قراءة في الشخصية الفكرية للشاعرة السورية فائزة القادري

يونس عودة | الأردن

فائزة القادري،  ابنة  “عامودا “، تلكم البلدة الوادعة في الجزيرة الفراتية في الشمال السوري، بشعبها الطيب الودود، الغني بأهلها المثقفين وأصحاب الشهادات العلمية، والتي ما فتئت تفخر بكفاءاتها المتميزين من شعراء وادباء ومفكرين، ولعلنا نذكر ثلة منهم – على سبيل االسرد لا الحصر- تلك القامات السامقة الباسقة: سليم بركات، هيثم حسين، محمد عفيف الحسيني، وغيرهم . فنسبة المثقفين في هذه البلدة الطيبة قد تتجاوز (80%) من عدد سكانها، كيف لا وقد استأثرت بلقب “موسكو الصغيرة” ذلات زمان، حيث كانت الجلسات الحوارية والنقاشات الدائمة تغطي جميع أضْرُب القضايا سواء أكانت سياسية، أم اجتماعية، أم ثقافية. فأغلب البيوت تزخر بالمادة الثقافية، سواء العامة أم التخصصية، والجميع ينهل من هذا المعين السلسبيل. فمن رحم هذا المجتمع، قدّر الخالق عز وجل أن تخرج نبتةٌ مباركة نضرة زكية لتحمل على عاتقها السير على هذه الطريق، شاهرة يراعا فياضا بالمعرفة، نضاخا بمكارم الأخلاق والفضيلة. تلكم هي: الشاعرة المتميزة فائزة القادري.

عشقت مسقط رأسها -عامودا-، وأحبت سماءها وجبالها وحقولها. فيها درجت خطواتها الصغيرة، غضة رقيقة كنسائم تلكم البلدة. أحبت البيوتات القديمة وعشقت براءة أهلها وطيبة قلوبهم وانفسهم، أحبت حاراتها البسيطة المفعمة بالحب والكرم والنخوة واغاثة الملهوف. من هنا كانت انظلاقة شاعرة عملاقة كالطود العظيم او كسيل العرم.

لا تنفك شاعرتنا تذكر والدها بكل خير ودوره في توجيهها منذ الطفولة المبكرة إلى مجال المعرفة؛ فقد قدم لها اول هدية معرفية اسهمت في تكوين شخصيتها الأدبية: مجموعة من الكتيبات القيمة للشاعر نزار قباني، وكانت هي القدحة الأولى للتعاطي –لاحقا- مع قامات أخرى في مجال الأدب بشقيه الشعر والنثر. كما تأثرت بقامات كبيرة آنذاك كميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران. ولعلي أجزم بأنها عشقت رقة أسلوب جبران، خاصة رسائله إلى مي زيادة رغم تباعد المسافات. فائزة القادري تتاثر بالصادق مما يُكتب، وخاصة الشعر – ديوان العرب- فالشعر عندها ينساب من الروح والقلب ومن اللاوعي. 

ويكأن شاعرتنا تأثرت بالشاعر الإنجليزي”صامويل كوليردج” الذي لم يكن ليألو جهدا في استغلال كل فرصة لسكب روائعه؛ كان رومانسيا مهووسا بالشعر، وكان يسري في روعه لدرجة أنه في إحدى الليالي، وبينما كان يغط في نوم عميق، وجد نفسه يقول اعذب قصيدة، وقام بتدوينها مباشرة بعد استيقاظه.

فائزة القادري تغتنم جميع الفرص المواتية لكتابة الشعر، وخاصة حينما يهبط ذاك الوحي، ويتمكن من خلجات نفسها، ويسري في وجدانها، حينها لا بد من الترحيب بهذا الزائر الجميل. اتقنت فن النثر وبزَّت الكثيرين، ومخرت عباب الشعر بشقيه: الحر والموزون، ولا تعيب على أحد أي مجال سار، شريطة أن يكون كلاما يدعو إلى الفضيلة والخلق الحسن. 

حينما سئلت عن ضرورة التقيد بأوزان الشعر، وهل كل ما عدا ذلك لا يعد ذا قيمة، كان جوابها الفصل بأن الميزان الشعري ليس مقدسا، وليس وحي السماء، أو تابوها لا نستطيع الاقتراب منه. وهنا لا بد من الإشارة إلى الشاعر التركي” ناظم حكمت” الذي قال الكلام نفسه قبل عقود طويلة خلت. فالشعر من الشعور والإحساس ليتخلل الروح والقلب. وتختم فائزة: ” ليس كل ما ينظم ويوزن جميلا”.

ومن أقوال الشاعرة فائزة القادري:

-قد تتفوق قصيدةُ نثر على قصيدة شعر موزونة بجمالها واتساع روحها.

-أؤمن بأن الشاعر يولد شاعرا

-اللغة ملك للجميع.

-كل ما يدمرنا علينا الابتعاد عنه.

-يحق للغة أن تكون ترجمان الأحاسيس، والشعور بأي شكل كتبت أو أي منطق.

فائزة القادري تحمل قلبا وطنيا كبيرا؛ ما فتئت توجه رسائل تترى الى المبدعين الجدد وتكررها: ” الوعي، الوعي وعدم الانزلاق والانجراف إلى متاهات لا تحمد عقباها”. فيجب توخي الحقيقة والوقوف مع القضايا الانسانية. فالعالم يشهد مراحل من الفوضى والتشرذم، والخاسر الأعظم هو الشعوب الفقيرة. 

لا غرابة أن تتجسد شخصية المُصْلِحةِ الاجتماعية في الشاعرة القادري؛ فهي تهتم لأمر المرأة، وطالما قدمت لها النصح لإثبات جدارتها في المجتمع، والوقوف إلى جانب الرجل، فالمجتمع لا يقوم على جنس دون اخر، فالنساء شقائق الرجال، وسندهم في شتى المجالات، وتتمنى على المرأة أن تخوض غمار بحر الثقافة والكتابة، سواء الشعر او النثر. فالخنساء كانت من المبدعات وكان تقول الشعر في حضرة المصطفى عليه افضل الصلاة والسلام، وقدمت مرثيات في حق اخيها صخر، وكانت من نفائس اشعارها.

وما زال الهم الأكبر لدي القادري يتجلى في اعادة الحضور النقي الرائع للثقافة. فمنذ تسلمها ادارة المركز الثقافي في القامشلي وهي تعمل بكل ما اوتيت من نشاط وقوة واخلاص، فلا يرتاح لها بال، ولا يغمض لها جفن حتى ترى المجتمع بكامل اطيافه – كبارا وصغارا وكهولا- يتسابق الي حضور الانشطة والفعاليات. عقدت العزم على النهوض بالمركز الثقافي ووعدت بان حَرْقَهُ واتلافه لن يمنعا من اعادة تشييده بشكل افضل، كما حدث للندن عام 1666 حينما ذهب كل شيء ، ولكن الاصرار قد اعاد بناءها وعادت اقوى من ذي قبل. 

كما يقال في الامثال:” اعط القوس باريها” . فوضع الشخص المناسب في المكان المناسب يحقق المراد واكثر، وبكل تميز واقتدار. فالشاعرة فائزة صاحبة فكر نير، وذكاء فطري، ومسحة كبيرة من القيادة؛ فهي المثقفة والكاتبة والشاعرة والمعلمة والمديرة والمدبرة. كل هذه الصفاة الحميدة والقيادية كانت سببا في اسناد امر ادارتها للمركز الثقافي ، فالمهم تستطيع احداث تأثير ايجابي في المجتمع ولو بالنزر اليسير؛ ستعقد الاجتماعت وتقيم الفاليات ولو بالهواء الطلق. وهاهي اذ تقول:” وضعت خطة لاحياء كل جوانب الحياة في هذا المركز حتى لو كان غير صالح لتنفيذ الانشطة، سننفذها في الحديقة ومكتب المدير وربما في الشارع وامام المركز، ومختلف الانشطة الفنية والادبية للصغار والكبار والشباب، حتى إنني اعد لتنفيذ انشطة مختلفة على المسرح المحترق تماما، بتعاون من الجميع ومساعدة من جميع اطياف مدينتنا ومنطقتنا”.

أملنا بالل عز وجل أن يعين شاعرتنا على تحقيق المراد ف” الله اعلم حيث يجعل رسالته”. صدق الله العظيم

فالإيمان بالإنسان وطاقاته هبة من الله، فالانصاف فرض عين، ولذلك، فنحن هنا مع هذه الايقونة السورية الطوروسية الشآمية الفراتية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى