رسالة إلى صديقي  الأديب الذي يريد أن ينقل العالم إليه

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري

عزيزي السيد (ع):

لا أحبذ أبدا هذا الصنف من الأدب الذي ينشط بمعزل عن واقعه، وقد يرنو بنظرة علوية من برج عاجي على واقع مجتمعه فيغدو كأنه في حالة من الانفصام عن هذا الواقع، أو يوظف أدبه لغرض ذاتي، أو سلطوي، أو مادي ..

في إحدى المسامرات الليلية مع صديقي الأديب السيد (ع)،، التي ملؤها الشجن، تكاد تذهب النفس إثرها حسرات على واقع يتعاصى على التغيير، أو الامتثال لمنطق العقل الذي ما زال يسمع منه في كل حديث هديل الحمام، فيرد عليه زئير الأسود، بوجه عبوس يصعر خده، ويثني عطفه صافحا عن كل دعوة للتوقف والتثبت وإحكام العقل، والانفلات من منطق العقل الجمعي الذي يفرض جاذبيته على أتباعه فلا يستطيعون الفكاك من مداراته.

هذه المسامرات ـ أشبه ما يكون عندي بـ(الإمتاع والمؤانسة) لمجالس أبي حيان التوحيدي ـ التي ينفث كل جليس فيها دواخل نفسه بين أقرانه، ويفرغ مخلفات واقعه اليومي المكظوم على الهموم، والذي يبذل فيه ذوو الألباب قرائحهم ، وكرائم أفكارهم وعقولهم إلى مجتمع هو عنهم في شغل.. قد ضاعت في عرض صحراواته من قبل عبقريات من أمثال جمال حمدان، ومشرفة، ومحمود شاكر، وغيرهم .. ولولا إنصاف التاريخ الذي لا يأتي إلا متأخرا لما سمع أحد لهؤلاء ذكرا، ولذابت كراماتهم في صخب أصحاب الفن ونجوم الكرة.

يقف هذا الأديب بحس معجب، إذ رأيته تسجل عدسته كثيرا من تفاصيل الحياة اليومية التي تصدف أنظار الكثير منا فلا يلتفت إلى شيء منها، ليس عن بلادة، إنما هي روح الأديب المرهفة، تستطيع أن ترى مالايره الناظرون، وتبصر إلى أعماق لم يسبر غورها المسطحون.. وعندما تفحصت ذلك بشيء من التحليل النفسي لروح الأديب وجدت أن هذا لا يكون عن تخطيط ولا تعمد، إنما هو استشعار الموهبة العفوي الذي يتجلى كذلك في ريشة الفنان، وبراعة الشاعر، وعدسة المصور.

كما لا يمكن أن يكون نظر هذا الأديب أو الفنان قد توقف عند كل ما يحكيه من تفاصيل، لتفيض به نفسه بعد ذلك على الورق قطعة أدبية مبدعة، أو صورة للوحة فنية ناطقة، أو مشهد معبر، إنما هو استكمال الخيال والحبك الدرامي لما جال في النفس من تفاصيل الحياة ونمنماتها اليومية، وانفعال الذائقة الأدبية به ..يعيش الأديب في المنطقة المعلقة بين الواقع والخيال، يتابع أقدار الكادحين بشيء من الأسى النفسي، ثم يشرع في معالجة واقعه، واصطناع التغيير الذي يجول في دواخل نفسه، ولا يزال بين هذا وذاك منغمسا منفصلا، معلقا بين الموت والحياة .. ليس الموت الحقيقي، لكنه الموت النسبي الذي يفرض عليه من جراء معاناة الفقد، والحياة التي يقدمها مفترضا خروجا أو هروبا من واقعه.

فلا نستطيع أن نقول أن إبداعات طه حسين في (دعاء الكروان)، أو (المعذبون في الأرض)، أو (الوعد الحق)، و…. وهو كما نعلم عنه من فقد البصر منذ الصغر، لا نستطيع ادعاء أن فكر الكاتب وقلمه هنا قد سجل  مما رآه، إنما هو  مزج من خيال الكاتب وحسه الأدبي وبعضا مما رآه،. فهو إذا صناعة الواقع التي امتزجت بالخيال، والنفحة الأدبية حتى فاضت بهذه الروائع..

ومن خلال هذه التفاصيل، والانغماس بواقعها، والتقوقع على مفرداتها اليومية والحياتية، استطاع نجيب محفوظ أن ينقل العالم إليه في حارته التي عاش يكتب عنها، فيقرأها ويشاهدها ويصورها ويجسدها في أفلامه، ويحصد من خلالها جائزة (نوبل للأدب)، بعد أن نقل هو تفاصيل هذه الحارة إلى العالم في كتاباته وإشراقاته الأدبية التي عايشها واقعا ثم روحا ثم فيضا من خيال وأدب.

هذا العمل الأدبي الذي تفيض به روح الكاتب، هو نوع من الاستكمال أو الاستعاضة عن واقع كما ذكرنا عصي على التحليل والإصلاح،. فيه من يملكون نفوسا انتهازية تتاجر بالأحلام والأقوات والأغراض(للبسطاء خاصة)، ومن يستطيعون التكيف بالاستسلام لبلادة الحياة وتدنيات الواقع، يسيرون حيث يسير الفلك الاجتماعي ..

ويبقى أصحاب الضمائر السامية.. الأعمق شقاء كما ذكرهم الفيلسوف (باسكال) من تنسل أرواح نفوسهم حسرة على ما لا يمكلون من أدوات التفعيل والتغيير، وحسرة أخرى على من لا يحبون الناصحين،. ومن يحاولون أن يجعلوهم على  مقاعد لا يصلحون فيها للعالم ..

هذه الحالة من الرفض الاجتماعي وعدم الرضا عن الواقع، قد تدفع بالبعض إلى حالة من السلبية والاستسلام والتماهي مع الواقع، وقد تخلق نوعا من التمرد السلبي في بعض النفوس المستثارة المندفعة فتتحول بطبيعتها إلى شخصيات ضد المجتمع.

أما النفوس المضروبة بشيء من الإبداع والتخليق الفكري، فهي التي تعمد إلى تحويل تلك الطاقات السلبية إلى دعوات تغييريه إما على مستوى الواقع الفعلي، أو على مستوى الواقع الافتراضي الذي يصنع الأديب أو الكاتب من فيض خياله، وقد ينصف التاريخ يوما أقواما في حياتهم أو بتخليد إبداعاتهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى