قراءة عن رواية (فرانكشتاين في بغداد) للأديب أحمد سعداوي

ناهض زقوت | فلسطين 

رواية تجمع بين الفنتازيا والغرائبية والخيال العلمي، ولكنها رواية واقعية بكل ما تحمله الكلمة من تعبير عن الواقع، فهي تجسد الواقع العراقي خلال السنوات الثلاث الأولى للاحتلال الامريكي، ولا يقل هذا الواقع في غرابيته عما عبرت عنه رؤية الكاتب.
رواية “فرانكشتاين في بغداد” للكاتب العراقي أحمد سعداوي، من مواليد بغداد عام 1973، يكتب القصيدة الشعرية والرواية، حاز على العديد من الجوائز عن أعماله الأدبية. صدرت الرواية عن منشورات الجمل في بيروت عام 2013، وحازت على الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) عام 2014، وقد ترجمت إلى أربع عشرة لغة عالمية، ونشرت في ثلاث عشرة طبعة منذ صدورها.
وقد علق سعد البازعي عن لجنة التحكيم على الرواية بقوله: “جرى اختيار فرانكشتاين في بغداد لعدة أسباب: منها مستوى الابتكار في البناء السردي كما يتمثل في شخصية (الشسمة)، وتختزل تلك الشخصية مستوى ونوع العنف الذي يعاني منه العراق، وبعض أقطار الوطن العربي والعالم في الوقت الحالي. في الرواية أيضا عدة مستويات من السرد المتقن والمتعدد المصادر، وهي لهذا السبب وغيره اضافة مهمة للمنجز الروائي العربي المعاصر”.
عتبة العنوان:
يستمد الكاتب عنوان روايته (فرانكشتاين في بغداد) من الأحداث والوقائع التي تجري في الشارع العراقي، تلك الأحداث التي كتبها الصحفي محمود السوادي لصحيفة “الحقيقة” التي يعمل بها باسم “أساطير في الشارع العراقي”، ولكن رئيس التحرير غير عنوان التقرير خلال تصميم العدد، وأرفق بالتقرير صورة كبيرة ل”روبرت دي نيرو” في فلمه الشهير فرانكشتاين، وأصبح عنوان التقرير “فرانكشتاين في بغداد”. من هو “فرانكشتاين” الذي تم اقتباس اسمه، وما دلالته؟. يقتبس الكاتب فكرة الشخصية الخيالية من رواية للكاتبة الانجليزية “ماري شيلي” (1797- 1851) المسماة (فرانكشتاين) وهي من روايات الفنتازيا والخيال العلمي، تروي قصة الشاب فيكتور فرانكشتاين الذي يصنع مخلوقا غريبا في تجربة علمية غير تقليدية، وحازت الرواية على شهرة واسعة إذ حولت للمسرح وعرضت أكثر من مرة على المسرح الانجليزي، ثم عرضت كفيلم سينمائي عام 2014. وقد اشار كاتب الرواية إلى الفيلم الذي عرض قصة فرانكشتاين والبطل الذي قام بدوره.
وإذا كانت شخصية الوحش فرانكشتاين في القرن الثامن عشر شخصية خيالية، فقد جعلها كاتب الرواية شخصية حقيقية في القرن الحادي والعشرين، هذا الوحش الذي جاء مع الطائرات والدبابات الامريكية لينشر الرعب في أنحاء بغداد “فاجأها الهدير المزعج لطائرات الأباتشي الأمريكية وهي تمر فوق الزقاق، شاهدت والدها دانيال، أو تخيلت ذلك على الأغلب … نادت عليه فأتاها: تعال يا ولدي”. إن عودة دانيال مع الطائرات الامريكية، دلالة على أن الارهاب جاء إلى العراق مع هدير الطائرات والدبابات الأمريكية، فعودة دانيال إلى بيت والدته، الذي قتل في الثمانينات، هو نفسه (الشسمة) الذي يدخل عندها ويجلس على الأريكة، كما سنبين لاحقا، وتناديه بنفس العبارة “تعال يا ولدي” وهي معتقدة أنه ابنها العائد، وقد ارتكب العديد من أعماله الاجرامية وهو مقيم في بيتها.
البناء السردي:
يتوزع السرد الروائي على تسعة عشر فصلا، كل فصل يحمل عنوانا يعبر عن دلالات المضمون. وكل فصل من هذه الفصول يضم خمسة أجزاء مرقمة يتوزع بينها السرد على شخصيات الرواية، وعلاقتها بالمكان، وتأثيرات الأحداث بما يشمل خصوصيتها الذاتية، وعلاقتها مع الآخرين.
يأخذ الحوار السردي منحنيات عدة، وتداخلات سردية، ما بين ضمير الأنا المتكلم، وضمير الغائب، وحضور الكاتب/ السارد للنص كشخصية العليم بكل التفاصيل، ومحركة للأحداث، ومؤكدة على الوقائع. وتتداخل لغة السرد بين اللغة الفصيحة، واللغة الصحفية، واللهجة العراقية المحكية، في انسجام لا يشعر القارئ بنفورها، مما يؤكد واقعية الرواية التي يحاول الكاتب تأكيدها في أكثر من مكان في الرواية. حيث يذكر أن لجنة التحقيق التي تشكلت للتحقيق مع دائرة المتابعة والتعقيب، ومن خلال فحص الحواسيب اكتشفت أن ثمة وثائق مصورة تم ارسالها بالبريد الالكتروني إلى شخص يرمز له باسم “المؤلف”، وبعد التحريات تم الوصول إليه في فندق الفنار في بغداد (هو نفس الفندق الذي يقيم فيه مؤلف الرواية)، والعثور معه على نص لقصة كتبها بالاستفادة من وثائق الدائرة، وهي بحدود المئتي صفحة مقسمة إلى سبعة عشر فصلا (وهي الرواية نفسها).
البتاويين مكان الاحداث:
اختار الكاتب حي البتاويين في بغداد مسرحا للأحداث، رغم أن بغداد تضم أحياء عديدة، فلماذا اختار هذا الحي بالذات؟. يقول السارد، يعد هذا الحي من الأحياء اليهودية الراقية في بغداد، تحول مع الزمن إلى حي بائس تكثر فيه الدعارة والمخدرات، وتنتشر على جنباته الأعمال الارهابية. ورغم أن هذا الحي يضم بين جنباته مسلمين ومسيحيين، ولا يهودي بينهم، إلا أن السارد العليم حاول أن يعمق فكرة الحي وأصوله اليهودية من خلال شواهد وأدلة على الوجود اليهودي في العراق، يقول عن بيت ايليشوا – أم دانيال: “بيت بناه اليهود على الأرجح، أو على وفق العمارة التي كان يفضلها اليهود العراقيين، حوش أو باحة داخلية محاطة بعدد من الغرف على طابقين، مع سرداب تحت الغرف”. كما أنه وضع فصلا باسم “الخرابة اليهودية” تلك الخرابة التي يقيم فيها “هادي العتاك”. انها ليس بيته، كما يقول السارد، “وهو ليس بيتا على وجه الدقة، فأغلب ما فيه مهدم … بعد الاحتلال وشيوع الفوضى شاهد الجميع كيف عمل هادي وصديقه “ناهم عبدكي” على اعادة ترميم الخرابة اليهودية، كما كانت تسمى، رغم أنهم لم يروا فيها أي شيء يهودي لا شمعدانات ولا نجمات سداسية ولا حروف عبرية”. وعندما يتعرض الحي للتفجير يكتشف أن جدار الخرابة يحتوي على شمعدان يهودي، وقد خاف من بيعه، فعمل على تدميره.
إن الخرابة كما هي لم تجر عليها أية اصلاحات منذ رحيل أصحابها اليهود، وبقيت من بيوت الأموال المجمدة، لذلك تشكلت لجان بعد الاحتلال الامريكي جاءت إلى الحي بهدف شراء البيوت القديمة تحت مسمى “لجنة حماية البيوت التراثية” بدعم من أمانة العاصمة ومجلس المحافظة (يمثلون جهات رسمية)، كأن الكاتب يشير إلى أن اليهود عادوا إلى بغداد تحت مسميات أخرى للبحث عن جذورهم بمساندة جهات رسمية، دون أن يشير إلى مكان ترحيلهم من العراق، ولماذا رحلوا وآليات ترحيلهم، فقط حاول إثبات حضورهم في المكان، وحتى يهرب بعيدا من حساسية ما تناوله في روايته، يشير في نهاية الرواية إلى أن عملية التفجير التي وقعت في الحي وأدت إلى تدمير البيوت، وقد عملت حفرة في أساسيات الحي كشفت عن سور من زمن الدولة العباسية، وقد رفضت الدولة الممثلة في محافظة بغداد العمل على الحفاظ على هذا الاثر التاريخي، وهنا يبرز التناقض، المحافظة ترسل موظفين مع لجنة حماية البيوت التراثية، لكي يساعدوا في وضع اشارات وعلامات على البيوت المستهدفة، في حين تمتنع عن حماية الآثار الاسلامية، وتقوم بردم الحفرة وتسوية الشارع. كأنه يوجه اتهاما للحكومة العراقية بأنها تساهم في حماية التراث اليهودي. وهذا يفتح المجال للمقارنة أمام القارئ بأن الذين غادروا بغداد منذ سنوات طويلة عادوا للبحث عن جذورهم اليهودية، في حين يقوم المسلمون بردم تاريخهم الاسلامي، قضية حساسة وخطيرة، تفتح النص لتأويلات عديدة.
واذا كان المكان المركزي للسرد حي البتاويين، إلا إن المشهد الفضائي للسرد يغطي بغداد من شوارع، وفنادق، ومقاهي، ومؤسسات، ومراكز شرطة، والمنطقة الخضراء، والأحياء السكنية، والبيوت، ويمتد إلى مناطق أخرى خارج بغداد، ليكشف عن معاناة الشعب العراقي بعد الاحتلال الامريكي سواء من العمليات الارهابية التي هي جزء من صراع سياسي بين السياسيين حيث يصفون حساباتهم في الشارع العراقي، أو عمليات الخطف التي تجري بسيارات حكومية، أو القتل على الهوية الطائفية والدينية، أو تطاول من يمثلون القانون على حاجيات الناس، فالضابطين الذين حققا مع هادي العتاك، سرقا ما وجدوه في بيته من انتيكات وقطع أثرية، أو من نفوذ شخصيات العراق الجديد وتعاونهم مع المحتل الامريكي.
الشسمة وشخصيات السرد:
رغم أن شخصية (الشسمة) هي محور السرد ومحركة أحداث الرواية، إلا أنها لم تأخذ صفة البطولة في النص، إذ أشركها السارد أو الكاتب مع شخصيات أخرى لا يقل حضورها في السرد عن تلك الشخصية المتخيلة، فجميعها محركة للأحداث والوقائع في بغداد، ولها علاقة مباشرة أو متخيلة مع (الشسمة). لذا احتل المكان البطولة الأساسية في السرد، فالكل ينطلق من المكان ويعود إليه، وعلى المكان تمارس الأعمال الارهابية، وفي المكان تنتشر عمليات الفساد من قيادات العراق الجديد.
توزعت شخصيات الرواية على نماذج من قاع المجتمع العراقي. فنجد شخصية (هادي العتاك) رجل خمسيني قذر الهيئة غير ودود، تفوح منه دائما رائحة الخمرة. شخصية غريبة الأطوار، غامضة، يخشى الناس التعامل معه، فهو في نظرهم كذوب وكل قصصه مختلقة. لم يكن من سكان حي البتاويين، بل قادم من خارج الحي مع صديقه (ناهم عبدكي) الذي يعمل على عربة يجرها حصان، وباتا من سكان الحي بعد اصلاحهما للخرابة اليهودية والاقامة فيها. قتل “ناهم” في انفجار سيارة في حي الكرادة، وبعد مقتله تغيرت أحوال هادي وصار أكثر عدوانية واحتساء للخمر، وغدا أكثر قذارة بلحية نامية وملابس متسخة، ويعتاش من جمع الأشياء القديمة والخردة ويبيعها، وكان دائم الجلوس على مقهى عزيز المصري، ويروي للصحفيين والحضور حكاياته الخيالية، ومن بينها حكاية صناعته لشخصية (الشسمة) من بقايا ضحايا قتلى التفجيرات التي وقعت في بغداد. حينما طلب منه اثنين من الصحفيين في مقهى عزيز أن يروي لهما حكاية الجثة، صحح لهما هادي التسمية، فهو “يسمي الكائن الذي صنعه بيديه باسم “الشسمة” لأنه ليس جثة فعلا، الجثة تشير إلى شخص أو كائن محدد، وهذا ما لا ينطبق على الشسمة”. والشسمة في اللهجة العراقية هو الشخص الذي بلا اسم.
يدفع “هادي العتاك” ثمن افعاله، إذ بعد نشر “محمود السوادي” تقريره عن “الشسمة”، ويكشف في التحقيق معه عن شخصية العتاك، فيرسل “العميد سرور” ضابطين للتحقيق معه حول “الشسمة”، وحين رفض التعاون معهم، وأنكر الموضوع تماما مدعيا أنه موضوع للتسلية على المقهى، فهددوه قائلين: “إما أن يدلهم على طريقة لإلقاء القبض على المجرم الخطير، أو يكون نفسه، كما يخمن العميد سرور، مثل كلارك كينيث في سوبرمان، هو صورة التخفي التي يعيش تحتها المجرم الرهيب والخطير”. وبعد التحقيق توصل الضابط إلى أن “العتاك” مجرد عجوز كذاب شبه مخبول وعديم الاخلاق. ولكن الحكومة بعد عجزها عن القاء القبض على “الشسمة” أو كما تطلق عليه المجرم “اكس”، كان عليها أن تبحث عن كبش للتغطية على عجزها، فكان “العتاك” هو الكبش الذي يقدم في الاعلام بأنه المجرم الرهيب، بهدف اغلاق الملف.
وتنطلق شخصية (الشسمة) لتزرع الخوف والرعب في نفوس أهالي الحي وبغداد كلها. وقد بثت فيها الحياة بعد مقتل حارس فندق السدير نوفوتيل (حسيب محمد جعفر) في تفجير للفندق. وهنا تظهر فنتازيا الرواية وخروجها عن المألوف، فروح جعفر تخرج من قبرها باحثة عن جسدها، وفي حوار الروح مع شخص ميت وجدته عند المقابر، كان يحثه على العودة إلى جثته، فلربما كتب الله له حياة جديدة قائلا: “أحيانا تخرج الروح من الجسد، تموت، ثم يغير عزرائيل رأيه، أو يصحح الخطأ الذي ارتكبه فيعيد الروح إلى جسدها … ثم يعطي الاله أمرا للجسد أن ينهض”. واثناء هيام الروح في فضاء بغداد “شاهد شخصا عاريا نائما وسط بيت في البتاويين، اقترب منه وتأكد من أنه شخص ميت، تأمل هيئته الغريبة والبشعة .. مس بيده الهيولانية هذا الجسد الشاحب ورأى نفسه تغطس فيها .. تلبس الجثة كلها”. وهكذا دبت روح حسيب جعفر في (الشسمة)، وانطلقت من بيت “هادي العتاك” إلى بيت أم دانيال بعد أن لبى ندائها “انهض يا دانيال .. تعال يا ولدي” فنهض من مكانه فورا. اشعلت العجوز بندائها هذه التركيبة العجيبة التي تكونت من الجثة المجمعة من بقايا جثث متفرقة، وروح حارس الفندق التي فقدت جسدها، أخرجته العجوز من المجهول بالاسم الذي منحته له “دانيال”، كما منحته ملابس دانيال، “نام دانيال، أو النسخة الجديدة منه، على الأريكة في الصالة، ودثرته العجوز بلحاف سميك”. وفي بيت أم دانيال تأتي المعجزة الثانية، فبعد أن كانت تتحدث مع شبح ابنها “الشسمة” الذي تجسد بهيئة بشرية، وهو لا يرد عليها في البداية، إلا أنه فتح فمه ليتحدث للمرة الاولى، وسمعت صوته، كان محشرجا وكأنه لم ينطق بأي كلمة منذ ولادته، ونطق كلماته بصعوبة.
لم يستمر طويلا في بيت أم دانيال اذ خرج للشارع يمارس مهمته في القتل، وكانت أولى ضحايا أحد أعوان النظام السابق، لم تكن شخصية (الشسمة) إلا مجرد أداة قتل، ومع انتشار أعماله الاجرامية خلق لنفسه أسطورة من جهل وخوف الناس، ومن فوضى الواقع الذي يعيشونه. كان يقوم بعمليات قتل ثأرا لكل من يحمل قطعة من جسده، ثم تطور ليقتل آخرين انتقاما منهم مثل قتل قائد إحدى المليشيات، وقتل الضابط الفنزويلي المرتزق، وقتل القيادي في القاعدة.
ورغم أن هذه الشخصية صنعها عراقي جاهل إلا أنها استخدمت للقتل بالإيحاء وفق تعليمات من جهة ما تحدد من المستهدف بالقتل، وتلك الجهة كانت (المنجم الصغير) الذي كان على صراع دائم مع استاذه (المنجم الكبير). وكانا هذان المنجمان في خدمة العميد (سرور مجيد) مسؤول وحدة المتابعة والتعقيب في حكومة العراق الجديد، حيث كان يعتمد عليهما في الكشف عن الجرائم وعن عمليات التفجير التي تقع في العراق، وهنا تبرز السخرية والفنتازيا في المشهد العراقي، بأن الحكومة والامريكان يتبعان التنجيم في الكشف عن الجرائم والتفجيرات، هذه الغرائبية في السرد تكشف عن موقفين: الأول، عدم تعاون الشعب العراقي مع الحكومة والامريكان تعبيرا عن رفضهم. والثاني، أن العراق الجديد يعيش عالم من الغرابية والفنتازيا ولم تتحقق آمال الشعب في الحرية والديمقراطية، بل غرق في الأوهام والمستقبل المجهول.
كان من السهولة في الوضع العراقي تكوين ثكنة عسكرية للقتل، فقد شكل المجانين الثلاثة (المجنون الصغير، والمجنون الكبير، والمجنون الأكبر) جماعة مسلحة قرب حي البتاويين، على أثرها انسحبت القوات الامريكية من المنطقة، دلالة على أنها تقوم بزراعة أدوات للموت ثم تنسحب من المكان، لكي يستكملون المهمة الامريكية. وقد كان (الشسمة) يعيش بينهم ويجدد نفسه من الضحايا الذين يقتلونهم، وأصبح هو نفسه يمارس القتل وليس فقط الانتقام لضحاياه، وبعد أن كانت (الشسمة) تستخدم أسلوب الخنق في قتل ضحاياه، إلا إنه وبناء على نصيحة (السفسطائي) تلك الشخصية التي كانت ضمن مجموعة القتلة، ويعتبر نفسه مفكرا، أصبح يستخدم المسدس.
كانت شخصية (الشسمة) شخصية متحولة، فكلما انتقم لأحد ضحايا سقطت قطعة اللحم التي تخصه من جسده، لذلك كان عليه تعويضها بقطعة جديدة، لذلك أدرك أن مهمته تحدد بالقتل، يقتل أشخاصا جددا كل يوم، ولكنه لم يعد يعرف بوضوح هوية من يجب أن يقتلوا أو الهدف من قتلهم، لقد تبدل لحم الابرياء الذي كونه في البداية بلحم جديد، لحم ضحاياه هو، ولحم المجرمين. وحينما قرر العدول عن مهمة القتل لم يستطع التراجع، فالقتل هو تجدد الحياة بالنسبة له، ووصل إلى قناعة بأنه “ليس هناك أبرياء أنقياء بشكل كامل، ولا مجرمين كاملين”.
ورغم كل محاولات الحكومة العراقية والقوات الامريكية القبض على (الشسمة) ورصد المكافآت المالية لمن يدلي بتفاصيل عنها، وتجنيد المنجمين للكشف عن أماكن تواجدها، إلا أن كل محاولاتهم باءت بالفشل، فما زالت تسرح وتمرح في المجتمع العراقي، وكانت آخر ضحاياها شخصية “المنجم الكبير” بعد أن طرد من دائرة المتابعة والتعقيب، وعندها يكتشف القارئ أن (الشسمة) أو الارهاب في العراق يتحرك وفق توجيهات عليا.
وقد اختلف العراقيون حول حقيقة شخصية (الشسمة)، وتعددت الآراء، وظلت صورته تتضخم رغم أنها ليست صورة واحدة، “ففي منطقة مثل حي الصدر كانوا يتحدثون عن كونه وهابيا، أما في حي الاعظمية فإن الروايات تؤكد أنه متطرف شيعي، والحكومة العراقية تصفه بأنه عميل لقوى خارجية، أما الامريكان فقد صرح الناطق باسم الخارجية الامريكية ذات مرة بأنه رجل واسع الحيلة يستهدف تقويض المشروع الامريكي في العراق”، ولكن، ما هو المشروع الامريكي؟ وتأتي الاجابة على لسان العميد سرور “إن مشروعهم هو خلق هذا الكائن بالتحديد، خلق هذا الفرانكشتاين واطلاقه في بغداد، الامريكيون هم من وراء هذا الوحش”.
أما الصورة التي رسمها عامة الناس لهذا المجرم، هي الصورة التي ترقد في رؤوسهم، تغذيها مخيلة الخوف، ويضخمها اليأس في غياب أي حل لهذا الموت المتناسل في بغداد، وهي صورة تتغير وتتضاعف بعدد الرؤوس النائمة على وسائد الليل بقلق وحذر.
لذلك تخرج الناس تحتفل بشوارع بغداد، بمجرد اعلان الحكومة القاء القبض على المجرم، كانت ترقص دون أدنى تفكير بأن ما تعلنه الحكومة بأن “هادي العتاك” هو المجرم، فكان المصدق وغير المصدق يرقص. في حين كان “شبح رجل مجهول يقف منذ ساعة عند النافذة العارية من إحدى غرف الطابق الثالث (فندق العروبة) يراقب احتفالات الناس بصمت وهو يدخن، ناظرا كل حين إلى تلبد السماء بالغيوم الداكنة أكثر فأكثر”.
