الجدل كأداة فاعلة لبناء المعرفة

د. أسامة محمد عبد المجيد إبراهيم | أستاذ علم النفس التربوي- جامعة سوهاج

 

النزعة الجدلية هي سمة تجعل الفرد ميالاً للدفاع عن المواقف التي تتضمن قضايا مثيرة للجدل. في الغالب يندمج الأفرادذوو النزعة الجدلية العالية في حوارات جدليةولا يتجنبوها عن عمد،في حين ينخرطالبعض في عدوان لفظي لافتقارهم للمهارات الجدلية.ويدرك البعض هذا النشاط على أنه تحدى ذهني مثير، وموقف تنافس يستتبعه دفاع عن موقف والفوز بالنقاط.  ومع ذلك، يتفاوت الأفراد من حيثرغبتهم في الخوض في الجدل. يسبق الجدل إحساس الفرد بمشاعر الإثارة والتوقع، وبمواصلة الجدل يشعر الشخص ذو الرغبة العالية في الجدل بالانتعاش والرضا والانجاز، في حين يسعى الشخص الذي لا يتمتع برغبة عالية في الجدل لمنع هذا الجدل من الحدوث، ويشعر بالارتياح إذا استطاع تجنب الجدل. وإذا تم إغراؤه بالدخول في جدل، فإنه تكون لديه مشاعر غير سارة قبل وأثناء وبعد الجدل.

وفي مواقف الجدل، يختلف الأفراد في أسلوب تعاطيهم مع المواقف الجدلية، فالبعض يميل إلى التعاطف مع الآخر وتفهم مواقفهم،في حين يميل البعض الآخر إلى النظر إلى القضايا بطريقة تحليلية وبعيدا عن أي عاطفة. وقد يظهر البعض ميلا ثابتا نسبيا نحو تصنيف الأفراد بطرقة ثنائية، ويؤسسون منطقهم في الجدل على ثنائيات حادة (أبيض – أسود، معي – ضدي)، بدلا من محاولة فهم القضايا بشكل تركيبي يضم بين طياته أوجه سلبية وأخرى إيجابية. وبينما يعتبر التقسيم الثنائي عمومًا مفيدة في بعض المواقف التي تتطلب حلولًا سريعة،إلا أنها تعد أحد أكثر النزعات الفكرية ارتباطا باضطراب القيم خاصة عند المراهقين.

وتعد الرغبة في الجدل مفهوماً إيجابياًوشكلا بناءً للتواصل أو المعارضة، حيث تعنى كلمة “يجادل” أن يبني الفرد مزيجاً من الأفكار المنطقية المترابطة التي تبرر فكره. هذا التبرير يمكن أن يساعد الفردعلى إقناع الآخرين بمسار فكره أو أن يدحض رأي الآخر. وفي بعض الأحيان، قد يحمل الجدل معنىًسلبيًاعندما يتضمن هجوماً على ذات الآخر؛ فالجدل اللفظي السلبي هو شكل هدام من أشكال التواصل. وقد ميز الباحثون عند دراستهم للنزعة الجدلية بين الجدل بمعناه الإيجابي والجدل القائم على المغالطة الذي يهاجم الشخص وليس الموضوع، فهناك دافعان مختلفان لدى الأفراد المتحاورين: الرغبة في مناقشة قضية خلافية، والرغبة في الانتقاص من ذات الآخر. وفي حين يركز أصحاب الدافع الأول على الفكرة محل النقاش، يتحول أصحاب الدافع الثاني من مناقشة الموضوع إلى الالتفات بشكل مقصود إلى تحقير ذات الآخر بهدف إحداث ألم نفسي لديه من خلال التهكم والسخرية.   

في سياق التعلم، نوقش الجدل كأحد الكفاءاتالأساسية بسبب علاقته الوثيقة بالتفكير الناقد ومستويات التفكير العليا؛فالجدل يزيد من تعقيد المعرفة، واستخدام الطلاب المفيد لهذه المعرفة، والمراجعة الناقدة والهامة لتلك المعرفة التي تلازم جودة التفكير، والمكاسب التعليمية العامة.وكثيرا ما يوظف المعلمون المناظرة والجدل في تدريسهم وفي الأنشطة الصفية من أجل تحقيق أهداف تعليمية محددة، إلا أن الطلاب لا يظهرون بالضرورة مستويات واحدة من الرغبة في الانخراط في المناقشات الجدلية.

ومن وجهة نظر نفسية – تربوية واستناداً إلى آراء فيغوتسكي، فإن بناء المعرفة يمكن تشكيلها بشكل أفضل من خلال المناقشة والحوار الجدلي في الفصول الدراسية. وفقاً لهذه الرؤية النفسية- التربوية، يُعدُّ الجدل عاملاً مهماً في بناء المعرفة نظرا لأنه يرتبط بطرق المنطق غير الشكلي التي يتم تفعيلها فقط من خلال ممارسة الجدل، وبسبب ارتباطه بالتفكير النقدي، ولأن الأفراد يتعلمون على نحو أفضل عندما يتحاورون.

وفي معظم الجامعات الغربية يطلب من الطلاب اجتياز مقررين في السنة الأولى يهدف إجزئيا إلى تدريس أساسيات مفاهيم معينة في الجدل ضرورية للمستوى الجامعي. وفي المعايير الوطنية لتعليم العلوم الوطنية الأمريكية، يبدو الجدل من بين المتطلبات الرئيسية للتساؤل العلمي للصفوف من الخامس إلى الثاني عشر. وفي توصية “البرلمان الأوروبي” بشأن الكفاءات الرئيسية للتعلم مدى الحياة، يظهر الجدل مرتبطا بثلاثة من الكفاءات الرئيسية وهي:

(أ) التواصل باللغة الأم.

(ب) الكفاءات الرياضية والكفاءات الأساسية في العلوم والتكنولوجيا.

(ج) مهارات تعلم التعلم. وقد أثرت هذه التوصية في الأخذ بالجدل في وثائق السياسة العامة في العديد من البلدان الأوروبية.

وتشير الدراسات إلى أن الأطفال يظهرون قدرة على بناء الحجج والحجج المضادة في سن مبكرة، إلا أن التعبير الماهر وتطوير حجج مضادة من الأشياء التي تأتي لاحقا مع النمو، حيث يؤدى التعلم دوراً مهما في تنشيطه. لذلك، تشمل أكثر الجهود التعليمية الموجهة بالتعلم وضع المهارات الجدلية في سياقات التعلم المختلفة لتعزيز التفاهم وبناء معارف محددة.

وقد تم تناول الجدل من خلال المدخل المعرفي الاجتماعي في تقليدين مختلفين – علم النفس البلاغي والاجتماعي – وذلك للربط بين العمليات العقلية وغيرها من أساليب المعرفة السياقية. يسمح المدخل المعرفي للجدل بتحليل العمليات العقلية التي تضم كل المكونات التي تدخل في إنتاج الجدل، وكذلك العمليات الإبداعية التي يطور بها الناس المناقشات.

لا يقف الرأي الجدلي في موقف ما منعزلا، ولكنه يكون “موقفاً في موجهة موقف معاكس أو مناهض. هذه الرؤية لفهم الجدل تسمح بالذهاب إلى أبعد من مجرد فحص المناقشات الجدلية بشكل منعزل عن السياق والمؤثرات الأخرى. فالاتجاهات يجب ألا تفحص منعزلة ولكن “في سياق الجدل والمناظرة” وأن الطريقة المثلي لذلك هي دراسة “كيفية إبداء الناس لآرائهم أثناء المناقشة”. وهذا سيسمح بفهم أن الهدف الأساسي للمتحدثين عند بنائهم لتعليلاتهم هو دحض رؤى الآخرين ضمناً أو صراحة.

ومن البناءات التي يمكن أن تكون لها تأثير على الرغبة في الجدل التفكير الثنائي، وهو ميل أو نزعة عامة لرؤية العالم من طرف واحد فقط، حيث يرتبط التفكير الثنائي بالميل إلى التفكير في الأمور بطريقة تقسم القضايا تقسيما ثنائياً حاداً: “أسودأوأبيض”، “جيدة أوسيئة”، أو “كل شيء أولا شيء”، وعلى الرغم من أن هذا النمط من التفكير قد يكون له فوائد عند محاولة تكوين فهم سريع أو عند اتخاذ القرار إلا أنه يحتمل أن يقود إلى سوء فهم بين الناس الذين لديهم آراء غير متوافقة، وقد تكون له تأثيرات متباينة على الرغبة في الجدل.

يرتبط التفكير الثنائي ببناءات معرفية مثل عدم التسامح مع حالات عدم اليقين، وكذلك عدم التسامح مع الغموض. كلا المفهومين تم تعريفهما كنزعة نحو إدراك أو تفسير الموقف كتهديد أو مصدر للانزعاج والقلق والاختلاف. وفي كلتا الحالتين، يستجيب الأفراد للموقف التهديدي بمجموعة من ردود الأفعال المعرفية والعاطفية والسلوكية. وقد ارتبطت الاختلافات بين هذه المفاهيم بالتوجه نحو الزمن، فالأفراد الذين لا يتسامحون لأنهم قد لا يكونون قادرين على تحمل حالة “إذن والآن”، وأولئك الذين لا يتسامحون مع عدم اليقين تكون قدرتهم على تقبل أن حدثاً مستقبلاً سلبياً قد يحدث ضعيفة، أو أنهم يضعون احتمالاً ضعيفا لحدوثه، وقد تكون لهذه البناءات أيضا تأثير على الرغبة في الجدل.

وقد ارتبط مفهومالرغبة في الجدلبالعديد من المواقف الإيجابية. ويبدو أن هذا بسبب أن النشاط الذهني المطلوب لتنمية الجدل يشجع على المعالجة البنائية للأفكار بطريقة تكاملية ومعالجة المعلومات بعمق والتفكير بشكل نقدي. كما ارتبطت الرغبة في الجدل بمرونة المواجهة، حيث تميز التفكير الجدلي بالنظرة الفريدة إلى تغيرات الأحداث وتناقضاتها ومعانيها، وأظهرت النتائج أنه عند النظر إلى الأحداث المتغيرة، كان الأفراد الجدليون أكثر ميلاً إلى إدراك أن العالم والأحداث التي ينطوي عليها دائمة التغير. وعند النظر إلى التناقضات، كان هؤلاء الأفراد أكثر ميلا إلى قبول أن القضايا التي تبدو متناقضة يمكن أن تتواجد معا بطريقة متوازنة ومتناغمة.  

وأخيرا أود أن أقدم بعض المقترحات التربوية في هذا الشأن:

أولا – العمل على تعديل اتجاهات الطلاب وأفكارهم حول الجدل – يتوقف مشاركة الفرد في المواقف الجدلية طبيعة معتقداتهعن الجدل، وعن المجادلين أنفسهم،فالفرد الذي يبني تصورات إيجابية عنالجدلكوسيلة فعالة في حل الصراعات، وعنالمجادلين كأشخاص مقدَّرينلأنهم يتسمون بالعقلانية والموضوعية والثقة بالنفس، مثل هذا الفرد سيميل للجدل. ومن المتوقع أن يزداد معدل مشاركته في أنشطة جدلية.

أما حين يتبنى الفرد تصورات سلبية عنالجدل، كأن يعتقد أن الجدل وسيلة للخداع،وأنه نوع من السفسطة، وأن المجادل هو شخص متحيز ومتصلب لا يستمع إلا لرأيه، ولا يسعى إلاللسيطرة  على الآخرين وفرض رأيه عليهم، مثل هذا الفرد سيميل في الغالب إلى تجنب الخوض في الجدل، وسينفر من الذين يمارسونه.

ثانيا – مساعدة الطلاب على تنمية مهارات الجدليجب الاهتمام بإيجاد مناهج للحوار والجدل في المدارس والجامعات، تتضمن المهارات الجدلية كجدارات ومخرجات أساسية للعملية التعليمية، وتعليم الطلاب كيف يمارسون الجدل بعيدا عن العدوان اللفظي والتهجم على ذات الآخرين، بما يرغب الشباب في الجدل بمفهومه الإيجابي، وبذلك نضمن المشاركة الإيجابية للشباب في دعوات الحوار وعدم انزوائهم.

ويجب أن تعمل المدارس والجامعات على تعزيز مفهوم الجدل كنشاط إنساني إيجابي له أهميته في تنمية مدارك الفرد، وتوسيع أفقه العقلي، وتدريب منطقه، وقدرته على الحوار والتفاعل البناء مع الآخر، وفهم الأشياء بصورة أفضل، وحل الصراعات، وتجاوز الخلافات، وأن استخدامها بصورة غير حكيمة والإفراط فيها دونما داع، والإكثار من ذكر الحجج بدون مبرر كاف، والاستقواء على ذوى القدرات الجدلية الضعيفة قد يكون له تأثيرات عكسية على الأطراف الأخرى، وهو ما لا نرغبه.

ومن المهم تشجيع الطلاب على المناظرة وتبرير أفكارهم وتوظيف ذلك أثناء عمليات التعلم. فالجدل يهيئ الفرص أمام الطلاب لتحسين فهمهم للمحتوى، ويساعدهم على فرز المعلومات ذات الصلة عن المعلومات غير ذات صلة، ويزيد من القوة التفسيرية لمعرفتهم. ونظرا لأن الجدل يعد طريقة مناسبة لفهم وبحث مصداقية المعارف.

ثالثا – تعزيز ثقافة المناظرات لدى الطلاب في المدارس والجامعات: تنتشر ثقافة الجدل في البيئات المتحضرة، وكلما ارتقت ثقافة الفرد كلما زاد ميله إلى استخدام التحاور والجدل لحل صراعاته عوضا عن الوسائل الأخرى كالعنف.وفي هذا السياق، يجب أن تعمل المدارس والجامعات على تدريب الطلاب على ممارسة الجدل وتعليمهم تقاليد راسخة وقواعد محددة لممارسة الجدل تقوم على المنطق والاستدلال والتفكير الناقد، وهذا من شأنه أنيرفع من كفاءتهم في المناظرات العلمية والأكاديمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى