دون سند من علم ولا عقل، فيقول:“وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)[البقرة].
هذا المنطق الذي هو في حقيقته (لا منطق)، والعقل المحكوم ب (اللاعقل) لا يتفق مع منطق القرآن، وما يدعو إليه من العقل، والفكر، والنظر، والتدبر، والتثبت، وإرجاع المختلف فيه لأهل الاستنباط، والحل والعقد، وإحكام الضوابط على السلوك الجماهيري، من خلال مجموعة من الضوابط النفسية والسلوكية، والآيات، والأخلاق، والعبادات النفسية والسلوكية .
نستعرضه في مقال قادم