تفتتح مشهد الرواية شخصية (ايليشوا – أم دنيال) من سكان حي البتاويين، امرأة عجوز تعيش في بيت كبير مع قطها “نابو”. تخرج فقط لأداء الطقوس الدينية في الكنيسة، وتتواصل مع بناتها اللاتي خرجن من بغداد هربا من جحيم الواقع، وتحلم بعودة ابنها (دانيال) الذي قتل في الحرب العراقية الايرانية، فلديها أمل أن ابنها حي ولم يمت، وهي ترفض بكل شدة دعوة بناتها لمغادرة بغداد واللحاق بهن. وعندما تكونت شخصية (الشسمة) وخرج من بيت (هادي العتاك) التجأ إلى بيت أم دانيال وعاش معها، كما ذكرنا، وهي معتقدة أنه ابنها قد عاد اليها، ولم يصدق أهالي الحي رواية عودة ابنها، واعتبروها امرأة فقدت عقلها.
يعتبر بيتها تحفة أثرية سواء من حيث تاريخه أو المقتنيات التي يضمها، لذلك حاول الكثير شراء البيت تحت حجة المحافظة على البيوت التراثية، أو الاستيلاء على مقتنياته الأثرية، إلا أن أم دانيال رفضت بكل قوة واصرار التنازل عن بيتها، على أمل أن يعود ابنها ويجدها في البيت، ولكن الابن لم يعد بل عاد حفيدها. بعد أن تأزمت الاوضاع وتعرض الحي للتدمير جراء عملية ارهابية، وطال التدمير بيت أم دنيال، لم يكن أمام بناتها الا خديعتها، فاتفقن مع الشماس “نادر” أن يأخذ دانيال الفتى (بعد عودته القصيرة إلى بغداد) إلى جدته على أنه دانيال ابنها لكي يقنعها أنه عاد وجاء يأخذها للخروج من بغداد، وبالفعل تمكن من اقناعها وصدقته فهو شبيه ابنها، وهكذا غادرت أم دانيال بغداد والتحقت مع بناتها في احدى الدول الاوروبية، وتم بيع البيت المهدم ومقتنياته لفرج الدلال.
وتأتي شخصية (محمود السوادي) الذي يعمل صحفيا، وكثيرا ما تروى الأحداث على لسانه، وفي مقاربة سردية فهو شخصية الراوي، حيث تخفى الراوي خلف هذه الشخصية ليمنح نفسه الحرية في سرد الأحداث. وهو خبير بالواقع العراقي بحكم مهنته كصحفي في عدة صحف ومجلات قبل أن يأتي من مدينة العمارة مسقط رأسه إلى بغداد هربا من “كوربان” الشخصية المتنفذة الذي يسعى للانتقام منه. في بغداد عمل مع صحيفة الحقيقة التي يرأس تحريرها (علي باهر السعيدي) الصحفي والكاتب الشهير والمعارض للنظام السابق، والمقرب من طائفة واسعة من السياسيين الذين تظهر وجوههم كثيرا على شاشة التلفزيون، مالك ورئيس تحرير صحيفة الحقيقة في حي الكرادة.
يقيم محمود السوادي في فندق العروبة، ودائم الجلوس على مقهى عزيز المصري، ويسجل الذكريات والأحداث ويتابعها من خلال جهاز التسجيل الديجيتال. في المقهى يستمع إلى رواية “الشسمة” ويتعرف على “هادي العتاك”، ويزوره في بيته ليجري تحقيقا حول هذه الشخصية الغامضة، ويساعده العتاك بأن يأخذ جهاز التسجيل ويعطيه “للشسمة” لكي يسجل عليه مغامراته وأعماله الاجرامية، ويروي الشسمة حكايته عبر التسجيل الذي يقوم بنشره على صفحات جريدة الحقيقة باسم “فرانكشتاين في بغداد”. ويكون لهذا التقرير صدى كبير لدى العميد سرور الذي يطلب محمود للاستماع إليه حول التقرير.
توثقت علاقته مع السعيدي إلى حد كبير، فعينه مدير تحرير المجلة، فكان موضع حسد من زملائه، لكن محمود كان في أعماق نفسه يدرك أنه يدفعه باتجاه الطريق الصحيح. ثم أصبح يأخذه معه في زياراته الخاصة، وكانت أولى زياراته إلى المنطقة الخضراء لمكتب العميد سرور، الذي يتعرف عليه محمود وعلى مهام دائرته التي يسمع عنها لأول مرة. وقضى محمود متنقلا مع السعيدى بسيارته المرسيدس السوداء بين أماكن متعددة حتى أماكن نزواته وسهراته، كما عرفه على نصف الطاقم الحكومي والكثير من الضباط والدبلوماسيين والأجانب، دون أن يفهم ما هي غاية السعيدي من كل ذلك؟. في احدى الجلسات نظر السعيدى إلى محمود وتمنى أن يتبادلا المواقع، لم يفهم محمود مراده، ولكن السعيدي كان يقصد ما يقول. بكل سذاجة قال محمود” “أنا أيضا أريد التحول اليك” فقد كان طموحه أن يصبح مثل السعيدي “لا ذيلا له” كما يقول زميله “فريد الشواف”.
يسافر باهر السعيدي إلى خارج العراق، ويتسلم السوادي مكانه في المجلة، فيحاول أن يقلده في كل شيء في اللباس وطريقة الحكي. ولكنه لم يستمر طويلا إذ هجمت الشرطة على مقر الصحيفة وصادرت مقتنياتها وأغلقت المجلة، فالسعيدى متهم بسرقة 15 مليون دولار من المساعدات الامريكية. لقد خدع السوادي بالمنصب دون أن يدري ما يخططه السعيدي الذي كان يسعى لترتيب أوضاعه في الخارج على أن تبقى المجلة مفتوحة، ويوهم الآخرين بأنه عائد إليها. بعد اغلاقها يقع السوادي في مشاكل عديدة، ويتحمل ديون العاملين في المجلة فهو المسؤول، ولم يكن أمامه إلا بيع كل ما يملكه، ومغادرة بغداد عائدا إلى العمارة بعد مقتل كوربان.
اما شخصية (العميد سرور مجيد) مسؤول وحدة المتابعة والتعقيب وهي الوحدة المرتبطة بقوات الاحتلال الامريكية في العراق، ويمثل بقايا النظام السابق الذي تخلى عن مبادئه وأعلن انضمامه للعمل مع القوات الامريكية، فهو “خادم للسلطة من صدام إلى الامريكان”. رجل قصير القامة ذو صلعة لامعة، يرتدي ملابس مدنية، كان برتبة مقدم في استخبارات الجيش العراقي السابق. يشعر بضعفه لذلك كان حريصا أن يتحاشى أي شائبة في صورته أمام الأحزاب الحاكمة، فهو في وضع حساس، ومثلما يتجسس على المواطنين هناك من يتجسس عليه لينقل أخباره إلى أحزاب الحكومة التي لا تنظر إليه بارتياح بسبب ماضيه وعمله في خدمة النظام السابق، ولكنهم مضطرون لتقبله لدعم الامريكان له.
ويكشف السارد عن مهام هذه الدائرة من خلال تقرير سري صادر عن لجنة تحقيق تشكلت للبحث في مهام الدائرة، وتبين أن الدائرة تقوم بأعمال خارجة عن اختصاصها والذي ينحصر في أمور مكتبية تخص أرشفة المعلومات وخزن وحفظ الملفات والوثائق، واكتشفت اللجنة أن الدائرة كانت توظف تحت ادارة العميد سرور مجموعة من المنجمين والمتنبئين، وقارئ الطالع، ومحللي الباراسكايكولوجيا، ومتخصصين في تحضير الأرواح، ومخاطبة الجن، ينحصر عملهم بوضع توقعات للحوادث الأمنية الخطرة التي كانت تحدث في مدينة بغداد ومناطق مجاورة لها. وقد تولى مكتب العميد سرور متابعة موضوع “الشسمة”، حين وصلته معلومات تقول أن هناك مجرمين يتم اطلاق النار عليهم ولكنهم لا يموتون، ولا تسقط منهم الدماء.
وإلى جانب هذه الشخصيات نجد شخصيات أخرى لعبت دورا أساسيا في سرد الاحداث وتكوين مجرياتها، فنجد شخصية (أبو انمار) صاحب فندق العروبة، الذي كان فندقه مزدهرا في الزمن الماضي، بالزبائن الذين اختفوا بعد نيسان 2003 وبات الكثير من الفنادق شبه مهجورة، ومن بينها فندقه الذي تحول إلى بنيان متهاك وأثاث قديم، ولا يقطنه إلا عدد محدود أقل من أصابع اليد الواحدة نتيجة الوضع التي آل إليه العراق بعد الاحتلال، وخوف الناس من التنقل بين المدن. وهذا الحال أوصله إلى الفقر والعوز، فلم يكن أمامه إلا بيع الفندق، ومغادرة بغداد.
وشخصية (عزيز المصري) صاحب المقهى الشهير الذي يرتاده اعداد من المثقفين والصحفيين وعامة الناس. وهو الذي يحكي حقيقة الشسمة وكيف كونها هادي العتاك، ويعتقد أن الشخصية الحقيقية لهذه “الشسمة” هي شخصية “ناهم عبدكي” صديق العتاك. ورغم أنه يروي ما سمعه من العتاك، إلا أنه يعتبره شخصية كذوب ومبالغ في سرده للأحداث أو القصص التي يرويها.
