هكذا علمتنا كورونا نعم ما شكرناها (2)
د. عادل المراغي| أكاديمي وأديب مصري.
لقد كنا نرفل في ثوبي الأمن والصحة صباح مساء، نغدو ونروح ونذهب ونجيئ، وما عرفنا قيمة نعمة الأمن النفسي والصحة إلا بعد جائحة كورونا، ولما كانت النعم قد تتعرض للزوال، أرشدَنا ديننا الحنيف إلى الطرق والوسائل التي بها نحفظ نعم الله علينا، وقد كان من دعائه عليه الصلاة والسلام: (اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك) ومن هذه الوسائل:
أولاً: الشكر، ويقصد به الإعتراف بالنعم للمنعم وعدم تسخيرها في غير طاعته والشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح ،فأما شكر القلب فهو الإعتراف، فقد ورد في الخبر أن الله تعالى إلى موسى عَلَيْهِ السّلام (يا موسى، اشْكُرْني حَقَّ شُكْرِي، فَقالَ: يا رَبِّ كَيْفَ أشْكُرُكَ حَقَّ شُكْرِكَ، وَلَيْسَ مِنْ شُكْرٍ أشْكُرُكَ بِهِ إلاّ وَأنْتَ أنْعَمْتَ بِهِ عَلَيَّ؟! فَقالَ: يا موسى شَكَرْتَني حَقَّ شُكْرِي حينَ عَلِمْتَ أنَّ ذلِكَ مِنّي).
وشكر اللسان يكون بالثناء والحمد للمنعم فمن حمد الله بلسانه فقد شكره ،أماشكر الجوارح فهو ألا نعصي الله بنعمه.قال تعالى حاكيا عن آل داوود (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ).
ومن كلام بعضهم: الشكر قيد للنعم الموجودة، وصيد للنعم المفقودة
ويعد الشكر من أهم الأسباب التي بها تحفظ النعم، ولذلكم كان السلف يسمون الشكر بالحافظ والجالب أي أنه طريق لحفظ النعم الموجودة، ووسيلة كذلك لجلب النعم المفقودة ولهذا قال عز وجل: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) فجعل سبحانه وتعالى الشكر عنوانا للحفظ والزيادة.
وقد روي عن علي رضي الله عنه قوله: (إِنَّ النِّعْمَةَ موصولة بِالشُّكْرِ، وَالشُّكْرُ متعلق بِالْمَزِيدِ، وَهُمَا مَقْرُونَانِ فِي قَرْنٍ، فَلَنْ يَنْقَطِعَ الْمَزِيدُ مِنَ اللَّهِ حَتَّى يَنْقَطِعَ الشُّكْرُ مِنَ الْعَبْدِ”)
ثانياً: ترك الذنوب والمعاصي، فإنه إذا كان الشكر وسيلة لحفظ النعم، فإن المعاصي سبب في زوالها، وقد حكى لنا ربنا جل وعلا في محكم كتابه عن أقوام أمدهم الله بنعم كثيرة، غير أنهم قابلوا تلك النعم بالجحود والعصيان فكان الجزاء أن سلبهم الله تلك النعم وقلبها عليهم عذاباً قال عز وجل: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) ولهذا كان الحسن البصري يقول: (إِنَّ اللَّهَ لَيُمَتِّعُ بِالنِّعْمَةِ مَا شَاءَ، فَإِذَا لَمْ يُشْكَرْ قَلَبَهَا عَلَيْهِمْ عَذَابًا). وكان بعض الصالحين يقول لابنه.
:(احصِ النعم التي أعطاها الله لك واكتبها واحدة واحدة وستجد نفسك أكثر سعادة وتفاؤلا وانشراحا وشكراً عما كنت عليه من قبل). هذه العبارة وتلك الكلمات هزت كياني واستعبرت أجفاني، فكثيرا ما ننسى شكر الله تعالى علي نعمه لأننا لا نفكر في النعم ولا نعرف قيمتها إلا إذا زالت وفرت ،فكم من نعمة لا نشعر بها إلا بفقدانها.
فكثرة المساس يميت الإحساس وإلف النعمة دون شكرها منذر بزوالها،والدليل علي ذلك أنك تنام في بيتك وغيرك ينام في الطل والندى ،لايجد من يمد له يدا، أنت تبيت بين أهلك وأولادك وغيرك ينام في المخيمات مشردا. أو في المستشفيات يئن من وطأة المرض، أنت تأكل ما تشتهي وغيرك لا يجد ما يسد به رمقه،ويأكل من القمامة والمزابل، أنت تعيش بين أبويك وغيرك فقد أحدهما أو كلاهما، أنت صحيح معافي وغيرك طريح الأسرة البيضاء يقضي حياته في المستشفيات، أنت تنام بملء أجفانك وغيرك أزعجه الخوف وأقلقه، وأنهكه المرض وأحرقه، أنت زرقت بأولاد وغير محروم ولا عاقر أو عقيم.
أنت مسلم موحد وغيرك يعبد الحجر والبقر، أنت تبصر وتسمع وغير أعمى أصم، أنت تغسل وجهك كل يوم بيديك، وغيرك يغسل كليتيه بآلة في المستشفى ، أنت تتنفس الهواء الطلق النقي بلا ثمن وغيرك يتنفس بجهاز اصطناعي في المستشفى ويدفع كل يوم آلاف الجنيهات، أنت مستور بين أهلك وغيرك كشف الله ستره وفضحه بين الناس، أنت تغدو وتروح وتنتقل وغيرك قيده الشلل، أنت قد تملك سيارة وغيرك لا يملك أقدامه ،أنت حر طليق وغير سجين محبوس.
وتالله ماكنا نعرف قيمة نعمة الحرية والخروج والانطلاق في فيافي الأرض والاجتماعات واللقاءات، نغدو ونروح متى شئنا و في أي وقت شئنا علي شواطئ البحار وضفاف الأنهار حتى أغارت علينا كورونا بجيوشها وكتائبها فجعلتنا أسرى البيوت، وخلت الشوارع والمنتجعات، والشواطئ والمتنزهات ،لقد كنا في نعمة ما شعرنا بها إلا بعد أن فرت وسلبت وزالت.
فارفع لواء الشكر فإن النعم إذا شكرت قرت، وإذا كفرت فرت. اللهم أعنا علي ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.