وشخصية (فرج الدلال) صاحب مكتب دلالية الرسول، الذي استثمر أجواء الفوضى وغياب الدولة ليضع يده على العديد من البيوت مجهولة المالك داخل منطقة البتاويين، وحول البيوت إلى موتيلات صغيرة ورخيصة. كانت مهمته أن يجمع الأثار والأشياء القديمة من الحي ويبيعها، وقد حاول شراء بيت أم دانيال، أو شراء مقتنياتها، وتمكن من شراء فندق العروبة من أبو انمار، وأول ما فعله هو انزال يافطة فندق العروبة، ووضع بدلا منها يافطة باسم “فندق الرسول الاعظم”، تلك اليافطة تعبر عن ما آل إليه الواقع الجديد في العراق وهو الاتجاه ناحية التدين ولكن بشكل متطرف، والغاء كل ما يتم للإرث الماضي. وهذا ما حدث مع الضابطين (السارقين) في بيت العتاك حينما شاهدا أيقونة العذراء طالبا منه أن يحطمها ولكنه رفض، فما كان منهما إلا تحطيمها لأنها حرام. وقد جاء تفجير في المنطقة دمر الفندق وحوله إلى خرابة، وصار مأوى للشسمة، كما ذكرنا، شاخصا ببصره نحو شوارع بغداد وأهلها.
هذه النماذج التي استمدها الكاتب من قلب المجتمع العراقي هي شخصيات متخيلة في مسمياتها، ولكنها حقيقية في سلوكها وأفعالها، وتلك الشخصيات مسلوبة الارادة والفعل، خاضعة لقوة قاهرة تحركها. حاول أن يكون لكل منها علاقة ما مع الشخصية الغرائبية “الشسمة” ليكتمل المشهد، وكل شخصية من هذه الشخصيات لها نهاية في المشهد إما بالاعتقال، أو القتل، أو الرحيل عن بغداد، ولكن تبقى شخصية “الشسمة” هي المتفاعلة مع أعمالها الارهابية الاجرامية في المشهد العراقي، دون أن يكون للشعب العراقي القدرة على منعها أو التحرك ضدها.
رؤية المشهد العراقي:
يلخص السارد على لسان محمود السوادي المشهد العراقي، بأن “هناك جبهتين: الامريكان والحكومة في طرف، والارهابيون والمليشيات المتنوعة التي تقاتلهم في الطرف الاخر. من يكون ضد الحكومة والامريكان له تسمية واحدة فقط”. هذه هو مشهد العراق بعد الاحتلال، شعب مسلوب الارادة لا يستطيع أن يقرر مصيره، أو يعلن موقفه بكل صراحة. فاذا أعلن موقفه ضد الامريكان والحكومة فهو مع الارهابيين، وفي نفس الوقت لا يستطيع أن يؤيد أعمال القتل والارهاب.
ويرسم السارد موقفا للمثقفين والاعلاميين مما يجري في المشهد العراقي اذ يعتبر حديثهم مكرر وسفسطائي لا يغير من الواقع شيئا، يقول: “وانشغال المثقفين والعاملين في الوسط الاعلامي بقضايا مثل هل نحن نتجه إلى حرب أهلية؟ أم أننا نعيش مستوى من مستويات الحرب الأهلية؟ أم أننا في وسط حرب أهلية غير نمطية، نوع جديد من الحرب الأهلية. اما بالنسبة لموقف السياسيين العراقيين اذ تتحول صراعاتهم على شاشات التلفزيون إلى حرب فعلية في الشارع أدواتها المفخخات والاغتيالات والعبوات الناسفة واختطاف السيارات بركابها، وتحول الليل إلى غابة مجرمين.
وفي ظل هذه الاجواء والمواقف وسلب الارادة والفعل، لم تعد بغداد مكان آمن فقد تحولت إلى مدينة للقتل والموت المجاني، “حين أخرج أمر على أجساد قتلى عديدين مطروحين في الأزقة كأنهم نفاية”، فالكثيرون تركوا بيوتهم أو محالهم التجارية خشية من الاختطاف أو القتل لأسباب شتى، فالعصابات منتشرة في أحيائها وشوارعها، والانفجارات متواصلة شبه يومية في بغداد، تلك المدينة التي كان أهلها يرفضون مغادرتها، أو يأتون اليها من المدن البعيدة لأنها أكثر أمانا، أصبحوا الآن يغادرونها دون رجعة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى